قال النسائي : حدثنا محمد بن النضر بن مساور ، حدثنا حماد ، عن مروان أبي لبابة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول : ما يريد أن يفطر . ويفطر حتى نقول : ما يريد أن يصوم . وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر .
يخبر تعالى أن تنزيل هذا الكتاب - وهو القرآن العظيم - من عنده ، تبارك وتعالى ، فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ، كما قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [ الشعراء : 192 - 195 ] .
وقال : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ، 41 ] . وقال هاهنا : { تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ } أي : المنيع الجناب ، { الْحَكِيمِ } أي : في أقواله وأفعاله ، وشرعه ، وقدره .
سميت { سورة الزمر } من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد روى الترمذي عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل . وإنما سميت سورة الزمر لوقوع هذا اللفظ فيها دون غيرها من سورة القرآن .
وفي تفسير القرطبي عن وهب بن منبه أنه سماها سورة الغرف وتناقله المفسرون . ووجهه أنها ذكر فيها لفظ الغرف ، أي بهذه الصيغة دون الغرفات ، في قوله تعالى { لهم غرف من فوقها غرف } الآية .
وهي مكية كلها عند الجمهور وعن ابن عباس أن قوله تعالى { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } الآيات الثلاث . وقيل : إلى سبع آيات نزلت بالمدينة في قصة ، وحشي قاتل حمزة ، وسنده ضعيف ، وقصته عليها مخائل القصص .
وعن عمر بن الخطاب أن تلك الآيات نزلت بالمدينة في هشام بن العاصي بن وائل إذ تأخر عن الهجرة إلى المدينة بعد أن استعد لها . وفي رواية : أن معه عياش ابن أبي ربيعة وكانا تواعدا على الهجرة إلى المدينة ففتنا فافتتنا .
والأصح أنها نزلت في المشركين كما سيأتي عند تفسيرها ، وما نشأ القول بأنها مدنية إلا لما روي فيها من القصص الضعيفة .
وقيل : نزل أيضا في قوله تعالى { قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم } الآية بالمدينة .
وعن ابن عباس أن قوله تعالى { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها } الآية نزل بالمدينة .
فبلغت الآيات المختلف فيها تسع آيات .
والمتجه : أنها كلها مكية وأن ما يخيل أنه نزل في قصص معينة إن صحت أسانيده أن يكون وقع التمثل به في تلك القصص فأشتبه على بعض الرواة بأنه سبب نزول .
وسيأتي عند قوله تعالى { وأرض الله واسعة } أنها نزلت قبيل هجرة المؤمنين إلى الحبشة ، أي في سنة خمس قبل الهجرة .
وهي السورة التاسعة والخمسون في ترتيب النزول على المختار ، نزلت بعد سورة سبا وقبل سورة غافر .
وعدت آيتها عند المدنيين والمكيين والبصريين اثنتين وسبعين ، وعند أهل الشام ثلاثا وسبعين ، وعند أهل الكوفة خمسا وسبعين .
ابتدئت هذه السورة بما هو كالمقدمة للمقصود ، وذلك بالتنويه بشأن القرآن تنويها تكرر في ستة مواضع{[1]} من هذه السورة لأن القرآن جامع لأغراضها .
وأغراضها كثيرة تحوم حول إثبات تفرد الله بالإلهية وإبطال الشرك فيها .
وإبطال تعللات المشركين لإشراكهم وأكاذيبهم .
ونفي ضرب من ضروب الإشراك إلى زعمهم أن لله ولدا .
والاستدلال على وحدانية الله في الإلهية بدلائل تفرده بإيجاد العوالم العلوية والسفلية ، وبتدبير نظامها وما تحتوي عليه مما لا ينكر المشركون انفراده به .
والخلق العجيب في أطوار تكوين الإنسان والحيوان .
والاستدلال عليهم بدليل من فعلهم وهو التجاؤهم إلى الله عندما يصيبهم الضر .
والدعوة إلى التدبر فيما يلقى إليهم من القرآن الذي هو أحسن القول .
وتنبيههم على كفرانهم شكر النعمة .
والمقابلة بين حالهم وبين حال المؤمنين المخلصين لله .
وأن دين التوحيد هو الذي جاءت به الرسل من قبل .
والتحذير من أن يحل بالمشركين ما حل بأهل الشرك من الأمم الماضية .
وإعلام المشركين بأنهم وشركاءهم لا يعبأ بهم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم فالله غني عن عبادتهم ، ورسوله لا يخشاهم ولا يخاف أصنامهم لأن الله كفاه إياهم جميعا .
وإثبات البعث والجزاء لتجزى كل نفس بما كسبت .
وتمثيل البعث بإحياء الأرض بعد موتها . وضرب لهم مثله والإفاقة بعده وأنه يوم الفصل بين المؤمنين والمشركين .
وتمثيل حال المؤمنين وحال المشركين في الحياتين الحياة الدنيا والحياة الآخرة .
ودعاء المشركين للإقلاع عن الإسراف على أنفسهم ، ودعاء المؤمنين للثبات على التقوى ومفارقة دار الكفر . وختمت بوصف حال يوم الحساب .
وتخلل ذلك كله وعيد ووعد ، وأمثال ، وترهيب وتريب ، ووعظ وإيماء بقوله { قل هل يستوي الذين يعلمون } الآية إلى أن شأن المؤمنين أنهم أهل علم وأن المشركين أهل جهالة ، وذلك تنويه برفعة العلم ومذمة الجهل .
فاتحة أنيقة في التنويه بالقرآن جعلت مقدمة لهذه السورة لأن القرآن جامع لما حوته وغيره من أصول الدين .
ف { تَنزِيلُ } مصدر مراد به معناه المصدريّ لا معنى المفعول ، كيف وقد أضيف إلى الكتاب وأصل الإِضافة أن لا تكون بيانية .
وتنزيل : مصدر نزّل المضاعف وهو مشعر بأنه أنزله منجّماً . واختيار هذه الصيغة هنا للرد على الطاعنين لأنهم من جملة ما تعلّلوا به قولهم : { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] . وقد تقدم الفرق بين المضاعف والمهموز في مثله في المقدمة الأولى .
والتعريف في { الكتاب } للعهد ، وهو القرآن المعهود بينهم عند كل تذكير وكل مجادلة . وأجرى على اسم الجلالة الوصف ب { العزيز الحكيمِ } للإِيماء إلى أن ما ينزل منه يأتي على ما يناسب الصفتين ، فيكون عزيزاً قال تعالى : { وإنه لكتاب عزيز } [ فصلت : 41 ] ، أي القرآن ، عزيز غالب بالحجة لمن كذّب به ، وغالب بالفضل لما سواه من الكتب من حيث إن الغلبة تستلزم التفضل والتفوق ، وغالب لبلغاء العرب إذ أعجزهم عن معارضة سورة منه ، ويكون حكيماً مثل صفة منزِّله .
والحكيم : إمّا بمعنى الحاكم ، فالقرآن أيضاً حاكم عن معارضيه بالحجة ، وحاكم على غيره من الكتب السماوية بما فيه من التفصيل والبيان قال تعالى : { مصدقاً لمن بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } [ المائدة : 48 ] .
وإمّا بمعنى : المحكِم المتقِن ، فالقرآن مشتمل على البيان الذي لا يحتمل الخطأ ، وإما بمعنى الموصوف بالحكمة ، فالقرآن مشتمل على الحكمة كاتصاف منزّله بها . وهذه معان مرادة من الآية فيما نرى ، على أن في هذين الوصفين إيماء إلى أن القرآن معجز ببلاغة لفظه وبإعجازه العلمي ، إذا اشتمل على علوم لم يكن للناس علم بها كما بيّناه في المقدمة العاشرة .
وفي وصف { الحَكِيمِ } إيماء إلى أنه أنزله بالحكمة وهي الشريعة { يؤتي الحكمة من يشاء } [ البقرة : 269 ] . وفي هذا إرشاد إلى وجود التدبر في معاني هذا الكتاب ليتوصل بذلك التدبر إلى العلم بأنه حق من عند الله ، قال تعالى : { سنريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [ فصلت : 53 ] .
ومعنى { العَزيزِ الحكيمِ } في صفات الله تقدم في تفسير قوله تعالى : { فإن زللتم من بعد ما جاءئكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم } في سورة [ البقرة : 209 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
سورة الزمر مكية، إلا ثلاث آيات فيها نزلت في وحشي بن زيد وأصحابه بالمدينة، وهن قوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} إلى قوله: {وأنتم لا تشعرون} [الآيات: 53-54].
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
سورة الزمر وتسمى أيضا (سورة الغرف) وهي مكية.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه السورة مكية بإجماع، غير ثلاث آيات نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهي: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} الآيات، وقالت فرقة: بل إلى آخر السورة هو مدني، وقيل: فيها مدني سبع آيات.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال النسائي: حدثنا محمد بن النضر بن مساور، حدثنا حماد، عن مروان أبي لبابة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: ما يريد أن يفطر. ويفطر حتى نقول: ما يريد أن يصوم. وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
سميت بها لاشتمالها على الآية التي ذكر فيها زمر الفريقين، المشيرة إلى تفصيل الجزاء وإلزام الحجة وبطلان المعذرة، وهذا من أعظم مقاصد القرآن، قاله المهايميّ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة تكاد تكون مقصورة على علاج قضية التوحيد. وهي تطوف بالقلب البشري في جولات متعاقبة؛ وتوقع على أوتاره إيقاعات متلاحقة؛ وتهزه هزاً عميقاً متواصلاً لتطبع فيه حقيقة التوحيد وتمكنها، وتنفي عنه كل شبهة وكل ظل يشوب هذه الحقيقة. ومن ثم فهي ذات موضوع واحد متصل من بدئها إلى ختامها؛ يعرض في صور شتى.
ومنذ افتتاح السورة تبرز هذه القضية الواحدة التي تكاد السورة تقتصر على علاجها: تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين. ألا لله الدين الخالص... الخ... وتتردد في مقاطعها على فترات متقاربة فيها إما نصاً. وإما مفهوماً..
نصاً كقوله: قل: إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين. وأمرت لأن أكون أول المسلمين. قل: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. قل: الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه... الخ.. أو قوله: (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون؟ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين).
ومفهوماً كقوله: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون، ورجلا سلما لرجل. هل يستويان مثلاً: الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون).. أو قوله: (أليس الله بكاف عبده؟ ويخوفونك بالذين من دونه، ومن يضلل الله فما له من هاد، ومن يهد الله فما له من مضل. أليس الله بعزيز ذي انتقام؟)..
وإلى جانب حقيقة التوحيد التي تعالج السورة أن تطبعها في القلب وتمكنها نجد في السورة توجيهات وإيحاءات لإيقاظ هذا القلب واستجاشته وإثارة حساسيته، وإرهافه للتلقي والتأثر والاستجابة. ذلك كقوله: والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى. فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب.. (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله: ذلك هدى الله يهدي به من يشاء. ومن يضلل الله فما له من هاد).. (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه، ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل. وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله. قل: تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار)..
وهناك ظاهرة ملحوظة في جو السورة.. إن ظل الآخرة يجللها من أولها إلى آخرها. وسياقها يطوّف بالقلب البشري هناك في كل شوط من أشواطها القصيرة؛ ويعيش به في ظلال العالم الآخر معظم الوقت! وهذا هو مجال العرض الأول فيها والمؤثر البارز المتكرر في ثناياها. ومن ثم تتلاحق فيها مشاهد القيامة أو الإشارة إليها في كل مقطع من مقاطعها الكثيرة. مثل هذه الإشارات: (أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه؟).. (قل: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم).. (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار؟).. (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة؟).. (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون).. (أليس في جهنم مثوى للكافرين؟).. (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة؛ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون).. (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون. واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغته وأنتم لا تشعرون. أن تقول نفس: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين. أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين. أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين..).. وهذا غير المشاهد الكاملة التي تشغل حيزاً من السورة كبيراً، وتظلل جوها بظلال الآخرة.
أما المشاهد الكونية التي لاحظنا كثرتها وتنوعها في السور المكية في ثنايا عرضها لحقائق العقيدة فهي قليلة في هذه السورة..
هنالك مشهد كوني يرد في مطلعها: (خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى. ألا هو العزيز الغفار)..
ومشهد آخر في وسطها: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض؛ ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه؛ ثم يهيج فتراه مصفراً؛ ثم يجعله حطاماً؟ إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب)..
وهناك إشارات سريعة إلى خلق السماوات والأرض غير هذين المشهدين البارزين.
كذلك تتضمن السورة لمسات من واقع حياة البشر، وفي أغوار نفوسهم، تتوزع في ثناياها.
يرد في مطالعها عن نشأة البشرية: (خلقكم من نفس واحدة؛ ثم جعل منها زوجها. وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج. يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث. ذلكم الله ربكم له الملك. لا إله إلا هو، فأنى تصرفون؟).
ويرد عن طبيعة النفس البشرية في الضراء والسراء: وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه؛ ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل... الخ.. (فإذا مس الإنسان ضر دعانا؛ ثم إذا خولناه نعمة منا قال: إنما أوتيته على علم بل هي فتنة..)..
ويرد في تصوير أنفس البشر في قبضة الله في كل حالة: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها؛ فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)..
ولكن ظل الآخرة وجوها يظل مسيطراً على السورة كلها كما أسلفنا. حتى تختم بمشهد خاشع يرسم ظل ذلك اليوم وجوه: (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم، وقضي بينهم بالحق، وقيل: الحمد لله رب العالمين).
هذا الظل يتناسق مع جو السورة، ولون اللمسات التي تأخذ القلب البشري بها. فهي أقرب إلى جو الخشية والخوف والفزع والارتعاش. ومن ثم نجد الحالات التي ترسمها للقلب البشري هي حالات ارتعاشه وانتفاضه وخشيته. نجد هذا في صورة القانت (آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه). وفي صورة الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم لهذا القرآن ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. كما نجده في التوجيه إلى التقوى والخوف من العذاب، والتخويف منه: (قل: يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم). (قل: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم).. (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل. ذلك يخوف الله به عباده. يا عباد فاتقون).. ثم نجده في مشاهد القيامة وما فيها من فزع ومن خشية، وما فيها كذلك من إنابة وخشوع.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت سورة الزمر من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الترمذي عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل. وإنما سميت سورة الزمر لوقوع هذا اللفظ فيها دون غيرها من سورة القرآن...
وهي مكية كلها عند الجمهور وعن ابن عباس أن قوله تعالى {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} الآيات الثلاث. وقيل: إلى سبع آيات نزلت بالمدينة في قصة، وحشي قاتل حمزة، وسنده ضعيف، وقصته عليها مخائل القصص.
وعن عمر بن الخطاب أن تلك الآيات نزلت بالمدينة في هشام بن العاصي بن وائل إذ تأخر عن الهجرة إلى المدينة بعد أن استعد لها. وفي رواية: أن معه عياش ابن أبي ربيعة وكانا تواعدا على الهجرة إلى المدينة ففتنا فافتتنا.
والأصح أنها نزلت في المشركين كما سيأتي عند تفسيرها، وما نشأ القول بأنها مدنية إلا لما روي فيها من القصص الضعيفة.
وقيل: نزل أيضا في قوله تعالى {قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم} الآية بالمدينة.
وعن ابن عباس أن قوله تعالى {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها} الآية نزل بالمدينة.
فبلغت الآيات المختلف فيها تسع آيات.
والمتجه: أنها كلها مكية وأن ما يخيل أنه نزل في قصص معينة إن صحت أسانيده أن يكون وقع التمثل به في تلك القصص فأشتبه على بعض الرواة بأنه سبب نزول.
وسيأتي عند قوله تعالى {وأرض الله واسعة} أنها نزلت قبيل هجرة المؤمنين إلى الحبشة، أي في سنة خمس قبل الهجرة...
ابتدئت هذه السورة بما هو كالمقدمة للمقصود، وذلك بالتنويه بشأن القرآن تنويها تكرر في ستة مواضع 6 من هذه السورة لأن القرآن جامع لأغراضها.
وأغراضها كثيرة تحوم حول إثبات تفرد الله بالإلهية وإبطال الشرك فيها.
وإبطال تعللات المشركين لإشراكهم وأكاذيبهم.
ونفي ضرب من ضروب الإشراك إلى زعمهم أن لله ولدا.
والاستدلال على وحدانية الله في الإلهية بدلائل تفرده بإيجاد العوالم العلوية والسفلية، وبتدبير نظامها وما تحتوي عليه مما لا ينكر المشركون انفراده به.
والخلق العجيب في أطوار تكوين الإنسان والحيوان.
والاستدلال عليهم بدليل من فعلهم وهو التجاؤهم إلى الله عندما يصيبهم الضر.
والدعوة إلى التدبر فيما يلقى إليهم من القرآن الذي هو أحسن القول.
وتنبيههم على كفرانهم شكر النعمة.
والمقابلة بين حالهم وبين حال المؤمنين المخلصين لله.
وأن دين التوحيد هو الذي جاءت به الرسل من قبل.
والتحذير من أن يحل بالمشركين ما حل بأهل الشرك من الأمم الماضية.
وإعلام المشركين بأنهم وشركاءهم لا يعبأ بهم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم فالله غني عن عبادتهم، ورسوله لا يخشاهم ولا يخاف أصنامهم لأن الله كفاه إياهم جميعا.
وإثبات البعث والجزاء لتجزى كل نفس بما كسبت.
وتمثيل البعث بإحياء الأرض بعد موتها. وضرب لهم مثله والإفاقة بعده وأنه يوم الفصل بين المؤمنين والمشركين.
وتمثيل حال المؤمنين وحال المشركين في الحياتين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
ودعاء المشركين للإقلاع عن الإسراف على أنفسهم، ودعاء المؤمنين للثبات على التقوى ومفارقة دار الكفر. وختمت بوصف حال يوم الحساب.
وتخلل ذلك كله وعيد ووعد، وأمثال، وترهيب وتريب، ووعظ وإيماء بقوله {قل هل يستوي الذين يعلمون} الآية إلى أن شأن المؤمنين أنهم أهل علم وأن المشركين أهل جهالة، وذلك تنويه برفعة العلم ومذمة الجهل.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في السورة دعوة إلى الله وحده وتنويه بقدرته وعظمة مشاهد الكون، وحكاية لبعض عقائد المشركين وأقوالهم وحملة عليهم ومقايسات بين المؤمنين والكافرين، وتنويه بالقرآن وأثره في النفوس الطيبة، وتصوير رائع للبعث والقضاء بين الناس. وقد تخلل آيات السورة أمثال ومواعظ ومبادئ عامة، وتلهم بعض آياتها أن فيها إذنا للمؤمنين بالهجرة. والمقايسات التي فيها جاءت بأسلوب نظمي خاص يجعله خصوصية من خصوصيات السورة. وفصولها مترابطة تسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه السورة نزلت في مكّة المكرمة، ولهذا السبب فإنّها تتطرق للقضايا المتعلقة بالتوحيد والمعاد، وأهميّة القرآن، ومقام نبوّة نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) كما هو الحال في بقية السور المكّية؛ فالمرحلة التي قضاها المسلمون في مكّة كانت مرحلة للبناء الإيماني والعقائدي، ولذلك فإن السور المكية حوت أقوى البحوث وأكثرها تأثيراً في هذا المجال، وكانت الأساس القوي المحكم الذي ظهرت آثاره العجيبة في المدينة، و في الغزوات وعند مواجهة العدو، وأمام عراقيل المنافقين، وفي قبول النظام الإسلامي، وإذا أردنا معرفة سر الانتصار السريع للمسلمين في المدينة فإنّ علينا أن نطالع دروس مكّة المؤثرة.
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{تنزيل الكتاب من الله العزيز} في ملكه {الحكيم} في أمره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"تَنْزِيلُ الكِتابِ": الذي نزّلناه عليك يا محمد "مِنَ اللّهِ العَزِيزِ "في انتقامه من أعدائه "الحَكِيمِ "في تدبيره خلقه، لا من غيره، فلا تكوننّ في شكّ من ذلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الكتاب الذي يتلوه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ويدعوكم إليه، هو تنزيل من عند الله، كقوله: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين} [الشعراء: 193 و194].
{العزيز الحكيم} على إثر قوله {تنزيل الكتاب من الله} يخرج، والله أعلم على أنه يدعوكم محمد صلى الله عليه وسلم إلى اتباع الكتاب والطاعة له؛ ليس لذل به يطلب بكم العز، وضعف في التدبير فيطلب بكم الاستعانة فيه؛ لأنه عزيز بذاته، حكيم لا يلحقه الخطأ أو الضعف في التدبير، ولكن إنما أمركم بما أمر، ونهاكم عما نهى لتكتسبوا لأنفسكم، ولتنتفعوا به.
وقال بعضهم: هو العزيز لأن كل عزيز دونه يصير ذليلا عنده، وعز من دونه عند عزه يصير ذلا.
الحكيم، هو المصيب في فعله وتدبيره، وقيل: هو الذي وضع كل شيء موضعه. وقال بعض أهل التأويل: العزيز، هو المنيع، وتأويل المنيع الممتنع عن جميع مكايد الخلق وجميع حيلهم بالضرر له.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هذا كتابٌ عزيزٌ نَزَلَ من ربِّ عزيز على عبدٍ عزيز بلسان مَلَكٍ عزيز في شأنِ أَمةٍ عزيزة بأمرٍ عزيز.
وفي ورود الرسولِ به من الحبيب الأول نزهةٌ لقلوب الأحباب بعد ذبول غصن سرورها، وارتياحٌ عند قراءة فصولها.
كتابُ موسى في الألواح التي كان منها يقرأ موسى، وكتابُ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم نَزَلَ به الروحُ الأمينُ على قلبِ المصطفى صلوات الله عليه، وفَصْلٌ بين من يكون كتابُ ربِّه مكتوبا في ألواحه، وبين من يكون خطابُ ربِّه محفوظاً في قلبه، وكذلك أمته، قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتُ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الكتاب} في قوله: {تنزيل الكتاب} قال المفسرون: هو القرآن ويظهر إلي أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله من الكتب، فإنه أخبر إخباراً مجرداً الكتب الهادية الشارعة إنما تنزيلها من الله، وجعل هذا الإخبار تقدمه وتوطئة لقوله: {إنا أنزلنا إليك الكتاب}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{تنزيل} أي بحسب التدريج لموافقة المصالح في أوقاتها وتقريبه للأفهام على ما له من العلو حتى صار ذكراً للعالمين.
ووضع موضع الضمير قوله: {الكتاب} للدلالة على جمعه لكل صلاح، أي لا بد أن يرى جميع ما فيه؛ لأن الشأن العظيم إنزاله على سبيل التنجيم للتقريب في فهمه وإيقاع كل شيء منه في أحسن أوقاته من غير عجلة ولا توان.
ثم أخبر عن هذا التنزيل بقوله: {من الله} أي المتصف بجميع صفات الكمال...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
التَّعرُّضُ لوصفَيْ العزَّةِ والحكمة للإيذانِ بظهور أثريهما في الكتابِ، بجريانِ أحكامِه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مُدافعٍ ولا ممانع، وبابتناءِ جميع ما فيه على أساس الحِكَمِ الباهرةِ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تبدأ السورة بهذا التقرير الحاسم. (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم).. العزيز القادر على تنزيله. الحكيم الذي يعلم فيم أنزله ولماذا أنزله؛ ويفعل ذلك بحكمة وتقدير وتدبير.
ولا يتلبث السياق عند هذه الحقيقة طويلاً؛ فهي مقدمة للقضية الأصيلة التي تكاد السورة تكون وقفاً عليها؛ والتي نزل الكتاب لتقريرها وتوكيدها. قضية توحيد الله وإفراده بالعبادة، وإخلاص الدين له، وتنزيهه عن الشرك في كل صورة من صوره؛ والاتجاه إليه مباشرة بلا وسيط ولا شفيع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فاتحة أنيقة في التنويه بالقرآن جعلت مقدمة لهذه السورة؛ لأن القرآن جامع لما حوته وغيره من أصول الدين.
تنزيل: مصدر نزّل المضاعف وهو مشعر بأنه أنزله منجّماً، واختيار هذه الصيغة هنا للرد على الطاعنين؛ لأنهم من جملة ما تعلّلوا به قولهم: {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32].
التعريف في {الكتاب} للعهد، وهو القرآن المعهود بينهم عند كل تذكير وكل مجادلة وأجرى على اسم الجلالة الوصف ب {العزيز الحكيمِ} للإِيماء إلى أن ما ينزل منه يأتي على ما يناسب الصفتين، فيكون عزيزاً قال تعالى: {وإنه لكتاب عزيز}
[فصلت: 41] أي القرآن، عزيز غالب بالحجة لمن كذّب به، وغالب بالفضل لما سواه من الكتب من حيث إن الغلبة تستلزم التفضل والتفوق، وغالب لبلغاء العرب إذ أعجزهم عن معارضة سورة منه.
ويكون حكيماً مثل صفة منزِّله، والحكيم: إمّا بمعنى الحاكم، فالقرآن أيضاً حاكم عن معارضيه بالحجة، وحاكم على غيره من الكتب السماوية بما فيه من التفصيل والبيان قال تعالى: {مصدقاً لمن بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} [المائدة: 48] وإمّا بمعنى: المحكِم المتقِن، فالقرآن مشتمل على البيان الذي لا يحتمل الخطأ، وإما بمعنى الموصوف بالحكمة، وهذه معان مرادة من الآية فيما نرى، على أن في هذين الوصفين إيماء إلى أن القرآن معجز ببلاغة لفظه وبإعجازه العلمي، إذا اشتمل على علوم لم يكن للناس علم بها كما بيّناه في المقدمة العاشرة. وفي وصف {الحَكِيمِ} إيماء إلى أنه أنزله بالحكمة وهي الشريعة {يؤتي الحكمة من يشاء} [البقرة: 269]، وفي هذا إرشاد إلى وجود التدبر في معاني هذا الكتاب ليتوصل بذلك التدبر إلى العلم بأنه حق من عند الله، قال تعالى: {سنريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53]...
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
فَرْق بين تنزيل وإنزال ونزول؛ النزول هو الحدث الذي يأتي بشيء من أعلى إلى أدنى، والإنزال يدل على أن الذي أنزل أعلى من المُنزل إليه، أما التنزيل فيدل على النزول على فترات بحسب الأحوال.
فقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] يعني: أنزلناه جملةً واحدة في أول رسالة محمد، ليباشر القرآنُ مهمته في الوجود، ثم نُزِّل بعد ذلك مُنجَّماً حَسْب الحاجة.
قال تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الإسراء: 105].
يعني: أنزلناه بالحق بداية، وظلَّ على الحق لم يستطع أحد أنْ يُغيِّره أو يُفسده؛ لأنه حقٌّ.
وهذه المادة نزل أو نزَّل أو أنزل، تدل كلها على عُلُو المنزِّل ودُنُو المنزل إليه، وتدل على أن شرف المنزَّل من شرف مَنْ أنزله، وتدل أيضاً على أن مَنْ أنزل المنهج القويم للمخلوق يريد أنْ يكرمه وأنْ يعلوَ به. إذن: دَلَّ الإنزال على شرف المنزِّل وعلو مكانته، وعلى شرف ما أُنزل وعلى شرف مَن اختاره الله، وجعله أهلاً لأنْ يُوجه إليه هذا الخير.
ومن ذلك قوله تعالى في أمة محمد: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]...
و (الكتاب) أي: القرآن. فمرة يقول: الكتاب. ومرة: القرآن، دليل على أنه سيأخذ الوَصْفين معاً، فهو كتاب بمعنى مسجل ومكتوب يعني لا يُنكر، وهو قرآن بمعنى مقروء، فهو مُسجَّل في السطور ومحفوظ في الصدور، وهذه ستكون حجة علينا.
وقد علمنا الدقة التي اتبعها الصحابة في جمع القرآن من صدور الحفظة، فكانوا لا يكتبون آية إلا إذا قرأها اثنان من الحفظة واتفقا على صحتها، كذلك يشهد على صحتها اثنان بعد الكتابة، فدَلَّت هذه الدقة على حيثيات قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وكلمة (الكتاب) هكذا بأل التعريفية تدل على أنه الكتاب الكامل في الكتب، ولا تنصرف هذه الكلمة إلا إلى القرآن الكريم.
وقوله تعالى: {مِنَ اللَّهِ} [الزمر: 1] دل على أن التنزيل من أعلى لأدنى، لكن لماذا قال {مِنَ اللَّهِ} [الزمر: 1] ولم يقُل: من الرب؟ لأن هذا الكتاب جاء بمنهج للتربية، والرب هو المتولي للخَلْق وللتربية. قالوا: لأن الربوبية عطاء يشمل الجميع المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، فالرب خلق الجميع الخَلْق المادي وأمدَّ الجميع، فالكل في عطاء الربوبية سواء.
أما المنهج الذي نزل به الكتاب، فهو منهج إيماني وخُلُقي وتعبُّدي من عطاء الألوهية، لا من عطاء الربوبية، لذلك قال في الكتاب: {مِنَ اللَّهِ} [الزمر: 1].
والله عَلَم على واجب الوجود، أما الأسماء الحسنى فهي أوصاف بلغت العظمة؛ لأنها لله تعالى وغلبتْ عليه، فصارت أسماء قال تعالى: {وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] والجامع لها كلها لفظ الجلالة الله، فحين تقول الله كأنك ناديتَ الله بجميع أسمائه الحسنى؛ لذلك أمرنا أنْ نبدأ العمل بقول باسم الله، والعمل يحتاج إلى قوة وإلى علم وإلى حكمة وإلى عزة.. إلخ.
فلو كنتَ مُقبلاً على عمل يحتاج إلى عشرين صفة مثلاً فهل تقول: باسم القوي، باسم العليم، باسم الحكيم.. لا، لأن في وُسْعك أن تجمع كلَّ هذه الصفات في قولك باسم الله؛ لأن لفظ الجلالة هي الكلمة الجامعة لكل صفات الكمال، وتناسب كل ما يحتاجه العمل، وكل ما يتعلق بالفعل، مما تعرفه أنت ومما لا تعرفه.
لذلك قالوا: إياك أنْ تدعَ هذه الكلمة في بداية العمل...
إذن: قال سبحانه: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} لأن الكتاب نزل بمنهج وقيَم، ولم يقل: من الرب لأن الربَّ وصفٌ خاص بالمادة وبالقالب.
وقوله: {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} العزيز هو: الغني عن الخَلْق الذي لا تنفعه طاعتهم، ولا تضره معصيتهم، وجاء هذا الوصف بعد {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} لمناسبة، فكأن الحق سبحانه يقول لنا: اعلموا أنني متطوع بهذا المنهج الذي أنزلته عليكم، وأريد به سعادتكم في الدنيا ونعيمكم في الآخرة، أما طاعتكم لمنهجي فلا تزيد في ملكي شيئاً، لأنني الغني عنكم، فأنا العزيز عن خَلْقي...
إذن: قُلْ باسم الله، واعلم أنه عزيز عن هذه... فالحق سبحانه هو العزيز الذي يَغْلِب ولا يُغلب، وهو سبحانه يخلع من هذه الصفة على مَنْ يؤمن به، فللمؤمن عزة من عزة الله، أما غير المؤمن فيبحث عن عزة بالإثم استكباراً بلا رصيد... والحق سبحانه مع أنه {الْعَزِيزِ..} الذي يَغلب ولا يُغلب، فهو سبحانه {الْحَكِيمِ} أي: الذي يضع الشيء في موضعه. ومن هذه الحكمة أنه سبحانه لا يطبع المؤمنَ على العزة الدائمة، ولا على الذِّلة الدائمة، كذلك لا يطبعه على الرحمة الدائمة، ولا على الشدة الدائمة، بل ينفعل للأحداث الإيمانية، كما قال سبحانه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].
ومع أن هذه طباع في النفس إلا أنها مُعدَّلة بمنهج مَنْ خلقها، فإنْ كان الموقف يحتاج إلى رحمة فالمؤمن رحيم، وإنْ كان الموقف يحتاج إلى شدة. فالمؤمن شديد. إذن: هذا مظهر من مظاهر حكمة الخالق سبحانه، فإنْ قلتَ: هذه طباع، نعم طباع لكن مُعدَّلة بمنهج مَنْ خلقها.