قوله تعالى : { قد مكر الذين من قبلهم } ، وهو نمرود بن كنعان ، بني الصرح ببابل ليصعد إلى السماء . قال ابن عباس ووهب : كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع . وقال كعب ومقاتل : كان طوله فرسخين ، فهبت ريح وألقت رأسه في البحر ، وخر عليهم الباقي وهم تحته ، ولما سقط الصرح تبلبلت السن الناس من الفزع يومئذ فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل ، وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية ، فذلك قولة تعالى :{ فأتى الله بنيانهم من القواعد } أي : قصد تخريب بنيانهم من أصولها ، { فخر عليهم السقف } يعني أعلى البيوت { من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } ، من مأمنهم .
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } قال : هو نمرود الذي{[16393]} بنى الصرح .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد نحوه .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم : أولُ جبار كان في الأرض نمرود ، فبعث الله عليه بَعُوضة ، فدخلت في منخرة ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه ، وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله . وهو الذي كان بنى صرحًا إلى السماء ، وهو الذي قال الله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ }
وقال آخرون : بل هو بختنصر . وذكروا من المكر الذي حكى الله هاهنا ، كما قال في سورة إبراهيم : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } [ إبراهيم : 46 ] .
وقال آخرون : هذا من باب المثل ، لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره ، كما قال نوح ، عليه السلام : { وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا } [ نوح : 22 ] أي : احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة ، كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } [ الآية ]{[16394]} [ سبأ : 33 ] .
وقوله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ } أي : اجتثه من أصله ، وأبطل عملهم ، وأصلها{[16395]} كما قال تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [ المائدة : 64 ] .
وقوله : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] .
وقال هاهنا : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ }
أي : يظهر فضائحهم ، وما كانت تُجنّه ضمائرهم ، فيجعله علانية ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] أي : تظهر وتشتهر{[16396]} ، كما في الصحيحين{[16397]} عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غَدْرَته ، فيقال : هذه غَدْرَة فلان بن فلان " {[16398]} .
وهكذا هؤلاء ، يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ، ويخزيهم الله على رءوس الخلائق ، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } تحاربون وتعادون في سبيلهم ، [ أي ]{[16399]} : أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا ؟ { هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } [ الشعراء : 93 ] ، { فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } [ الطارق : 10 ] . فإذا توجهت عليهم الحجة ، وقامت عليهم الدلالة ، وحقت عليهم الكلمة ، وأسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار{[16400]} { قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } - وهم السادة في الدنيا والآخرة ، والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة ، فيقولون حينئذ : { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : الفضيحة والعذاب اليوم [ محيط ]{[16401]} بمن كفر بالله ، وأشرك به ما لا يضره ولا ينفعه .
قال ابن عباس وغيره من المفسرين : الإشارة ب { الذين من قبلهم } إلى نمرود الذي بنى صرحاً ليصعد فيه إلى السماء على زعمه ، فلما أفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين على ما حكى النقاش ، بعث الله عليه رمحاً فهدمته ، «وخر سقفه » عليه وعلى أتباعه ، وقيل : جبريل هدمه بجناحه وألقى أعلاه في البحر وانحقف من أسفله ، وقالت فرقة أخرى : المراد ب { الذين من قبلهم } جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر ونزلت فيه عقوبة من الله تعالى ، وقوله على هذا { فأتى الله بنيانهم من القواعد } إلى آخر الآية ، تمثيل وتشبيه ، أي حالهم بحال من فعل به هذا ، وقالت فرقة : المراد بقوله { فخر عليهم السقف من فوقهم } أي جاءهم العذاب من قبل السماء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ينحو إلى اللعن ، ومعنى قوله { من فوقهم } رفع الاحتمال في قوله { فخر عليهم السقف } فإنك تقول انهدم على فلان بناؤه وهو ليس تحته ، كما تقول : انفسد عليه متاعه ، وقوله { من فوقهم } ألزم أنهم كانوا تحته . وقوله { فأتى } أي أتى أمر الله وسلطانه ، وقرأ الجمهور «بنيانهم » ، وقرأت فرقة «بنيتهم » ، وقرأ جعفر بن محمد «بيتهم » ، وقرأ الضحاك «بيوتهم » ، وقرأ الجمهور «السقْف » بسكون القاف ، وقرأت فرقة بضم القاف وهي لغة فيه ، وقرأ الأعرج «السُّقُف » بضم السين والقاف ، وقرأ مجاهد «السُّقْف » بضم السين وسكون القاف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قد مكر الذين من قبل هؤلاء المشركين الذين يصدّون عن سبيل الله من أراد اتباع دين الله، فراموا مغالبة الله ببناءٍ بَنَوه، يريدون بزعمهم الارتفاع إلى السماء لحرب من فيها...
"فأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ" فإن معناه: هدم الله بنيانهم من أصله. والقواعد: جمع قاعدة، وهي الأساس. وكان بعضهم يقول: هذا مثل للاستئصال وإنما معناه: إن الله استأصلهم. وقال: العرب تقول ذلك إذا استؤصل الشيء.
"فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ" اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: "فخرّ عليهم السقف من فوقهم": أعالي بيوتهم من فوقهم...
وقال آخرون: عنى بقوله: "فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ" أن العذاب أتاهم من السماء...
وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: معنى ذلك: تساقطت عليهم سقوف بيوتهم، إذ أتى أصولها وقواعدها أمر الله، فائتفكت بهم منازلهم لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان وخرّ السقف، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وُجِد إليه سبيل.
"وأتاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ" يقول تعالى ذكره: وأتى هؤلاء الذين مكروا من قَبْل مشركي قريش، عذاب الله من حيث لا يدرون أنه أتاهم منه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قد مكر الذين من قبلهم} (كانت ولم تزل) عادة الكفر بالمكر برسل الله والكيد لهم، وكذلك مكر كفار مكة برسول الله. يذكر هذا، والله أعلم لرسوله ليصبر على أذاهم كما صبر أولئك على مكر قومهم وترك مكافأتهم إياهم كقوله: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} (الأحقاف: 35) ثم مكرهم الذي كان يخرج على وجهين: أحدهما: في ما جاءت به الرسل كانوا يتكلفون تلبيس ما جاءت به الرسل على قومهم. والثاني: يرجع مكرهم إلى أنفس الرسل من الهم بقتلهم وإخراجهم من بين أظهرهم ونحوه. فخوف بذلك أهل مكة بصنيعهم لرسول الله أن ينزل بهم كما نزل بأولئك الذين مكروا برسلهم لئلا يعاملوه بمثل معاملة أولئك رسلهم، والله أعلم. وقوله تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} قال الحسن: هذا على التمثيل بالبناء الذي بني على غير أساس؛ ينهدم، ولا يعلم من أي سبب انهدم. فعلى ذلك مكرهم يبطل، ويتلاشى كالبناء الذي بني على غير أساس؛ ويشبه أن يكون على التمثيل من غير هذا الوجه؛ هو أنهم قد مكروا، وأحكموا مكرهم بهم، فيتحصنون بذلك البناء الذي يتحصن به، فأبطل الله مكرهم، كقوله: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا} الآية (النمل: 50) وقوله: {ومكروا ومكر الله} الآية.
وقوله تعالى: {فخر عليهم السقف من فوقهم} هو ما ذكرنا من إبطال مكرهم الذي به كانوا يتحصنون كوقوع السقف الذي به يتحصن من أنواع الأذى والشرور. ويحتمل على التحقيق، وهو ما نزل بقوم لوط من الخسف وتقليب البنيان وإمطار الحجر عليهم. وأما ما ذكر بعض أهل التأويل من الصرح الذي بنى نمرود وبنيانه ووقوعه عليهم فإنا لا نعلم ذلك.
وقوله تعالى: {وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} كذلك يأتي العذاب الظلمة الكَذبة من حيث لا علم لهم بذلك كقوله: {فأخذتهم بغتة} الآية (الأعراف: 95 {فأتى الله بنيانهم من القواعد} هو من الإتيان. ومعلوم أنه لا يفهم من إتيانه الانتقال من مكان إلى مكان، ولكن إتيان عذابه؛ أضيف إليه الإتيان لما بأمره يأتيهم ومنه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
اتصفوا بالمكر فحاق بهم مَكْرُهم، ووقعوا فيم حفروه لغيرهم، واغتروا بطول الإمهال، فأخذهم العذابُ من مأْمَنِهم، واشتغلوا بِلهوهِم فَنَغَّصَ عليهم أطيب عَيْشهم: قوله جلّ ذكره: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}. الذي وصف نفسه به في كتابه من الإتيان فمنعاه العقوبة، وذلك على عادة العرب في التوسع في الخطاب. وهو سبحانه يكشف الليلَ ببَدْره ثم يأخذ الماكر بما يليق بمَكْره...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
القواعد: أساطين البناء التي تعمده. وقيل: الأساس وهذا تمثيل، يعني: أنهم سووا منصوبات ليمكروا بها الله ورسوله، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات، كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا. ونحوه: من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الذين من قبلهم} جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر ونزلت فيه عقوبة من الله تعالى..
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"فأتى الله بنيانهم من القواعد "المعنى: أحبط الله أعمالهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه."
"وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون "أي: من حيث ظنوا أنهم في أمان.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان المراد من هذا الاستكبار محو الحق وإخفاء أمره من غير تصريح بالعناد -بل مع إقامة شبه ربما راجت- وإن اشتد ضعفها -على عقول هي أضعف منها، وكأن هذا حقيقة المكر التي هي التغطية والستر كما بين في الرعد عند قوله تعالى: (بل زين للذين كفروا مكرهم} [الرعد: 23] شرع يهدد الماكرين ويحذرهم وقوع ما وقع بمن كانوا أكثر منهم عدداً وأقوى يداً، ويرجي المؤمنين في نصرهم عليهم، بما له من عظيم القوة وشديد السطوة، فقال تعالى: {قد مكر الذين} ولما كان المقصود بالإخبار ناساً مخصوصين لم يستغرقوا زمان القبل، أدخل الجار فقال تعالى: {من قبلهم} ممن رأوا آثارهم ودخلوا ديارهم {فأتى الله} أي بما له من مجامع العظمة {بنيانهم} أي إتيان بأس وانتقام {من القواعد} التي بنوا عليها مكرهم {فخر} أي سقط مع صوت عظيم لهدته {عليهم السقف}.
ولما كان المكر هو الضر في خفية، لأنه القتل بالحيلة إلى جهة منكرة، بين أن ما حصل لهم من العذاب هو من باب ما فعلوا بقوله: {وأتاهم العذاب} أي الذي اتفقت كلمة الرسل على الوعيد به لمن أبى {من حيث لا يشعرون} لأن السبب الذي أعدوه لنصرهم كان بعينه سبب قهرهم...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} أي سقط عليهم سقفُ بنيانهم إذ لا يتصور له القيامُ بعد تهدّم القواعدِ...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
ومعنى المكر هنا الكيد والتدبير الذي لا يطابق الحق..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فقد كانت حرب دعاية منظمة يديرها قريش على الدعوة، ويديرها أمثال قريش في كل زمان ومكان من المستكبرين الذين لا يريدون الخضوع للحق والبرهان، لأن استكبارهم يمنعهم من الخضوع للحق والبرهان. فهؤلاء المستكبرون من قريش ليسوا أول من ينكر، وليسوا أول من يمكر. والسياق يعرض عليهم نهاية الماكرين من قبلهم، ومصيرهم يوم القيامة، بل مصيرهم منذ مفارقة أرواحهم لأجسادهم حتى يلقوا في الآخرة جزاءهم. يعرض عليهم هذا كله في مشاهد مصورة على طريقة القرآن المأثورة...
(قد مكر الذين من قبلهم) والتعبير يصور هذا المكر في صورة بناء ذي قواعد وأركان وسقف إشارة إلى دقته وإحكامه ومتانته وضخامته. ولكن هذا كله لم يقف أمام قوة الله وتدبيره: (فأتى الله بنيانهم من القواعد، فخر عليهم السقف من فوقهم) وهو مشهد للتدمير الكامل الشامل، يطبق عليهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فالقواعد التي تحمل البناء تحطم وتهدم من أساسها، والسقف يخر عليهم من فوقهم فيطبق عليهم ويدفنهم.
(وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) فإذا البناء الذي بنوه وأحكموا واعتمدوا على الاحتماء فيه. إذا هو مقبرتهم التي تحتويهم، ومهلكتهم التي تأخذهم من فوقهم ومن أسفل منهم. وهو الذي اتخذوه للحماية ولم يفكروا أن يأتيهم الخطر من جهته! إنه مشهد كامل للدمار والهلاك، وللسخرية من مكر الماكرين وتدبير المدبرين، الذين يقفون لدعوة الله، ويحسبون مكرهم لا يرد، وتدبيرهم لا يخيب، والله من ورائهم محيط! وهو مشهد مكرر في الزمان قبل قريش وبعدها. ودعوة الله ماضية في طريقها مهما يمكر الماكرون، ومهما يدبر المدبرون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولما كان جوابهم السائلين عن القرآن بقولهم هو {أساطير الأولين} [سورة النحل: 24] مظهرينه بمظهر النصيحة والإرشاد وهم يريدون الاستبقاء على كفرهم، سمّي ذلك مكراً بالمؤمنين، إذ المكر إلحاق الضرّ بالغير في صورة تمويهه بالنّصح والنّفع، فنُظّر فعلهم بمكر من قبلهم، أي من الأمم السابقة الذين مكروا بغيرهم... {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون} [سورة الأنعام: 123]. فالتعريف بالموصول في قوله تعالى: {الذين من قبلهم} مساوٍ للتعريف بلام الجنس. وقوله تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} تمثيل لحالات استئصال الأمم، فالبنيان مصدر بمعنى المفعول. أي المبنى، وهو هنا مستعار للقوّة والعزّة والمنعة وعلوّ القدر.
والمعنى أن العذاب المذكور حلّ بهم بغتة وهم لا يشعرون فإن الأخذ فَجْأ أشدّ نكاية لما يصحبه من الرّعب الشديد بخلاف الشيء الوارد تدريجاً فإنّ النّفس تتلقّاه بصبر.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فحاولوا أن يدبّروا المكائد، ويخطّطوا لتهديم أسس العقيدة التوحيدية، في فكر الإنسان وحياته. ولكن الله عطل كل مؤامراتهم من حيث لا يشعرون {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ} فهدّم كل ركائزهم الفكرية، من الكفر والشرك والضلال، في الفكرة والمنهج والأسلوب، وذلك من خلال قوّة الركائز التي انطلق منها الإيمان والتوحيد والرشاد. {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} لأنّ أيّ سقف، مهما كانت قوّته، لا يمكن أن يحمي صاحبه، إذا ارتكز على قاعدةٍ منهارةٍ، لأنه لا يحمي نفسه. ويريد الله بذلك أن ينبه أية جماعة تتطلع إلى الامتداد الواسع عبر فكرة معينة أو محور معين، أن كل ما تحققه سوف ينهار ويسقط إذا سقطت القاعدة التي يرتكز عليها. {وَأَتاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} فهو العذاب الذي يتنوّع في طبيعته وفي شكله، حسب مقتضيات الحكمة الإلهية في ما ينزله على الكافرين من صنوف البلاء الذي يتحوّل إلى حالةٍ من العذاب، بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ تُذكر الآية الأُخرى أن تهمة وصف الوحي الإِلهي بأساطير الأوّلين ليست بالأمر المستجد: (قد مكر الذين من قبلهم فأتى اللّه بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون). مع أنّ بعض المفسّرين قد ذهب بالآية إلى قصة «النمرود» وصرحه الذي أراد من خلاله محاربة رب السماء! والبعض الآخر فسرها بقصة «بخت نصر».. إِلاّ أن الظاهر من مفهوم الآية شمول جميع مؤامرات ودسائس المستكبرين وأئمّة الضلال.
وقدم لنا التاريخ قديمه وحديثه بوضوح صوراً شتى للعقاب الإِلهي، فإِحكام الطغاة والجبابرة لما يعيشون ويتمتعون في كنفه من حصون وقلاع، إِضافة لخططهم المحبوكة كي يستمر لهم ولنسلهم الحال، وما قاموا به من تهيئة وإِعداد كل مستلزمات بقاء قدرة التسلط ودوام نظام الحكم.. كل ذلك لا يعبر في الحقيقة إِلاّ عن ظواهر خاوية من كل معاني القدرة والاقتدار والدوام، حيث تحكي لنا قصص التاريخ أنّ هؤلاء يأتيهم العذاب الإِلهي وهم بذروة ما يتمتعون به، وإِذا بالقلاع والحصون تتهاوى على رؤوسهم فيفنون ولا تبقى لهم باقية.