فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنۡيَٰنَهُم مِّنَ ٱلۡقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّقۡفُ مِن فَوۡقِهِمۡ وَأَتَىٰهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَشۡعُرُونَ} (26)

{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ( 26 ) } .

ثم حكى سبحانه حال أضرابهم من المتقدمين فقال :

{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ ابن كنعان حيث بنى بناء عظيما ببابل طوله في السماء خمسة آلاف ذراع ؛ وقيل فرسخان ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها فأهب الله الريح فخر ذلك البناء عليه وعلى قومه فهلكوا ، وكان أعظم أهل الأرض تجبرا في زمن إبراهيم عليه السلام ، ونمروذ بضم النون والذال المعجمة وهو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة .

والأولى أن الآية عامة في جميع المبطلين الماكرين الذين يحاولون إلحاق الضر بالمحقين المؤمنين ، ومعنى المكر هنا الكيد والتدبير الذي لا يطابق الحق ، وفي هذا وعيد للكفار المعاصرين له صلى الله عليه وآله وسلم بأن مكرهم سيعود عليهم كما عاد مكر من قبلهم على أنفسهم .

{ فَأَتَى اللّهُ } أي أتى أمر الله وهو الريح التي أخرجت { بُنْيَانَهُم } قال المفسرون أرسل الله ريحا فألقت رأس الصرح في البحر وخر عليهم الباقي بالزلزلة من أسفله فأهلكهم وهم تحته { مِّنَ الْقَوَاعِدِ } .

قال الزجاج : أي من الأساطين ، وقيل من أصوله وأساسه بكسر الهمزة جمع أس وأما بالفتح فجمعه أسس بضمتين قيل لما سقط تبلبلت ألسن الناس بالفزع فتكلموا يومئذ بثلاث وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل .

وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية هكذا ذكره البغوي وفي هذا نظر لأن صالحا كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية ، وكان أهل اليمن عربا منهم جرهم الذي نشأ إسماعيل بينهم وتعلم منهم العربية وكان قبائل من العرب قديمة قبل إبراهيم كل هؤلاء عرب ، والمعنى أنه أتاها أمر الله من جهة قواعدها فزعزعها .

{ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ } بفتح السين وضمها مع سكون القاف وبضمها وضم القاف أي أنه سقط عليهم السقف لأنه بعد سقوط قواعد البناء يسقط جميع ما هو معتمد عليها قال ابن الأعرابي وإنما قال : { مِن فَوْقِهِمْ } ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته والعرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه فجاء بقوله : { مِن فَوْقِهِمْ } ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب فقال من فوقهم أي عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا وقيل هو للتأكيد لأن السقف لا يخر إلا من فوق ، وقيل إن المراد بالسقف السماء أي أتاهم العذاب من السماء التي فوقهم .

وقد اختلف في هؤلاء الذين خر عليهم السقف فقيل هو نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح ، قاله ابن عباس ، وعن مجاهد نحوه ، وقيل إنه بختنصر وأصحابه ، وقيل هم المقتسمون الذين تقدم ذكرهم في سورة الحجر .

وقيل المعنى على العموم يعني أنهم لما رتبوا منصوبات ليمكروا بها على أنبياء الله وأهل الحق من عباده أهلكهم الله وجعل هلاكهم مثل هلاك قوم بنوا بنيانا وثيقا شديدا ودعموه بالأساطين فانهدم ذلك البنيان وسقط عليهم فأهلكهم ، فهو مثل ضربه لمن مكر بآخر فأهلكه الله بمكره ومنه المثل السائر على ألسنة الناس : من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه ، وهذا ما اختاره القاضي كالكشاف ، والأول أولى ، ومع ذلك العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، قال قتادة : أتاها أمر الله من أصلها فخر عليهم السقف من فوقهم والسقف أعالي البيوت فائتفكت بهم بيوتهم فأهلكهم الله ودمرهم .

{ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ } أي الهلاك { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } به بل من حيث أنهم في أمان لا يخطر العذاب ببالهم .