قوله تعالى : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب } . يخاطب اليهود .
قوله تعالى : { آمنوا بما نزلنا } يعني : القرآن .
قوله تعالى : { مصدقاً لما معكم } . يعني : التوراة ، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم أحبار اليهود ، عبد الله بن صوريا ، وكعب بن الأشرف فقال : يا معشر اليهود : " اتقوا الله وأسلموا ، والله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق " قالوا : ما نعرف ذلك ، وأصروا على الكفر فنزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { من قبل أن نطمس وجوهاً } ، قال ابن عباس : نجعلها كخف البعير ، وقال قتادة والضحاك : نعميها ، والمراد بالوجه العين .
قوله تعالى : { فنردها على أدبارها } . أي : نطمس الوجوه ، فنردها على القفا ، وقيل : نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة لأن منابت شعور الآدميين في أدبارهم دون وجوههم ، وقيل معناه : نمحو آثارها وما فيها من أنف ، وعين ، وفم ، وحاجب ، ونجعلها كالأقفاء . وقيل : نجعل عينيه على القفا فيمشي القهقري .
روي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ، ويده على وجهه ، وأسلم ، قال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي ، وكذلك كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله عنه ، فقال : يا رب آمنت ، يا رب أسلمت ، مخافة أن يصيبه وعيد هذه الآية .
فإن قيل : قد أوعدهم بالطمس إن لم يؤمنوا ، ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك ؟ قيل : هذا الوعيد باق ، ويكون طمس ومسخ في اليهودية قبل قيام الساعة ، وقيل : هذا كان وعيداً بشرط ، فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه دفع ذلك عن الباقين ، وقيل : أراد به القيامة ، وقال مجاهد : أراد بقوله : { نطمس وجوهاً } أي : نتركهم في الضلالة ، فيكون المراد طمس وجه القلب ، والرد عن بصائر الهدى على أدبارها في الكفر والضلالة . وأصل الطمس : المحو ، والإفساد ، والتحويل ، وقال ابن زيد : نمحو آثارهم من وجوههم ونواصيهم ، التي هم بها فنردها على أدبارها ، حتى يعودوا إلى حيث جاؤوا منه ، وهو الشام . وقال : قد مضى ذلك ، وتأوله في إجلاء بني النضير إلى أذرعات وأريحاء من الشام .
قوله تعالى : { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } . فنجعلهم قردة وخنازير .
يقول تعالى - آمرا أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم{[7655]} الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات ، ومتهددا لهم أن{[7656]} يفعلوا ، بقوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } قال بعضهم : معناه : من قبل أن نطمس وجوها . طمسها{[7657]} هو ردها إلى الأدبار ، وجعل أبصارهم من ورائهم . ويحتمل أن يكون المراد : من قبل أن نطمس وجوها فلا يبقي لها سمع ولا بصر ولا أثر ، ونردها مع ذلك إلى ناحية الأدبار .
قال العوفي عن ابن عباس : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا } وطمسها أن تعمى { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم ، فيمشون القهقرى ، ونجعل لأحدهم عينين{[7658]} من قفاه .
وكذا قال قتادة ، وعطية العوفي . وهذا أبلغ في العقوبة والنكال ، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم ، وهذا كما قال بعضهم في قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ . وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا [ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ]{[7659]} } [ يس 8 ، 9 ] إن هذا مثل [ سوء ]{[7660]} ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى .
قال مجاهد : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا } يقول : عن صراط الحق ، فنردها{[7661]} على أدبارهم ، أي : في الضلالة .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس ، والحسن نحو هذا .
قال السدي : { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } فنمنعها عن الحق ، قال : نرجعها كفارا ونردهم قردة .
وقال ابن{[7662]} زيد{[7663]} نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز .
وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية ، قال ابن جرير :
حدثنا أبو كريب ، حدثنا جابر بن نوح ، عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب ، فقال : أسلم كعب زمان عمر ، أقبل وهو يريد بيت المقدس ، فمر على المدينة ، فخرج إليه عمر فقال : يا كعب ، أسلم ، قال : ألستم تقرؤون في كتابكم{[7664]} { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ ]{[7665]} أَسْفَارًا } وأنا قد حملت التوراة . قال : فتركه عمر . ثم خرج حتى انتهى إلى حمص ، فسمع رجلا من أهلها حزينا ، وهو يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } الآية . قال{[7666]} كعب : يا رب آمنت ، يا رب ، أسلمت ، مخافة أن تصيبه هذه الآية ، ثم رجع فأتى أهله في اليمن ، ثم جاء بهم مسلمين{[7667]} .
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر بلفظ آخر ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن حلبس{[7668]} عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال : كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب ، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فبعثه إليه ينظر أهو هو ؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة ، فإذا تال يقرأ القرآن ، يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } فبادرت الماء فاغتسلت وإني لأمسح وجهي مخافة أن أطمس ، ثم أسلمت{[7669]} .
وقوله : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } يعني : الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد ، وقد مسخوا قردة وخنازير ، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف .
وقوله : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا } أي : إذا أمر بأمر ، فإنه لا يخالف ولا يمانع .
{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها } من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونجعلها على هيئة أدبارها ، يعني الأقفاء ، أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا ، أو في الآخرة . وأصل الطمس إزالة الأعلام المائلة وقد يطلق بمعنى الطلس في إزالة الصورة ولمطلق القلب والتغيير ، ولذلك قيل معناه من قبل أن نغير وجوها فنسلب وجاهتها وإقبالها ونكسوها الصغار والإدبار ، أو نردها إلى حيث جاءت منه ، وهي أذرعات الشام يعني إجلاء بني النضير ، ويقرب منه قول من قال إن المراد بالوجوه الرؤساء ، أو من قبل أن نطمس وجوها بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق بالطبع ونردها عن الهداية إلى الضلالة . { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أو نخزيهم بالمسخ كما أخزينا به أصحاب السبت ، أو نمسخهم مسخا مثل مسخهم ، أو نلعنهم على لسانك كما لعناهم على لسان داود . والضمير لأصحاب الوجوه أو للذين على طريقة الالتفات ، أو للوجوه إن أريد به الوجهاء ، وعطفه على الطمس بالمعنى الأول يدل على أن المراد به ليس مسخ الصورة في الدنيا ومن حمل الوعيد على تغيير الصورة في الدنيا قال إنه بعد مترقب أو كان وقوعه مشروطا بعدم إيمانهم وقد آمن منهم طائفة . { وكان أمر الله } بإيقاع شيء أو وعيده ، أو ما حكم به وقضاه . { مفعولا } نافذا وكائنا فيقع لا محالة ما أوعدتم به إن لم تؤمنوا .
أقبل على خطاب أهل الكتاب الذين أريد بهم اليهود بعد أن ذكر من عجائب ضلالهم ، وإقامة الحجّة عليهم ، ما فيه وازع لهم لو كان بهم وَزْع ، وكذلك شأن القرآن أن لا يفلت فرصة تَعِنُّ من فُرَص الموعظة والهدى إلاّ انتهزها ، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسّموا أحوال تأثّر نفوس المخاطبين ومظانّ ارعوائها عن الباطل ، وتبصّرها في الحق ، فينجدوها حينئذٍ بقوارع الموعظة والإرشاد ، كما أشار إليه الحريري في المقامة ( 11 ) إذ قال : « فلَمَّا ألْحَدُوا المَيْت ، وفَاتَ قولُ لَيْت ، أشْرَفَ شَيْخ من رِبَاوَة ، متَأبِّطاً لِهِرَاوة ، فقال : لِمِثْلِ هذا فليعمل العاملون » الخ ، لذلك جيء بقوله : { يا أيّها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نّزلنا مصدّقاً لما معكم } الآية عقب ما تقدّم .
وهذا موجب اختلاف الصلة هنا عن الصلة في قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } [ آل عمران : 23 ] لأنّ ذلك جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبته صلة مؤذنة بتهوين شأن علمهم بما أوتوه من الكتاب ، وما هنا جاء في مقام الترغيب فناسبته صلة تؤذن بأنّهم شُرّفوا بإيتاء التوراة لتثير هممهم للاتّسام بميسم الراسخين في جريان أعمالهم على وفق ما يناسب ذلك ، وليس بين الصلتين اختلاف في الواقع لأنّهم أوتوا الكتاب كلّه حقيقة باعتبار كونه بين أيديهم ، وأوتوا نصيباً منه باعتبار جريان أعمالهم على خلاف ما جاء به كتابهم ، فالذي لم يعملوا به منه كأنّهم لم يُؤتَوْه .
وجيء بالصلتين في قوله : { بما نزلنا } وقوله : « بما معكم » دون الإسمين العلمين ، وهما : القرآن والتوراة : لما في قوله : { بما نزلنا } من التذكير بعظم شأن القرآن أنّه منزل بإنزال الله ، ولما في قوله : { لما معكم } من التعريض بهم في أنّ التوراة كتاب مستصحب عندهم لا يعلمون منه حقّ علمه ولا يعملون بما فيه ، على حدّ قوله : { كمثَل الحمار يحمل أسفاراً } [ الجمعة : 5 ] .
وقوله : { من قبل أن نطمس وجوهاً } تهديد أو وعيد ، ومعنى : { من قبل أن نطمس } أي آمنِوا في زمن يبتدىء من قبل الطمس ، أي من قبل زمن الطمس على الوجوه ، وهذا تهديد بأن يحلّ بهم أمر عظيم ، وهو يحتمل الحمل على حقيقة الطمس بأن يسلّط الله عليهم ما يفسد به محيَّاهم فإنّ قدرة الله صالحة لذلك ، ويحتمل أن يكون الطمس مجازاً على إزالة ما به كمال الإنسان من استقامة المدارك فإنّ الوجوه مجامع الحواسّ .
والتهديد لا يقتضي وقوع المهدّد به ، وفي الحديث " أمَا يخشَى الذي يرفع رأسه قبلَ الإمام أن يَجعل الله وجهه وجه حمار " . وأصْل الطمس إزالة الآثار الماثلة . قال كعب :
عُرْضَتُها طَامِسُ الأعلام مَجْهُولُ
وقد يطلق الطمس مجازاً على إبطال خصائص الشيء المألوفة منه .
ومنه طمس القلوب أي إبطال آثار التميّز والمعرفة منها .
وقوله : { فنردّها على أدبارها } عطف لمجرد التعقيب لا للتسبّب ؛ أي من قبل أن يحصل الأمران : الطمسُ والردّ على الأدبار ، أي تنكيس الرؤوس إلى الوراء ، وإن كان الطمس هنا مجازاً وهو الظاهر ، فهو وعيد بزوال وجاهة اليهود في بلاد العرب ، ورميهم بالمذلّة بعد أن كانوا هناك أعزّة ذوي مال وعدّة ، فقد كان منهم السموأل قبل البعثة ، ومنهم أبو رافع تاجرُ أهل الحجاز ، ومنهم كعب بن الأشرف ، سيّد جهته في عصر الهجرة .
والردّ على الأدبار على هذا الوجه : يحتمل أن يكون مجازاً بمعنى القهقرى ، أي إصارتهم إلى بئس المصير ؛ ويحتمل أن يكون حقيقة وهو ردّ هم من حيث أتوا ، أي إجلاؤهم من بلاد العرب إلى الشام .
والفاء على هذا الوجه للتعقيب والتسبّب معاً ، والكلام وعيد ، والوعيدُ حاصل ، فقد رماهم الله بالذلّ ، ثم أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأجلاهم عمر بن الخطاب إلى أذرعات .
وقوله : { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أريد باللعن هنا الخزي ، فهو غير الطمس ، فإن كان الطمس مراداً به المسخ فاللعن مراد به الذلّ ، وإن كان الطمس مراداً به الذلّ فاللعن مراد به المسخ .
و { أصحاب السبت } هم الذين في قوله : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين وقد تقدّم في سورة البقرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم خوفهم، فقال: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب}: الذين أعطوا التوراة {آمنوا بما نزلنا}: بما أنزل الله من القرآن على محمد.
{مصدقا لما معكم}: تصديق محمد معكم في التوراة أنه نبي رسول {من قبل أن نطمس وجوها}: نحول الملة عن الهدى والبصيرة التي كانوا عليها من إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث.
{فنردها على أدبارها} بعد الهدى الذي كانوا عليه كفارا ضلالا.
{أو نلعنهم}: نعذبهم {كما لعنا}: كما عذبنا {أصحاب السبت}: فنمسخهم قردة كما فعلنا بأوائلهم.
{وكان أمر الله مفعولا}: أمره كائن لا بد، هذا وعيد...
{يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا}.
- مكي: قال مالك: كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا}. فوضع كعب يده على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ}: اليهود من بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله لهم: يا أيها الذين أنزل إليهم الكتاب فأعطوا العلم به، {آمِنُوا}: صدّقوا بما أنزلنا إلى محمد من الفرقان، {مُصَدّقا لما مَعَكُمْ} يعني: محققا للذي معكم من التوراة التي أنزلتها إلى موسى بن عمران، {مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها}.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: طمسه إياه: محوه آثارها حتى تصير كالأقفاء.
وقال آخرون: معنى ذلك: أن نطمس أبصارها فنصيرها عمياء، ولكن الخبر خرج بذكر الوجه، والمراد به بصره.
{فَنُردّها على أدْبَارِهَا}: فنجعل أبصارها من قبل أقفائها.
عن ابن عباس: وطمسها: أن تعمى فنردّها على أدبارها، يقول: أن نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقري ونجعل لأحدهم عينين في قفاه.
وقال آخرون: معنى ذلك: من قبل أن نعمي قوما عن الحقّ، فنردّها على أدبارها في الضلالة والكفر.
وقال آخرون: معنى ذلك: من قبل أن نمحو آثارهم من وجوههم التي هم بها وناحيتهم التي هم بها، فنردّها على أدبارها من حيث جاءوا منه بدءا من الشام. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى قوله: {مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها}: من قبل أن نطمس أبصارها ونمحو آثارها فنسوّيها كالأقفاء، فنردّها على أدبارها، فنجعل أبصارها في أدبارها، يعني بذلك: فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه، فيكون معناه: فنحوّل الوجوه أقفاء، والأقفاء وجوها، فيمشون القهقري، كما قال ابن عباس وعطية ومن قال ذلك.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الله جلّ ثناؤه خاطب بهذه الآية اليهود الذين وصف صفتهم بقوله: {ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يَشْتَرُونَ الضّلالَةَ} ثم حذّرهم جلّ ثناؤه بقوله: {يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها...} بأَسه وسطوَتَه، وتعجيل عقابه لهم إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به، ولا شكّ أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارا. وإذ كان ذلك كذلك، فبّين فساد قول من قال: تأويل ذلك أن نعميها عن الحقّ فنردّها في الضلالة، فما وجه ردّ من هو في الضلالة فيها؟ وإنما يرد في الشيء من كان خارجا منه، فأما من هو فيه فلا وجه لأن يقال: يردّه فيه. وإذ كان ذلك كذلك، وكان صحيحا أن الله قد تهدّد الذين ذكرهم في هذه الآية بردّه وجوههم على أدبارهم، كان بينا فساد تأويل من قال: معنى ذلك يهدّدهم بردّهم في ضلالتهم.
وأما قول من قال: معناه: من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها فنردّهم إلى الشام من مساكنهم بالحجاز ونجد، فإنه وإن كان قولاً له وجهٌ كما يدلّ عليه ظاهر التنزيل بعيد، وذلك أن المعروف من الوجوه في كلام العرب التي هي خلاف الأقفاء، وكتاب الله يوجه تأويله إلى الأغلب في كلام من نزل بلسانه حتى يدلّ على أنه معنيّ به غير ذلك من الوجوه التي ذكرت دليل يجب التسليم له. وأما الطمس: فهو العفو والدثور في استواء، ومنه يقال: طمست أعلام الطريق تَطْمِسُ طُمُوسا، إذا دثرت وتعفت فاندفنت واستوت بالأرض... فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من تأويل الآية، فهل كان ما توعدهم به؟ قيل: لم يكن لأنه آمن منهم جماعة، منهم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومخيرق، وجماعة غيرهم، فدفع عنهم بإيمانهم.
{أوْ نَلْعَنَهُمْ}: أو نلعنكم، فنخزيكم، ونجعلكم قردة، {كما لَعَنّا أصْحَابَ السّبْتِ}: كما أخزينا الذين اعتدوا في السبت من أسلافكم، قيل ذلك على وجه الخطاب في قوله: {آمِنُوا بمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لمَا مَعَكُمْ} كما قال: {حتى إذَا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهمْ بِريحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُوا بها}. وقد يحتمل أن يكون معناه: من قبل أن نطمس وجوها فنردّها على أدبارها أو نلعن أصحاب الوجوه، فجعل الهاء والميم في قوله: {أوْ نَلْعَنَهُمْ} من ذكر أصحاب الوجوه، إذ كان في الكلام دلالة على ذلك.
{وكانَ أمْر الله مَفْعُولاً}: وكان جميع ما أمر الله أن يكون كائنا مخلوقا موجودا، لا يمتنع عليه خلق شيء شاء خلقه. والأمر في هذا الموضع: المأمور، سمي أمر الله لأنه عن أمره كان وبأمره، والمعنى: وكان ما أمر الله مفعولاً.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{من قبل أن نطمس وجوها} يحتمل الحقيقة، فيرجع إلى يوم القيامة، فيذهب فيه جميع محاسن الوجوه، أو نطمس وجوه الحق [عنهم بمعاندتهم، فيبصروا] الحق بغير صورته بعد أن كانوا رأوا كل شيء بصورته في كتبهم المنزلة، والله أعلم، أو نطمس وجوههم عند اتباعهم الذين لأجلهم غيروا، وحرفوا، بما يطلعهم على خيانتهم، ويظهر لهم تبديلهم، وقد فعل بحمد الله تعالى. وقد يحتمل الوعيد أن يفعل لهم، إن لم يؤمنوا حقيقة، ذلك كفعله بأصحاب السبت تغيير الجوهر. ثم لعل أولئك قد أسلموا، أو [نزل بهم العذاب]، ولم يذكروا، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً}... رؤوسهم ووجهاؤهم، أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم، فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وإدبارهم... فإن قلت: لمن الراجع في قوله: (أو نلعنهم)؟ قلت: للوجوه إن أريد الوجهاء، أو لأصحاب الوجوه. لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم. أو يرجع إلى (الذين أوتوا الكتاب) على طريقة الالتفات. {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} أو نجزيهم بالمسخ، كما مسخنا أصحاب السبت. فإن قلت: فأين وقوع الوعيد. قلت: هو مشروط بالإيمان. وقد آمن منهم ناس. وقيل: هو منتظر، ولا بدّ من طمس ومسخ لليهود قبل يوم القيامة، ولأن الله عز وجلّ أوعدهم بأحد الأمرين، بطمس وجوه منهم، أو بلعنهم فإن الطمس تبديل أحوال رؤسائهم، أو إجلائهم إلى الشام، فقد كان أحد الأمرين وإن كان غيره فقد حصل اللعن. فإنهم ملعونون بكل لسان، والظاهر اللعن المتعارف دون المسخ، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} [المائدة: 60]. {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} فلا بدّ أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا...
إنه تعالى بعد أن حكى عن اليهود أنواع مكرهم وإيذائهم، أمرهم بالإيمان وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد على الترك، ولقائل أن يقول: كان يجب أن يأمرهم بالنظر والتفكر في الدلائل الدالة على صحة نبوته، حتى يكون إيمانهم استدلاليا، فلما أمرهم بذلك الإيمان ابتداء فكأنه تعالى أمرهم بالإيمان على سبيل التقليد. والجواب عنه: أن هذا الخطاب مختص بالذين أوتوا الكتاب، وهذا صفة من كان عالما بجميع التوراة. ألا ترى أنه قال في الآية الأولى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب} ولم يقل: ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب، لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة،، فلما قال في هذه الآية: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب} علمنا أن هذا التكليف مختص بمن كان عالما بكل التوراة، ومن كان كذلك فإنه يكون عالما بالدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن التوراة كانت مشتملة على تلك الدلائل، ولهذا قال تعالى: {مصدقا لما معكم} أي مصدقا للآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان العلم حاصلا كان ذلك الكفر محض العناد، فلا جرم حسن منه تعالى أن يأمرهم بالإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام جزما، وأن يقرن الوعيد الشديد بذلك...
قال ابن عباس: يريد لا راد لحكمه ولا ناقض لأمره، على معنى أنه لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله، كما تقول في الشيء الذي لا شك في حصوله: هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد. وإنما قال: {وكان} إخبارا عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدمين أنه مهما أخبرهم بإنزال العذاب عليهم فعل ذلك لا محالة، فكأنه قيل لهم: أنتم تعلمون أنه كان تهديد الله في الأمم السالفة واقعا لا محالة، فاحترزوا الآن وكونوا على حذر من هذا الوعيد، والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بكتهم على فعلهم وقولهم وصرح بلعنهم، خوَّفهم إظهار ذلك في الصور المحسوسة فقال مقبلاً عليهم إقبال الغضب: {يا أيها الذين} منادياً لهم من محل البعد {أوتوا الكتاب} ولم يسند الإيتاء إليه تحقيراً لهم، ولم يكتف بنصيب منه لأنه لا يكفي في العلم بالمصادقة إلا الجميع {آمنوا بما نزلنا} أي تدريجاً كما نزلنا التوراة كذلك، على ما لنا من العظمة التي ظهرت في إعجازه وإخباره بالمغيبات ودقائق العلوم مما عندكم وغيره على رشاقته وإيجازه؛ وأعلم بعنادهم وحسدهم بقوله: {مصدقاً لما معكم} من حيث أنهم له مستحضرون، وبه في حد ذاته مُقِرّون.
ولما أمرهم وقطع حجتهم، حذرهم فقال -مخففاً عنهم بالإشارة بحرف الجر إلى أنه متى وقع منهم إيمان في زمن مما قبل الطمس أخره عنهم -: {من قبل أن نطمس} أي نمحو {وجوهاً} فإن الطمس في اللغة: المحو؛ وهو يصدق بتغيير بعض الكيفيات، ثم سبب عن ذلك قوله: {فنردها} فالتقدير: من قبل أن نمحو أثر وجوه بأن نردها {على أدبارها} أي بأن نجعل ما إلى جهة القبل من الرأس إلى جهة الدبر، وما إلى الدبر إلى جهة القبل مع إبقاء صورة الوجه على ما هي عليه، أو يكون المراد بالرد على الدبر النقل من حال إلى ما دونها من ضدها بجعلها على حال القفا، ليس فيها معلم من فم ولا غيره، ليكون المعنى بالطمس مسح ما في الوجه من المعاني؛ قال ابن هشام: نطمس: نمسحها فنسويها، فلا يرى فيها عين ولا أنف ولا فم ولا شيء مما يرى في الوجه، وكذلك {فطمسنا أعينهم} [القمر: 37] المطموس العين: الذي ليس بين جفنيه شق، ويقال: طمست الكتاب والأثر فلا يرى منه شيء. ويكون الوجه في هذا التقدير على حقيقته؛ ثم خوفهم نوعاً آخر من الطمس فقال عاطفاً على (نردها): {أو نلعنهم} أي نبعدهم جداً عن صورة البشر أن نقلب وجوههم أو جميع ذواتهم على صورة القردة {كما لعنا أصحاب السبت} إذ قلنا لهم
{كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65] ويكون الوجه في هذا التقدير الأخير عبارة عن الجملة، فهو إذن مما استعمل في حقيقته ومجازه، ويجوز أن يكون واحد الوجهاء، فيكون عود الضمير إليه استخداماً، ويكون المراد بالرد على الأدبار جعلهم أدنياء صغرة من الأسافل- والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولما كان ذلك أمراً غريباً ومقدوراً عجيباً، وكان التقدير: فقد كان أمر الله فيهم بذلك -كما علمتم- نافذاً؛ أتبعه الإعلام بأن قدرته شاملة، وأن وجوه مقدوراته لا تنحصر، فقال عاطفاً على ما قدرته: {وكان أمر الله} أي حكمه وقضاؤه ومراده في كل شيء شاء منهم ومن غيره بذلك وبغيره، لأن له العظمة التي لا حد لها والكبرياء التي تعيي الأوصاف دونها {مفعولاً *} أي كائناً حتماً، لا تخلف له أصلاً، فلا بد من وقوع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا، وقد آمن بعضهم فلم يصح أنهم لم يؤمنوا، لأنه قد وقع منهم إيمان.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
خاطبهم في هذه الآية بالذين أوتوا الكتاب كما تقدم آنفا في تفسير أوتوا نصيبا من الكتاب فذاك نعي عليهم بما أضاعوا وحرفوا، وهذا إلزام لهم بما حفظوا وعرفوا، يقول: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب} الإلهي أي جنسه على ألسنة أنبيائهم أو التوراة خاصة {آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم} منه من تقرير التوحيد الخالص واتقاء الشرك كله صغيره وكبيره وإثبات النبوة والرسالة وما يغذي ذلك الإيمان ويقويه من ترك الفواحش والمنكرات وعمل الصالحات أي مصدقا لما معكم من أصول الدين وأركانه التي هي المقصد من إرسال جميع الرسل لا يختلفون فيها وإنما يختلفون في طرق حمل الناس عليها وهدايتهم بها وترقيتهم في معارجها بحسب سنة الله في ارتقاء البشر بالتدريج جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن كما أن العدل هو المقصد من جميع الحكومات وإنما تختلف الدول في القوانين المقررة له باختلاف أحوال الأمم، فليس من العقل ولا الصواب أن تنكر الأمة تغيير حاكم جديد لبعض ما كان عليه من قبله إذا كان يوافقه في جعله مقررا للعدل مقيما لميزانه بين الناس كما كان أو أكمل، وفي هذه الحال يسمى مصدقا لما قبله لا مكذبا ولا مخالفا، فالقرآن قرر نبوة موسى وداود وسليمان وعيسى وصدّقهم فيما جاؤوا به عن الله تعالى ووبخ الأقوام المدعين لأتباعهم على إضاعتهم لبعض ما جاؤوا به وتحريفهم للبعض الآخر، وعلى عدم الاهتداء والعمل بما هو محفوظ عندهم، حتى أن أكثرهم هدموا الأساس الأعظم للدين وهو التوحيد فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا كما سيأتي في سورة التوبة ويذكر أيضا في تفسير الآية الآتية فتصديق القرآن لما معهم لا ينافي ما نعاه عليهم من الإضاعة والنسيان والتحريف والتفريط...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يتجه الخطاب إلى الذين أوتوا الكتاب -اليهود- دعوة إلى الكتاب المصدق لما بين أيديهم؛ وتهديدا لهم بالمسخ واللعن المتوقعين من وراء عنادهم وأفاعيلهم. ودمغا لهم بالشرك والانحراف عن التوحيد الخاص، الذي عليه دينهم، والله لا يغفر أن يشرك به.. وفي الوقت ذاته بيان عام لحدود المغفرة الواسعة؛ وبشاعة الشرك حتى إنه ليخرج من هذه الحدود:
(يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا، مصدقا لما معكم، من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت.. وكان أمر الله مفعولا. إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك -لمن يشاء- ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيمًا)..
إنه نداء لهم بالصفة التي كان من شأنها أن يكونوا أول المستجيبين؛ وبالسبب الذي كان من شأنه أن يكونوا أول المسلمين:
(يا أيها الذين أوتوا الكتاب، آمنوا بما نزلنا، مصدقا لما معكم)..
فهم أوتوا الكتاب، فليس غريبا عليهم هذا الهدى. والله الذي آتاهم الكتاب هو الذي يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل مصدقا لما معهم. فليس غريبا عليهم كذلك. وهو مصدق لما معهم..
ولو كان الإيمان بالبينة. أو بالأسباب الظاهرة. لآمنت يهود أول من آمن. ولكن يهود كانت لها مصالح ومطامح. وكانت لها أحقاد وعناد. وكانت هي بطبعها منحرفة صلبة الرقبة.. كما تعبر عنهم التوراة بأنهم:
" شعب صلب الرقبة!". ومن ثم لم تؤمن. ومن ثم يجيئها التهديد العنيف القاسي:
(من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها. أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت. وكان أمر الله مفعولا).. وطمس الوجوه إزالة معالمها المميزة لآدميتها؛ وردها على أدبارها، دفعها لأن تمشي القهقرى.. وقد يكون المقصود هو التهديد بمعناه المادي؛ الذي يفقدهم آدميتهم ويردهم يمشون على أدبارهم؛ ويكون كذلك اللعن الذي أصاب أصحاب السبت [وهم الذين احتالوا على صيد السمك يوم السبت، وهو محرم عليهم في شريعتهم] هو مسخهم بالفعل قردة وخنازير.. كما قد يكون المقصود طمس معالم الهدى والبصيرة في نفوسهم، وردهم إلى كفرهم وجاهليتهم، قبل أن يؤتيهم الله الكتاب. والكفر بعد الإيمان، والهدى بعد الضلال، طمس للوجوه والبصائر، وارتداد على الأدبار دونه كل ارتداد.
وسواء كان هذا هو المقصود أو ذاك. فهو التهديد الرعيب العنيف؛ الذي يليق بطبيعة يهود الجاسية الغليظة؛ كما يليق بفعالهم اللئيمة الخبيثة!
وقد كان ممن ارتدع بهذا التهديد: كعب الأحبار فأسلم:
أخرج ابن أبى حاتم: حدثنا أبى. حدثنا ابن نفيل. حدثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن جليس، عن أبى إدريس عائذ الله الخولاني، قال: كان أبو مسلم الخليلي معلم كعب. وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبعثه إليه ينظر: أهو هو؟ قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة. فإذا تال يقرأ القرآن يقول: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم، من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها...) فبادرت الماء فاغتسلت، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس! ثم أسلمت.
فيه توكيد للتهديد، يناسب كذلك طبيعة اليهود!
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
يقرن الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم طلب التوبة والإيمان بحال المذنبين ولو كانوا قد أسرفوا على أنفسهم، كما قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا (53)} (الزمر)، فباب الإيمان والتوبة مفتوح للعصاة والكافرين، وإن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن أولئك اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يزالون على عهدهم، قد أسرفوا في عصيانهم، ولجوا حتى لقد كان قائلهم يقول إذا سمع دعوة الحق: {... سمعنا وعصينا... (46)} (النساء) ويلوون ألسنتهم استهزاء عند سماع الهدى النبوي!! ولا لجاجة في الكفر أكثر من الاستهزاء بالداعي إلى الإيمان! ومع هذه الحال فيهم وجه الله سبحانه وتعالى الدعوة إلى الإيمان منذرا لمن لا يجيب، ومرغبا من يجد باب الهداية مفتوحا في قلبه، فقال: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم} {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم} النداء لأهل الكتاب كما ترى، والتعبير بالموصول للإشارة إلى أن إعطاء علم الكتاب لهم كان يوجب أن يؤمنوا، لا أن يعرضوا ويعاندوا ويلجوا في العناد. وفي النص الكريم تحريض على الإيمان بثلاثة أمور: أولها: أنهم أوتوا الكتاب وعلم النبوات، وأنهم يعلمون الوحي الإلهي، والكتاب الذي نزل على نبيهم، والأنبياء قبله، وإن ذلك كله يوجب المسارعة إلى تلبية داعي الحق إذا دعوا، وألا تأخذوا العصبية الدينية، كما تأخذ أهل الشرك العصبية الجاهلية.
وثانيها: أن هذا الإيمان هو التصديق بما نزل الله تعالى على نبيه، والله هو الذي أنزل على نبيكم أو أنبيائكم شرائعه، وهو الذي نزل الشريعة التي تدعوكم إلى الإيمان، ووحدة المنزل توجب الإيمان بكل ما أنزل، وإلا كنتم تؤمنون ببعض وتكفرون ببعض.
وثالثها: أن هذا الذي يدعوكم رب العالمين إلى الإيمان به، هو مصدق ما معكم من الحق؛ لأن البشارة برسوله عندكم، وقد كنتم تستفتحون به على الذين كفروا، لأن الفضائل الدينية والاجتماعية قد اتفقت فيما يدعو إليه النبي مع ما دعا إليه أنبياؤكم من قبل، فالوحدة الدينية قائمة بوحدة المنزل، وبوحدة الحق الذي يدعوكم إليه رب العالمين...
إن ووحدة المنزل توجب الإيمان بكل ما أنزل، وإلا كنتم تؤمنون ببعض وتكفرون ببعض. وثالثها: أن هذا الذي يدعوكم رب العالمين إلى الإيمان به، هو مصدق ما معكم من الحق؛ لأن البشارة برسوله عندكم، وقد كنتم تستفتحون به على الذين كفروا، لأن الفضائل الدينية والاجتماعية قد اتفقت فيما يدعو إليه النبي مع ما دعا إليه أنبياؤكم من قبل، فالوحدة الدينية قائمة بوحدة المنزل، وبوحدة الحق الذي يدعوكم إليه رب العالمين. وقد يقول قائل: في الآيات السابقة، ذكر سبحانه في غير هذا المقام أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، وفي هذه الآية يناديهم بأنهم "أوتوا الكتاب"؟ ونقول في الإجابة عن ذلك: إن نسيانهم حظا مما ذكروه به، وتركهم نصيبا منه، لا يمنع الحكم بأنهم أوتوا الكتاب، لأنه نزل على أنبيائهم السابقين كاملا غير منقوص، فهم أعطوه ثم نقصوه، والخطاب لهم على أساس ما أوتوه، لا ما حرفوه، ولعله كان من أحبارهم من يعلم علم الكتاب كله، بل إن ذلك يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160)} (البقرة)...
وقد يكون معنى الكتاب هنا جنسه، وهو يشمل ما بقي عندهم معلنا معرفا، وإن كان ناقصا محرفا...
إن الحق سبحانه وتعالى يقول: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم}. فالحق يوضح: لم نأت بحاجة جديدة، بل كلها مما عندكم. قد يقول قائل: مادامت مما عندهم فما الداعي لها؟. نقول: لأن هناك جديدا في أقضية العصر التي لم تكن موجودة عندهم، والذي زاد هو معالجة تلك الأقضية الجديدة، ولكن أصل الإيمان موجود بالقرآن المعجز الذي ينزل من السماء؛ بالمعجزة، بالتوحيد، والقضايا العقدية، كل هذه لا يوجد فيها خلاف...
{يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا}، وكلمة "أوتوا الكتاب "إلزام لهم بالحجة، وتعني: نحن لا نكلمكم بكلام لا تعرفونه؛ لأنه يقول: "مصدقا لما معكم" إنهم يعلمون ما معهم جيدا، فكان من الواجب أن يقارنوا ويوازنوا ما جاء لهم من جديد على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عندهم، فإن وجدوه مصدقا لما عندهم فقد انتهت المسألة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تعقيباً على البحث السابق في الآية المتقدمة حول أهل الكتاب، وجه الخطاب في هذه الآية إليهم أنفسهم، إِذ قال سبحانه: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدّقاً لما معكم) أي آمنوا بالقرآن الكريم الذي تجدونه موافقاً لما جاء في كتبكم من العلامات والبشائر، ولا شك أنّكم أولى من غيركم ولديكم مثل هذه الأدلة والعلائم بالإِيمان بهذا الدين الطاهر. ثمّ إن الله سبحانه يهددهم بأنّ عليهم أن يخضعوا للحقّ ويذعنوا له قبل أن يُصابوا بإِحدى عقوبتين، الأُولى: أن تنمحي صورهم كاملة، وأن تذهب عنهم جوارحهم وأعضاؤهم التي يرون ويسمعون ويدركون بها الحق، كلّها ثمّ تقلب وجوههم إِلى خلف كما يقول سبحانه: (من قبل أن نطمس وجوهاً فنردّها على أدبارها). ولعلّنا لسنا بحاجة إِلى أن نذكر بأنّ المراد من هذه العبارة هو تعطل عقولهم وحواسهم من حيث عدم رؤية حقائق الحياة وإدراكها، والانحراف عن الصراط المستقيم كما جاء في حديث عن الإِمام الباقر (عليه السلام) من أنّ المراد: «نطمسها عن الهدى فنردّها على أدبارها في ضلالتها ذمّاً لها بأنّها لا تفلح أبداً». توضيح ذلك أنّ أهل الكتاب، وبخاصّة اليهود منهم، عندما أعرضوا عن الإِذعان بالحق رغم كل تلك العلائم والبراهين، وعاندوا تعنتاً واستكباراً وأظهروا مواقفهم المعاندة في أكثر من ساحة، صار العناد والزور طبيعتهم الثانية شيئاً فشيئاً، وكأن أفكارهم قد مسخت وكأن عيونهم قد عميت وآذانهم قد صمت، ومثل هؤلاء من الطبيعي أن يتقهقروا في طريق الحياة بدل أن يتقدموا، وأن يرتدوا على الأدبار بدل أن يتحركوا إِلى الأمام، وهذا هو جزاء كل من ينكر الحق عناداً وعتواً، وهذا في الحقيقة يشبه ما أشرنا اليه في مطلع سورة البقرة الآية (6). وعلى هذا، فإِن المراد من «الطمس وعفو الأثر والرّد على العقب» في الآية الحاضرة هو المحو الفكري والروحي، والتأخر المعنوي. وأمّا العقوبة الثانية التي هددهم الله بها فهي اللعن والطرد من رحمته تعالى إِذ قال: (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت). وهنا يطرح سؤال وهو: ما الفرق بين هذين التهديدين، حتى يفصل بينهما ب «أو»؟ ذهب بعض المفسّرين إِلى أنّ التهديد الأوّل ينطوي على جانب معنوي، والتهديد الثّاني ينطوي على جانب ظاهري ومسخ جسمي، وذلك بقرينة أن الله قال في هذه الآية: (كما لعنا أصحاب السبت) ونحن نعلم أن أصحاب السبت كما يتّضح من مراجعة الأعراف قد مسخوا مسخاً ظاهرياً وجسدياً. وذهب آخرون إِلى أن هذا اللعن والطرد من رحمة الله ينطوي أيضاً على جانب معنوي بفارق واحد، هو أنّ التهديد الأوّل إِشارة إِلى الانحراف والضلال والتقهقر الذي أصابهم، والتهديد الثّاني إِشارة إِلى معنى الهلاك والفناء (الذي هو أحد معاني اللعن).
خلاصة القول: إنّ أهل الكتاب بإِصرارهم على مخالفة الحق يسقطون ويتقهقرون أو يهلكون. ثمّ إِنّ هنا سؤالا آخر هو: هل تحقق التهديد في شأن هؤلاء، أم لا؟ لا شك أنّ التهديد الأوّل قد تحقق في شأن كثير منهم، وأمّا التهديد الثّاني فقد تحقق في بعضهم، ولقد هلك كثير منهم في الحروب الإِسلامية، وذهبت شوكتهم وقدرتهم. وإِنّ تأريخ العالم ليشهد كيف تعرضوا بعد ذلك لكثير من الضغوطات في البلاد المختلفة، وفقدوا الكثير من أفرادهم وعناصرهم، وخسروا الكثير من طاقاتهم، ولا يزالون إِلى الآن يعيشون في ظروف صعبة وأحوال قاسية. ثمّ إنّ الله يختم هذه الآية بقوله: (وكان أمر الله مفعولا) ليؤكّد هذه التهديدات، فإِنّه لا توجد قوّة في الأرض تستطيع أن تقف في وجه إِرادة الله ومشيئته.