اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنۡيَٰنَهُم مِّنَ ٱلۡقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّقۡفُ مِن فَوۡقِهِمۡ وَأَتَىٰهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَشۡعُرُونَ} (26)

قوله تعالى : { قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ } ذكر هذه الآية مبالغة في وصف أولئك الكفار .

قال بعض المفسرين : المراد بالذين من قبلهم نمرودُ بن كنعان بنى صَرْحاً عظيماً بِبَابلَ طوله خمسة آلافِ ذراع ، وعرضه ثلاثة آلافِ ذراع - وقيل : فرسخاً - ورام منه الصُّعودَ إلى السماء ؛ ليقاتل أهلها ، فَهَبَّتْ ريحٌ وألقت رأسها في البحر ، وخَرَّ عليهم الباقي وهم تحته ، ولما سقط الصَّرحُ تبلبلت ألسن النَّاس من الفزع يومئذ ؛ فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً ؛ فلذلك سمِّيت بابل ، وكانوا يتكلمون قبل ذلك بالسريانية ؛ فذلك قوله تعالى : { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد } أي : قصد تخريب بنيانهم من أصولها .

والصحيح : أنَّ هذا عامٌّ في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضَّرر والمكر بالمحقِّين .

واعلم أنَّ الإتيان ها هنا عبارةٌ عن إتيان العذاب ، أي : أنهم لمَّا كفروا ؛ أتاهم الله بزلزال تقلقلتْ منها بنيانهم من القواعد ، والأساس ؛ والمراد بهذا محض التَّمثيلِ والمعنى : أنَّهم رتبوا منصوباتٍ ؛ ليمكروا بها أنبياء الله ؛ فجعل هلاكهم مثل قوم بنوا بنياناً ، وعمدوه بالأساطين ، فانهدم ذلك البناءُ ، وسقط السقف عليهم ؛ كقولهم : " مَنْ حَفَرَ بِئْراً لأخِيهِ أوْقعَهُ اللهُ فِيهِ " .

وقيل : المراد منه ما دل عليه الظاهر .

قوله تعالى : { مِّنَ الْقَوَاعِدِ } " مِن " لابتداءِ الغايةِ ، أي : من ناحية القواعد ، أي : أتى أمر الله وعذابه .

قوله " مِنْ فَوقِهِمْ " يجوز أن يتعلَّق ب " خَرَّ " ، وتكون " مِن " لابتداءِ الغاية ، ويجوز يتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من " السَّقف " وهي حال مؤكدة ؛ إذ " السَّقفُ " لا يكون تحتهم .

وقيل : ليس قوله : " مِنْ فَوقِهِمْ " تأكيدٌ ؛ لأنَّ العرب تقول : " خَرَّ عَليْنَا سَقفٌ ، ووقَعَ عَليْنَا حَائِطٌ " إذا كان عليه ، وإن لم يقع عليه ، فجاء بقوله " مِنْ فَوْقِهِم " ليخرج به هذا الذي في كلام العرب ، أي : عليهم وقع ، وكانوا تحته فهلكوا .

وهذا غير طائل ، والقول بالتوكيد أظهر .

وقرأ العامة : " بُنْيَانَهُمْ " ، وقوم{[19785]} : بُنْيَتَهُمْ ، وفرقة منهم{[19786]} أبو جعفر : بَيْتَهُم . والضحاك{[19787]} : بُيوتَهُم .

والعامة : " السَّقْفُ " أيضاً مفرداً ، وفرقة : بفتح السِّين ، وضمِّ القاف بزنة " عَضُد " وهي لغة في " السَّقفِ " ولعلَّها مخففة من المضموم ، وكثر استعمال الفرع ؛ لخفَّته ، كقولهم في لغة تميم " رَجْلٌ " ولا يقولون : رَجُلٌ .

وقرأ الأعرج{[19788]} : " السُّقُف " بضمتين ، وزيد{[19789]} بن علي : بضم السين ، وسكون القاف ، وقد تقدم مثل ذلك في قراءة { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] ثم قال : { وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } إن حملنا الكلام على محض التمثيل ؛ فالمعنى : أنَّهُمْ اعتمدوا على منصوباتهم ، ثم تولَّد البلاء منها بأعيانها ، وإن حملناه على الظاهر ، فالمعنى : أن السَّقف نزل عليهم بغتة .


[19785]:ينظر: البحر المحيط 5/471، والمحرر الوجيز 3/400 والدر المصون 4/321 ـ 332.
[19786]:ينظر: السابق.
[19787]:ينظر: السابق.
[19788]:وقرأ بها أيضا ابن محيصن وابن هرمز ينظر: الإتحاف 2/182، والقرطبي 10/65، والبحر 5/471 والدر المصون 4/322.
[19789]:وقرأ بها أيضا مجاهد ينظر: القرطبي 10/65؛ والبحر 5/471، والدر المصون 4/322.