الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخۡرِجَاكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِمَا وَيَذۡهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلۡمُثۡلَىٰ} (63)

قوله : { إِنْ هَذَانِ } : اختلف القُرَّاءُ في هذه الآيةِ الكريمة : فقرأ ابن كثيرٍ وحدَه " إنْ هذانِّ " بتخفيف إنْ ، والألفِ ، وتشديدِ النون . وحفصٌ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف نونَ " هذانٍ " . وقرأ أبو عمرو " إنَّ " بالتشديد " هذين " بالياء وتخفيفِ النون . والباقون كذلك إلاَّ أنهم قَرَؤوا/ " هذان " بالألف .

فأَمَّا القراءةُ الأولى وهي قراءةُ ابنِ كثير وحفص فأوضحُ القراءاتِ معنىً ولفظاً وخَطَّاً ؛ وذلك أنهما جعلا " إنْ " المخففةَ من الثقيلة فَأُهْمِلَتْ ، ولَمَّا أُهْمِلَتْ كما هو الأفصحُ مِنْ وجهيها خِيْفَ التباسُها بالنافية فجيء باللامِ فارقةً في الخبر . ف " هذان " مبتدأٌ ، و " لَساحران " خبرُه ، ووافَقَتْ خَطَّ المصحفِ ؛ فإن الرسم " هذن " بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ وسيأتي بيانُ ذلك .

وأمَّا تشديدُ نونِ " هذان " فعلى ما تقدَّم في سورةِ النساءِ ، وقد أَتْقَنتُ ذلك هناك .

وأمَّا الكوفيون فيزعمون أنَّ " إنْ " نافيةٌ بمعنى ما ، واللامُ بمعنى إلاَّ ، وهو خلافٌ مشهورٌ وقد وافقَ تخريجُهم هنا قراءةَ بعضِهم " ما هذانِ إلاَّ ساحران " .

وأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فواضحةٌ من حيث الإِعرابُ والمعنى . أمَّا الإِعرابُ ف " هذَيْن " اسمُ " إنَّ " وعلامةُ نصبِه الياءُ . و " لَساحِران " خبرُها ، ودخَلَتِ اللام توكيداً . وأمَّا مِنْ حيث المعنى : فإنَّهم أَثْبتوا لهما السحرَ بطريق تأكيديٍّ من طرفيه ، ولكنهم استشكلُوها من حيث خَطُّ المصحفِ ؛ وذلك أنَّ رَسْمَه " هذن " بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ ، فإثباتُه بالياءِ زيادةٌ على خطِّ المصحفِ . قال أبو إسحاق : " لا أُجيز قراءةَ أبي عمرو لأنَّها خلافُ المصحفِ " . وقال أبو عبيد : " رأيتُهما في الإِمام مصحفِ عثمان " هذن " ليس فيها ألفٌ ، وهكذا رأيتُ رفعَ الاثنين في ذلك المصحفِ بإسقاط الألفِ ، وإذا كتبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء ، ولا يُسْقِطونها " .

قلت : وهذا لا ينبغي أَنْ يُرَدَّ به على أبي عمرو ، وكم جاء في الرسم أشياءُ خارجةٌ عن القياسِ ، وقد نَصُّوا هم أنه لا يجوزُ القراءةُ بها فليكنْ هذا منها ، أعني ممَّا خَرَجَ عن القياس . فإن قلتَ : ما نَقَلْتَه عن أبي عبيد مشتركُ الإِلزامِ بين أبي عمروٍ وغيرِه ، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادةِ الياء يُعْترض عليهم بزيادةِ الألفِ : فإنَّ الألفَ ثابتةٌ في قراءتِهم ، ساقطةٌ من خَطِّ المصحفِ . فالجواب ما تقدَّم مِنْ قولِ أبي عبيدٍ أنهم رآهم يُسْقِطون الألفَ مِنْ رفع الاثنين ، فإذا كتُبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء .

وذهب جماعةٌ منهم عائشةُ رضي الله عنها وأبو عمروٍ إلى أن هذا ممّا لَحَنَ فيه الكاتبُ وأُقيم بالصواب .

يَعْنُون أنه كان مِنْ حقه أن يكتبَه بالياءِ فلم يفعلْ ، فلم يقرَأْه الناسُ إلاَّ بالياءِ على الصوابِ .

وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه ، أحدُها : أن " إنَّ " بمعنى نَعَمْ ، و " هذان " مبتدأٌ ، و " لَساحران " خبرُه ، وكَثُرَ ورودُ " إنَّ " بمعنى نعم وأنشدوا :

بَكَرَ العَواذِلُ في المَشِيْ *** بِ يَلُمْنَني وأَلوْمُهُنَّهْ

ويَقلْن شَيْبٌ قد عَلا *** كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ

أي : فقلت : نَعَمْ . والهاءُ للسَّكْتِ . وقال رجلٌ لابن الزبير : لَعَن اللهُ ناقةً حَمَلَتْني إليكَ . فقال : " إنَّ وصاحبَها " أي : نعم . ولَعَنَ صاحبَها . وهذا رأيُ المبردِ وعلي بن سليمان في آخرين . وهو مردودٌ من وجهين ، أحدهما : عدمُ ثبوتِ " إنَّ " بمعنى نعم ، وما أوردُه مُؤَوَّلٌ : أمَّا البيتُ فإنّ الهاءَ اسمُها ، والخبرَ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرُه : إنه كذلك . وأمَّا قولُ ابنِ الزبير فذلك مِنْ حَذْفِ المعطوفِ عليه وإبقاءِ المعطوف وحَذْفِ خبر " إنَّ " للدلالةِ عليه ، تقديره : إنَّها وصاحَبها ملعونان ، وفيه تكلُّفٌ لا يَخْفَى والثاني : دخولُ اللامِ على خبرِ المبتدأ غيرِ المؤكَّد ب " إنَّ " المكسورةِ ، لأَنَّ مثلَه لا يقعُ إلاَّ ضرورةً كقولِه :

أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ *** تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ الرَّقَبَهْ

وقد يُجاب عنه : بأنَّ " لَساحِران " يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ دَخَلَتْ عليه هذه اللامُ تقديرُه : لهما ساحران . وقد فعل ذلك الزجاج كما ستأتي حكايتُه عنه .

الثاني : أنَّ اسمَها ضميرُ القصةِ وهو " ها " التي قبل " ذان " وليست ب " ها " التي للتنبيهِ الداخلةِ على أسماءِ الإِشارةِ ، والتقدير : إنَّ القصةَ ذانِ لساحران . وقد رَدُّوا هذا من وجهين ، أحدهما : من جهةِ الخَطِّ ، وهو أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن تُكتبَ " إنها " فيصِلوا الضميرَ بالحرفِ قبلَه كقوله تعالى : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ } [ الحج : 46 ] فكَتْبُهم إياها مفصولةً من " إنَّ " متصلةً باسمِ الإِشارة يمنع كونَها ضميراً ، وهو واضح . الثاني : أنَّه يؤدِّي إلى دخولِ لامِ الابتداءِ في الخبرِ غيرِ المنسوخِ . وقد يُجاب عنه بما تقدَّم .

الثالث : أنَّ اسمَها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ ، والجملةُ من المبتدأ والخبرِ بعدَه في محلِّ رفعٍ خبراً ل " إنَّ " ، التقديرُ : إنَّه ، أي : الأمرُ والشأنُ . وقد ضُعِّفَ هذا بوجهين ، أحدهما : حَذْفُ اسمِ " إن " ، وهو غيرُ جائزٍ إلاَّ في شعرٍ ، بشرطِ أَنْ لا تباشرَ " إنَّ " فعلاً كقولِه :

إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكنيسةَ يوماً *** يَلْقَ فيها جَآذراً وظِباءَ

/ والثاني : دخولُ اللام في الخبرِ .

وقد أجابَ الزجَّاج بأنها داخلةٌ على مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : لهما ساحران . وهذا قد استحسنه شيخُه المبردُ ، أعني جوابَه بذلك .

الرابع : أنَّ " هذان " اسمُها ، و " لَساحران " خبرُها . وقد رُدَّ هذا بأنه كان ينبغي أَنْ يكونَ " هذين " بالياءِ كقراءةِ أبي عمرو .

وقد أُجيب عن ذلك : بأنه على لغةِ بني الحارثِ وبين الهُجَيْم وبني العَنْبر وزُبَيْد وعُذْرَة ومُراد وخَثْعَم . وحكى هذه اللغةَ الأئمةُ الكبارُ كأبي الخَطَّاب وأبي زيد الأنصاري والكسائي . قال أبو زيد : " سمعتُ من العربِ مَنْ يَقْلِبُ كلَّ ياءٍ ينفتح ما قبلها ألفاً " ، يجعلون المثنى كالمقصورِ فيُثْبِتون ألفاً في جميع أحواله ، ويُقَدِّرون إعرابَه بالحركاتِ ، وأنشدوا قولَه :

فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يَرَى *** مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ لصَمَّما

أي : لنابَيْه . وقولَه :

إنَّ أباها وأبا أباها *** قد بَلَغا في المجدِ غايتاها

أي : غايتيهما ، إلى غير ذلك من الشواهد .

وقرأ ابن مسعود : " أنْ هذان ساحِران " بفتح " أَنْ " وإسقاط اللامِ : على أنها وما في حَيِّزها بدلٌ من " النجوى " كذا قاله الزمخشري ، وتبعه الشيخ ولم ينكره . وفيه نظرٌ : لأنَّ الاعتراضَ بالجملة القولية بين البدلِ والمبدلِ منه لا يَصِحُّ . وأيضاً فإنَّ الجملةَ القوليةَ مفسرةٌ للنجوى في قراءةِ العامَّة ، وكذا قاله الزمخشريُّ أولاً فكيف يَصحُّ أَنْ يُجْعَلَ " أنْ هذان ساحران " بدلاً من " النجوى " ؟ .

قوله : { بِطَرِيقَتِكُمُ } الباءُ في " بطريقتكم " مُعَدِّيَةٌ كالهمزة . والمعنى : بأهلِ طريقتكم . وقيل : الطريقةُ عبارةُ عن السَّادة فلا حَذْفَ .