معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخۡرِجَاكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِمَا وَيَذۡهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلۡمُثۡلَىٰ} (63)

قوله تعالى : { قالوا } وأسر بعضهم إلى بعض يتناجون { إن هذان لساحران } يعني : موسى وهارون . قرأ ابن كثير وحفص " إن " بتخفيف النون هذان . أي : ما هذان إلا ساحران كقوله " إن نظنك لمن الكاذبين " أي : ما نظنك إلا من الكاذبين ، ويشدد ابن كثير النون من هذان . وقرأ أبو عمرو " إن " بتشديد النون هذين بالياء على الأصل . وقرأ الآخرون : " إن " بتشديد النون هذان بالألف . واختلفوا فيه ، فروى هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أم المؤمنين أنه خطأ من الكاتب ، وقال قوم : هو لغة الحارث بن كعب ، وخثعم ، وكنانة ، فإنهم يجعلون الاثنين في موضع الرفع والنصب والخفض بالألف ، يقولون : أتاني الزيدان ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان ، فلا يتركون ألف التثنية في شيء منها وكذلك يجعلون كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ألفاً كما التثنية . يقولون : كسرت يداه وركبت علاه يعني : يديه وعليه وقال شاعرهم :

تزود مني بين أذناه ضربة دعته إلى هابي التراب عقيم يريد : بين أذنيه .

وقال آخر :

إن أباها وأبا أباها *** قد بلغا في المجد غايتاها

وقيل : تقدير الآية إنه هذان ، فحذف الهاء وذهب جماعة : إلى أن حرف ( إن ) ها هنا بمعنى :نعم . أي : نعم هذان . روي أن أعرابياً سأل ابن الزبير شيئاً ، فحرمه . فقال : لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال ابن الزبير إن وصاحبها ، أي : نعم . وقال الشاعر :

بكرت علي عواذلي *** يلمنني وألومهنه

ويقلن شيب قد علا *** ك وقد كبرت فقلت إنه

أي : نعم { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم } مصر { بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى } قال ابن عباس : يعني بسراة قومكم وأشرافكم يقال : هؤلاء طريقة قومهم . أي : أشرافهم والمثلى تأنيث الأمثل ، وهو الأفضل . حدث الشعبي ، عن علي قال : يصرفان وجوه الناس إليهما . قال قتادة : طريقتهم المثلى كان بنو إسرائيل يومئذ أكثر القوم عدداً وأموالاً ، فقال عدو الله : يريد أن يذهبا بهم لأنفسهم . وقيل : بطريقتكم المثلى . أي : بسنتكم ودينكم الذي أنتم عليه . والمثلى : نعت الطريق . تقول العرب : فلان على الطريقة المثلى يعني : على الصراط المستقيم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخۡرِجَاكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِمَا وَيَذۡهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلۡمُثۡلَىٰ} (63)

{ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } هذه لغة لبعض العرب ، جاءت هذه القراءة على إعرابها ، ومنهم من قرأ : " إنْ هَذَينِ لَسَاحِرَانِ " وهذه اللغة المشهورة ، وقد توسع النحاة في الجواب عن القراءة الأولى بما ليس هذا موضعه .

والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم : تعلمون{[19411]} أن هذا الرجل وأخاه - يعنون : موسى وهارون - ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر ، يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس ، وتتبعهما العامة ويقاتلا فرعون وجنوده ، فينتصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم .

وقوله : { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } أي : ويستبدا بهذه الطريقة ، وهي السحر ، فإنهم كانوا معظَّمين بسببها ، لهم أموال وأرزاق عليها ، يقولون :{[19412]} إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض ، وتفردا بذلك ، وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم .

وقد تقدم في حديث الفتون عن{[19413]} ابن عباس [ قال ]{[19414]} في قوله : { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } يعني : ملكهم الذي هم فيه والعيش .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا هُشَيْم ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، سمع الشعبي يحدث عن علي في قوله : { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } قال : يصرفا{[19415]} وجوه الناس إليهما .

وقال مجاهد : { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } قال : أولي الشرف والعقل والأسنان .

وقال أبو صالح : { بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } أشرافكم وسرواتكم . وقال عكرمة : بخيركم . وقال قتادة : وطريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل ، كانوا أكثر القوم عددا وأموالا فقال عدو الله : يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما .

وقال عبد الرحمن بن زيد : { بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } بالذي أنتم عليه .


[19411]:في ف أ: "يعلمون".
[19412]:في ف: "يقولان".
[19413]:في ف، أ: "أن".
[19414]:زيادة من ف، أ.
[19415]:في ف، أ: "يصرفان".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخۡرِجَاكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِمَا وَيَذۡهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلۡمُثۡلَىٰ} (63)

وقوله : { قالوا إن هذان لساحران } تفسير ل { أسروا النجوى } كأنهم تشاوروا في تلفيقه حذرا أن يغلبا فيتبعهما الناس ، و{ هذان } اسم إن على لغة بلحرث بن كعب فإنهم جعلوا الألف للتثنية وأعربوا المثنى تقديرا . وقيل اسمها ضمير الشأن المحذوف و { هذان لساحران } خبرها . وقيل { إن } بمعنى نعم وما بعدها مبتدأ وخبر وفيهما إن اللام لا تدخل خبر المبتدأ . وقيل أصله إنه هذان لهما ساحران فحذف الضمير وفيه أن المؤكد بلام لا يليق به الحذف ، وقرأ أبو عمرو إن " هذين " وهو ظاهر ، وابن كثير وحفص { إن هذان } على أنها هي المخففة و اللام هي الفارقة أو النافية واللام بمعنى إلا . { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم } بالاستيلاء عليها . { بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى } بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما لقوله { إني أخاف أن يبدل دينكم } وقيل أرادوا أهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم لقول موسى { أرسل معنا بني إسرائيل } وقيل الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم من حيث إنهم قدوة لغيرهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخۡرِجَاكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِمَا وَيَذۡهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلۡمُثۡلَىٰ} (63)

وقوله تعالى : { إن هذان لساحران } الآية ، قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «إنّ » مشددة النون «هذان » بألف ونون مخففة للتثنية . وقرأ أبو عمرو وحده «إن هذين لساحران » وقرأ ابن كثير «إن هذان » بتخفيف نون «إنْ » وتشديد نون «هذان لسحران » وقرأ حفص عن عاصم«إن » بالتخفيف «هذان » خفيفة أيضاً «لساحران » وقرأت فرقة «إن هذان إلا ساحران »{[8122]} ، وقرأت فرقة «إن ذان لساحران »{[8123]} ، وقرأت فرقة «ما هذان إلا ساحران » ، وقرأت فرقة «إن هذان » بتشديد النون من «هذان » . فأما القراءة الأولى فقالت فرقة قوله «إن » بمعنى نعم كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال في خطبته : «إن الحمدُ لله » فرفع الحمد{[8124]} وقال ابن الزبير إن وراكبها حين قال له الرجل فأبعد الله ناقة حملتني إليك ويلحق هذا التأويل أن اللام لا تدخل في خبر الابتداء وهو مما يجوز في الشعر ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]

أم الحليس لعجوز شهربه . . . ترضى من اللحم بعظم الرقبة{[8125]}

وذهبت فرقة إلى أن هذه الآية على لغة بلحارث وهو إبقاء ألف التثنية في حال النصب والخفض فمن ذلك قول الشاعر [ هوبر الحارثي ] : [ الطويل ]

تزود منها بين أذناه ضربة . . . دعته إلى هابي التراب عقيم{[8126]}

وقال الآخر : [ الطويل ]

فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى . . . مساغاً لنا باه الشجاع لصمما{[8127]}

وتعزى هذه اللغة لكنانة وتعزى لخثعم وقال الفراء الألف في «هذان » دعامة وليست بمجلوبة للتثنية وإنما هي ألف هذا تركبت في حال التثنية كما تقول الذي ثم تزيد في الجمع نوناً وتترك الياء في حال الرفع والنصب والخفض وقال الزجاج في الكلام ضمير تقديره إنه هذان لساحران .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا التأويل دخول اللام في الخبر وقال بعض النحاة ألف «هذان » مشبهة هنا بألف تفعلان وقال ابن كيسان لما كان هذا بحال واحدة في رفعه ونصبه وخفضه تركت تثنيته هنا كذلك ، وقال جماعة ، منهم عائشة رضي الله عنها وأبو بكر ، هذا مما لحن الكاتب فيه وأقيم بالصواب وهو تخفيف النون من أن ع وهذه الأقوال معترضة إلا ما قيل من أنها لغة ، و «إن » بمعنى أجل ونعم أو «إن » في الكلام ضميراً وأما من قرأ «إن » خفيفة فهي عن سيبويه المخففة من الثقيلة ويرتفع بعدها الاسم ، ويقول الفراء هي بمعنى ما واللام بمعنى إلا ووجه سائر القراءات بينّ . وعبر كثير عن المفسرين عن «الطريقة » بالسادة{[8128]} وأنها يراد بها أهل العقل والسن والحجى وحكوا أن العرب تقول فلان طريقة قومه أي سيدهم والأظهر في «الطريقة » هنا أنها السيرة والمملكة والحال التي هي عليها ، و { المثلى } تأنيث أمثل أي الفاضلة الحسنة .


[8122]:وهي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وتخريج هذه القراءة كالتخريج الذي سنذكره في الهامش التالي مباشرة.
[8123]:[إن] هي المخففة من الثقيلة، و [ذان] مبتدأ، و [لساحران] الخبر،واللام للفرق بين (إن) النافية و (إن) المخففة من الثقيلة على رأي البصريين، أما الكوفيون فيزعمون أن (إن) نافية وأن اللام بمعنى (إلا).
[8124]:روى القرطبي عن علي بن طالب رضي الله عنه أنه قال: "لا أحصي كم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على منبره: (إن الحمد لله، نحمده ونستعينه)،ثم يقول: (أنا أفصح قريش كلها، وأفصحها بعدي أبان بن سعيد بن العاص). فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: نعم. الحمد لله... وقد جرت عادة الخطباء في الجاهلية أن يفتتحوا خطبهم بقولهم: نعم، وقد روي كثير من الشعر الذي استعملت فيه (إن) بمعنى (نعم)، ومن ذلك قول عبد الله بن قيس الرقيات: بكر العوازل في الصبا ح يلمنني وألومهنه ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه وإجابة عبد الله بن الزبير لمن لعن ناقته: "إن وراكبها" معناها: نعم. ولعن راكبها.
[8125]:ينسب هذا الشعر إلى رؤبة، وهو في ديوانه المسمى: (مجموع أشعار العرب) تحت عنوان: "أبيات مفردات، وهي منسوبة إلى رؤبة بن العجاج"، وقيل: هو لعنترة بن عروس، وقيل: ليزيد بن ضبة. وهو في مغني اللبيب، واللسان، والخزانة، وابن عقيل. وأم الحليس: كنية امرأة، وشهربة: عجوز كبيرة. والشاهد أن اللام فيه دخلت على الخبر، ويقول ابن عطية هنا: إنه يجوز في الشعر، وكثير من النحويين يرفضون ذلك حتى في الشعر، ويقولون: إن اللام زائدة، أو هي ضرورة هنا، ولا يقاس عليه، وقيل: إنها لام الابتداء والتقدير: لهي عجوز، وقد أكثر النحويون من الكلام في هذا البيت، ومثله في هذا قول الشاعر: = خالي لأنت، ومن جرير خاله ينل العلاء ويكرم الأخوالا
[8126]:البيت لهوبر الحارثي، قال ذلك في اللسان (هبا) ـ واستشهد به على أن الهابي من التراب هو ما ارتفع ودق، وهوبر هذا من بني الحارث الذين يبقون ألف التثنية في حالي النصب والخفض كما ذكر ابن عطية، والشاهد هنا هو إبقاء الألف في كلمة (أذناه) مع أنها مجرورة بالإضافة، واللغة الفصيحة أن يقال: بين أذنيه، وقال بعض أهل اليمن: أي قلوص راكب تراها طاروا علاهن فطر علاها أي: طاروا عليهن فطر عليها، وقال النحاس: إن هذه اللغة معروفة، وقد حكاها من يرتضى بعلمه أو أمانته كأبي زيد الأنصاري، وأبي الخطاب الأخفش، والكسائي، والفراء.كلهم قالوا هذا على لغة بني الحارث بن كعب، ونقله القرطبي. ومن الشواهد المشهورة في ذلك ما أنشده الجوهري لأبي النجم: واها لريا ثم واها واها هي المنى لو أننى نلناها يا ليت عيناها لنا وفاها بثمن نرضي به أباها إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها فقد استعمل المثنى بالألف في حالة النصب في قوله: (غايتاها)، وكان القياس أن يقول: (غايتيها) لأنه مفعول الفعل (بلغ).
[8127]:البيت للمتلمس، وهو من قصيدة له يدافع فيها عن نسبه، ويمدح الرجل الغيور على كرمته، وفي مطلعها يقول: يعيرني أمي رجال ولا أرى أخا كرم إلا بأن يتكرما والشجاع: الحية، وصمم الشجاع في عضته: نيب ولم يترك ما عضه، ومساغ: مفعل من ساغ يسوغ، أي يسهل فعله، وهذا البيت يضرب مثلا للمفكر الذي يتروى في الأمور، يقول: إنه أطرق إطراق الحية، ولو أنه وجد مجالا لعضة نابية لفعل. والشاهد هنا أنه استعمل المثنى بالألف في حالة الخفض في قوله: (لناباه)، والقياس (لنابيه) وقد روي بها البيت.
[8128]:أي: سادة القوم ورؤسائهم.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخۡرِجَاكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِمَا وَيَذۡهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلۡمُثۡلَىٰ} (63)

جملة { قَالُوا إنْ هذان لساحران } بدل اشتمال من جملة { وأسَرُّوا النجوى } ، لأن إسرار النجوى يشتمل على أقوال كثيرة ذُكر منها هذا القول ، لأنّه القول الفصل بينهم والرأي الذي أرسوا عليه ، فهو زبدة مخيض النجوى . وذلك شأن التشاور وتنازع الآراء أن يسفر عن رأي يصدر الجميع عنه .

وإسناد القول إلى ضمير جمعهم على معنى : قال بعضهم : هذان لساحران ، فقال جميعهم : نعم هذان لسَاحران ، فأسند هذا القول إلى جميعهم ، أي مقالة تداولوا الخوض في شأنها فأرسوا عليها . وقال بعضهم لبعض : نعم هو كذلك ، ونطقوا بالكلام الذي استقرّ عليه رأيهم ، وهو تحققهم أنّ موسى وأخاه ساحران .

واعلم أنّ جميع القراء المعتبرين قرأوا بإثبات الألف في اسم الإشارة من قوله « هاذان » ما عدا أبا عمرو من العشرة وما عدا الحسن البصري من الأربعة عشر . وذلك يوجب اليقين بأن إثبات الألف في لفظ ( هذانِ ) أكثر تواتراً بقطع النظر عن كيفيّة النطق بكلمة ( إنّ ) مشدّدة أو مخفّفة ، وأن أكثر مشهور القراءات المتواترة قرأوا بتشديد نون ( إنّ ) ما عدا ابنَ كثير وحفصاً عن عاصم فهما قرءَا ( إنْ ) بسكون النون على أنها مخففة من الثقيلة .

وإن المصحف الإمام ما رسمُوه إلاّ اتّباعاً لأشهر القراءات المسموعة المروية من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقرّاء أصحابه ، فإن حفظ القرآن في صدور القرّاء أقدم من كتابته في المصاحف ، وما كتب في أصول المصاحف إلاّ من حفظ الكاتِبين ، وما كُتب المصحف الإمام إلا من مجموع محفوظ الحُفاظ وما كتبه كتاب الوحي في مدة نزول الوحي .

فأما قراءة الجمهور { إنّ هذان لساحران } بتشديد نون ( إنّ ) وبالألف في هذان وكذلك في لساحران ، فللمفسرين في توجيهها آراء بلغت الستّة . وأظهرها أن تكون ( إنّ ) حرف جواب مثل : نعم وأجَل ، وهو استعمال من استعمالات ( إنّ ) ، أي اتبعوا لما استقر عليه أمرهم بعد النّجوى كقول عبد الله بن قيس الرقيّات :

ويقلْن شيب قد عَلا *** كَ وقد كبِرت فقلت إنّه

أي أجل أو نعم ، والهاء في البيت هاءُ السّكْتتِ ، وقول عبد الله بن الزُبير لأعرابي استجداه فلم يعطه ، فقال الأعرابي : لعَن الله ناقة حملتني إليك . قال ابن الزّبير : إنّ وراكِبَها . وهذا التوجيه من مبتكرات أبي إسحاق الزجاج ذكره في « تفسيره » . وقال : عرضته على عالمينا وشيْخينا وأستاذيْنا محمد بن يزيد ( يعني المبرد ) ، وإسماعيل بن إسحاق بن حمّاد ( يعني القاضي الشهير ) فقبلاه وذكرا أنه أجود ما سمعاه في هذا .

وقلت : لقد صدقا وحقّقا ، وما أورده ابن جنّي عليه من الرد فيه نظر .

وفي « التفسير الوجيز » للواحدي سأل إسماعيل القاضي ( هو ابن إسحاق بن حمّاد ) ابنَ كيسان عن هذه المسألة ، فقال ابنُ كيسان : لما لم يظهر في المبهم إعرابٌ في الواحد ولا في الجمع ( أي في قولهم هذا وهؤلاء إذ هما مبنيان ) جرت التثنية مجرى الواحد إذ التثنية يجب أن لا تغيّر . فقال له إسماعيل : ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول فيه حتى يُؤْنس به فقال له ابنُ كيسان : فليقل به القاضي حتى يؤنس به ، فتبسم .

وعلى هذا التوجيه يكون قوله تعالى : { إنّ هَذانِ لسَاحِرانِ } حكايةً لمقال فريق من المتنازعين ، وهو الفريق الذي قبِل هذا الرأي لأنّ حرف الجواب يقتضي كلاماً سبقه .

ودخلت اللاّم على الخبر : إما على تقدير كون الخبر جملة حذف مبتدأها وهو مدخول اللام في التقدير ، ووجودُ اللاّم ينبىء بأن الجملة التي وقعت خبراً عن اسم الإشارة جملة قسميّة ؛ وإما على رأي من يجيز دخول اللام على خبر المبتدأ في غير الضرورة .

ووجهت هذه القراءة أيضاً بجعل ( إنّ ) حرف توكيد وإعراببِ اسمها المثنّى جَرى على لغة كنانة وبِلْحارث بن كعب الذين يجعلون علامة إعراب المثنى الألفَ في أحوال الإعراب كلها ، وهي لغة مشهورة في الأدب العربي ولها شواهد كثيرة منها قول المتلمّس :

فأطرقَ إطراقَ الشُجاع ولو درى *** مساغاً لِنَأبَاهُ الشجاعُ لصمّما

وقرأه حفص بكسر الهمزة وتخفيف نون ( إنْ ) مسكنة على أنها مخففة ( إنّ ) المشددة . ووجه ذلك أن يكون اسم ( إنْ ) المخففة ضمير شأن محذوفاً على المشهور . وتكون اللاّم في { لساحران } اللاّم الفارقة بين ( إنْ ) المخففة وبين ( إن ) النافية .

وقرأ ابن كثير بسكون نون ( إنْ ) على أنها مخففة من الثقيلة وبإثبات الألف في « هذان » وبتشديد نون ( هاذانّ ) .

وأما قراءة أبي عمرو وحده { إنَّ هذَيْن بتشديد نون ( إنّ ) وبالياء بعد ذال هذين . فقال القرطبي : هي مخالفة للمصحف . وأقل : ذلك لا يطعن فيها لأنّها رواية صحيحة ووافقت وجهاً مقبولاً في العربيّة .

ونزول القرآن بهذه الوجوه الفصيحة في الاستعمال ضرب من ضروب إعجازه لتجري تراكيبه على أفانين مختلفة المعاني متحدة المقصود . فلا التفات إلى ما روي من ادعاء أن كتابة إن هاذان خطأ من كاتب المصحف ، وروايتِهم ذلك عن أبانَ بن عثمان بن عفّان عن أبيه ، وعن عروة بن الزبير عن عائشة ، وليس في ذلك سند صحيح .

حسبوا أنّ المسلمين أخذوا قراءة القرآن من المصاحف وهذا تغفّل ، فإن المصحف ما كتب إلاّ بعد أن قرأ المسلمون القرآن نيّفاً وعشرين سنة في أقطار الإسلام ، وما كتبت المصاحف إلاّ من حفظ الحفّاظ ، وما أخذ المسلمون القرآن إلاّ من أفواه حُفّاظه قبل أن تكتب المصاحف ، وبعد ذلك إلى اليوم فلو كان في بعضها خطأ في الخطّ لما تبعه القراء ، ولكان بمنزلة ما تُرك من الألفات في كلمات كثيرة وبمنزلة كتابة ألف الصلاة ، والزكاة ، والحياة ، والرّبا بالواو في موضع الألف وما قرأوها إلاّ بألِفاتها .

وتأكيد السحرة كونَ موسى وهارون ساحرين بحرف ( إنّ ) لتحقيق ذلك عند من يخامره الشكّ في صحّة دعوتهما .

وجعل ما أظهره موسى من المعجزة بين يدي فرعون سحراً لأنّهم يطلقون السحر عندهم على خوارق العادات ، كما قالت المرأة الّتي شاهدت نبع الماء من بين أصابع النبي لقومها : جئتكم من عندِ أسْحر النّاس ، وهو في كتاب المغازي من « صحيح البخاري » .

والقائلون : قد يكون بعضهم ممن شاهد ما أتى به موسى في مجلس فرعون ، أو ممن بلغهم ذلك بالتسامع والاستفاضة .

والخطاب في قوله { أن يُخْرِجَاكُم } لملئهم . ووجه اتهامهما بذلك هو ما تقدم عند قوله تعالى : { قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى } [ طه : 57 ] . ونزيد هنا أن يكون هذا من النجوى بين السحرة ، أي يريدانِ الاستئثار بصناعة السحر في أرضكم فتخرجوا من الأرض بإهمال الناس لكم وإقبالهم على سحر موسى وهارون .

والطريقة : السُّنّة والعادة ؛ شبهت بالطريق الذي يسير فيه السائر ، بجامع الملازمة .

والمثلى : مؤنّث الأمثل . وهو اسم تفضيل مشتقّ من المَثَالة ، وهي حسن الحالة يقال : فلان أمثل قومِه ، أي أقربهم إلى الخير وأحسنهم حالاً .

وأرادوا من هذا إثارة حمية بعضهم غيرة على عوائدهم ، فإن لكلّ أمّة غيرة على عوائدها وشرائعها وأخلاقها . ولذا فرّعوا على ذلك أمرهم بأن يجمعوا حيلهم وكل ما في وسعهم أن يغلبوا به موسى .

والباء في { بطريقتكم } لتعدية فعل { يذهبا } . والمعنى : يُذهبانها ، وهو أبلغ في تعلّق الفعل بالمفعول من نصب المفعول . وتقدّم عند قوله تعالى : { ذهب الله بنورهم } في سورة البقرة ( 17 ) .