قوله : { إنْ هَذَانِ } اختلف القراء في هذه الآية فقرأ بن كثير وحده : " إنْ هَذَانِ " بتخفيف " إنْ " والألف وتشديد النون . وحفص{[25194]} كذلك إلا أنه خفف نون " هذانِ " وقرأ أبو عمر " إنَّ " {[25195]} بالتشديد " هَذَيْنِ " بالياء وتخفيف النون . والباقون كذلك إلا أنهم قرءوا " هذانِ " بالألف{[25196]} .
فأما القراءة الأولى ، وهي قراءة ابن كثير وحفص فأوضح{[25197]} القراءات معنًى ولفظاً وخطاً ، وذلك أنهما جعلا ( إن ) المخففة من الثقيلة فأهملت ، ولما أهملت كما هو الأفصح من وجهها خيف التباسها بالنافية فجيء باللام فارقةً في الخبر{[25198]} ، ف " هَذَانِ " مبتدأ ، و " لَسَاحِرَانِ " خبره ، ووافقت خط المصحف ، فإن الرسم " هَذَانِ " مبتدأ ، و " لَسَاحِرَانِ " خبره ، ووافقت خط المصحف ، فإن الرسم " هَذَانِ " دون ألف ولا{[25199]} ياء ( وسيأتي بيان ذلك ){[25200]} .
وأما تشديد نون " هَذَانِّ " فعلى ما تقدم في سورة النساء{[25201]} متقناً ، وأما الكوفيون فيزعمون أنَّ " أنْ " نافية ( بمعنى ( ما ) ) {[25202]} واللام ( بمعنى ){[25203]} ( إلا ){[25204]} وهو خلاف مشهور{[25205]} ، وقد وافق تخريجهم هنا قراءة بعضهم { مَا هَذَانِ إلاَّ ساَحِرَانِ }{[25206]} .
وأما قراءة أبي عمرو فواضحة من حيث الإعراب والمعنى ، أما الإعراب ف " هَذَيْنِ " اسم " إنَّ " وعلامة نصبه{[25207]} الياء ، و " لَسَاحِرَانِ " خبرها ، ودخلت اللام توكيداً ، وأما من حيث المعنى فإنهم أثبتوا لهما السحر بطريق تأكيدي من طرفيه{[25208]} ، ولكنهم استشكلوها من حيث{[25209]} خط المصحف ، وذلك أنه رسم " هَذَانِ " بدون ألف ولا ياء ، فإتيانه بالياء زيادة على خط المصحف .
قال أبو إسحاق{[25210]} : لا أجيز قراءة أبي عمرو لأنها خلاف المصحف{[25211]} .
وقال أبو عبيد : رأيتها في الإمام مصحف عثمان{[25212]} " هَذَانِ " ليس فيها ألف وهكذا رأيت رفع الاثنين في ذلك المصحف بإسقاط الألف ، وإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء ولا يسقطونها{[25213]} .
قال{[25214]} شهاب الدين : وهذا لا ينبغي أن يرد به على أبي عمرو ، وكم جاء في الرسم أشياء خارجة عن القياس ، وقد نَصُّوا على أنه لا يجوز القراءة بها ، فليكن هذا{[25215]} منها أعين : مما خرج عن القياس ، فإن قلت{[25216]} ما نقلته عن أبي عبيد مشترك الإلزام بين أبي عمرو وغيره ، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادة الياء يعترض عليهم بزيادة الألف ، فإن الألف ثابتة في قراءتهم ساقطة{[25217]} من خط المصحف .
فالجواب ما تقدم من قول أبي عبيد أنه رآهم يسقطون الألف من رفع الاثنين فإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء ، وذهب جماعة منهم عائشة -رضي الله عنها- وأبو عمرو إلى هذا مما لَحَن فيه الكاتب وأفهم بالصواب{[25218]} يعنون أنه كان من حقه أن يكتبه بالياء فلم{[25219]} يفعل ، فلم يقرأه الناس إلا بالياء على الصواب{[25220]} .
وأما قراءة الباقين ففيها أوجه :
أحدها{[25221]} : أنَّ " إنَّ " بمعنى نَعَمْ ، و " هَذَانِ " {[25222]} مبتدأ ، و " لَسَاحِرَانِ " خبره ، وكن ورود " إنَّ " بمعنى نَعَم قوله :
بَكَرَ العَوَاذِلُ في المَشي *** بِ يَلُمْنَنِي وَألُومُهُنَّهْ
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَ *** كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْ{[25223]}
أي فقلت : نعم ، والهاء للسكت ، وقال رجل لابن الزبير : لعن الله ناقةً حَمَلَتْنِي{[25224]} إليك . إنَّ صاحِبَها . أي نَعَم ولعَنَ صاحبَها{[25225]} .
وهذا رأي المبرد{[25226]} وعلي بن سليمان .
أحدهما{[25227]} : عدم ثبوت " إنَّ " بمعنى " نَعَمْ " {[25228]} وما أوردوه{[25229]} يؤول ، أما البيت فإن الهاء اسمها ، والخبر محذوف لفهم المعنى تقديره : إنَّه{[25230]} كذلك ، وأما قول ابن الزبير فذاك{[25231]} من حذف المعطوف عليه وإبقاء المعطوف ، وحذف خبر " إنَّ " للدلالة عليه تقديره : إنها وصاحبها ملعونان وفيه تكلف لا يخفى .
والثاني : دخول اللام على خبر المبتدأ دون المؤكد بأنَّ المكسورة ، لأن مثله لا يقع إلا ضرورة ، كقوله :
أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ *** تَرْضَى مِنَ اللَّحْمِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ{[25232]}
وقد يجاب عنه بأنَّ " لَسَاحِرَانِ " يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف دخلت عليه هذه اللام تقديره لَهُمَا ساحران ، وقد فعل ذلك الزجاج كما{[25233]} سيأتي حكايته عنه{[25234]} .
الثاني : أنَّ اسمها ضمير القصة وهو " ها " التي قبل " ذَان " ِ ، وليست ب " ها " التي{[25235]} للتنبيه الداخلة على أسماء الإشارة ، والتقدير : إنها{[25236]} القصة ذَانِ لسَاحِرَانِ{[25237]} .
وقد ردوا{[25238]} هذا من وجهين :
أحدهما : من جهة الخط ( وهو أنه ){[25239]} لو{[25240]} كان كذلك لكان ينبغي أن يكتب إنها ، فيصلوا الضمير بالحرف قبله كقوله تعالى : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار }{[25241]} فكتبهم إياها مفصولة من " إنَّ " {[25242]} متصلة باسم الإشارة يمنع كونها ضميراً وهو أوضح .
الثاني : أنه يؤدي{[25243]} إلى دخول لام الابتداء في الخبر غير{[25244]} المنسوخ وقد يجاب عنه بما تقدم{[25245]} .
الثالث : أن اسمها{[25246]} ضمير الشأن محذوف والجملة من المبتدأ والخبر بعده في محل رفع{[25247]} خبر{[25248]} لأن التقدير : إنه أي : الأمر والشأن . وقد ضعف هذا بوجهين :
أحدهما : حذف اسم " إنَّ " وهو غير جائز إلا في شعرٍ بشرط أن لا تباشر " إنَّ " فعلاً ، كقوله :
إنَّ{[25249]} مَنْ يَدْخُل الكَنِيسَةَ يَوْماً *** يَلْقَ فِيهَا جَآذِراً وَظِبَاءا{[25250]}
والثاني : دخول اللام في الخبر ، وقد أجاب الزجاج بأنها داخلة على مبتدأ محذوف تقديره : لَهُمَا سَاحِرَانِ ، وهذا قد استحسنه شيخه المبرد أعني جوابه بذلك{[25251]} .
الرابع : أنَّ " هَذَانِ " اسمها و " لَسَاحِرَانِ " خبرها .
وقد رد هذا بأنه كان ينبغي أن يكون " هَذَيْنِ " بالياء كقراءة أبي عمرو ، وقد أجيب عن ذلك بأنه على لغة{[25252]} بني الحرث وبني الصَّخم وبني العنبر وزبيد وعذرة وسراة وخثعم وكِنَانَة{[25253]} ، وحكى هذه اللغة{[25254]} الأئمة الكبار كأبي الخطاب{[25255]} وأبي زيد الأنصاري ( والكسائي{[25256]} ){[25257]} .
قال أبو زيد : سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح{[25258]} ما قبلها ألفاً ، يجعلون المثنى كالمقصور ، فيثبتون ألفاً في جميع أحواله ، ويقدرون إعرابه بالحركات{[25259]} ، وأنشدوا قوله :
فَأَطْرَقَ إطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ يَرَى *** مَسَاغاً لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا{[25260]}
إنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا *** قَدْ بَلَغَا في المَجْدِ غَايَتَاهَا{[25261]}
قال الفراء{[25262]} : وحكى بعض بني أسد{[25263]} قال : هذا خطُّ يدَا خطُّ أخي أعرفه{[25264]} وقال قطرب : هؤلاء يقولون : رأيتُ رجلاَنِ ، واشتريت ثوبَانِ قال : وقال رجل من بني ضبة جاهليّ :
( أعْرِفُ مِنْهَا الأنْفَ وَالعَيْنَانَا *** وَمَنْخِرَيْنِ أَشْبَهَا ظَبْيَانَا{[25265]} ){[25266]}
كَأنَّ صَرِيفَ نَابَاهُ إذَا مَا *** أَمَرَّهُمَا قَدِيمَ الخَطْبَانِ{[25267]}
( الخطبان : ذكر الصِّرْدَان ){[25268]} .
وروى ابن جني عن قطرب{[25269]} :
هِيَّاكَ أنْ تَبْكِي بِشَعْشَعَانِ *** خَبِّ الفُؤَادِ{[25270]} مَائِلِ اليَدَانِ{[25271]}
قال الفراء : وذلك -وإن كان قليلاً- أقيس{[25272]} . لأن ما قبل حرف التثنية مفتوح فينبغي أن يكون ما بعده ألفاً{[25273]} لانفتاح ما قبلها . وذكر{[25274]} قطرب أنهم يفعلون ذلك فراراً{[25275]} إلى الألف التي هي أخف حروف المد{[25276]} ويقولون : كسرتُ يداه ، وركبتُ علاه ، يعني يديه{[25277]} وعليه ، وقال شاعرهم{[25278]} :
تَزَوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أذْنَاهُ ضَرْبَةً *** دَعَتْهُ إلى هَابِي{[25279]} التُّرَابِ عَقِيم{[25280]}
إلى غير ذلك من الشواهد{[25281]} .
واستدل{[25282]} لقراءة أبي عمرو بأنها قراءة عثمان وعائشة وابن الزبير وسعيد بن جبير ، روى هشام بن عروة{[25283]} عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سئلت عن قوله تعالى : { إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } وعن قوله : { إنّ الذين آمنوا والذين هادوا( والصابئون والنصارى } {[25284]} ){[25285]} ( في المائدة ){[25286]} ، وعن{[25287]} قوله : { لكن{[25288]} الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ }{[25289]} إلى قوله : { والمقيمين الصلاة{[25290]} والمؤتون الزكاة }{[25291]} ، فقالت : يا ابن أخي هذا خطأ من الكاتب{[25292]} . وروي عن عثمان أنه نظر في المصحف ، فقال : أرى فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها{[25293]} .
وعن ابن عمرو أنه قال : إنِّي لأَسْتَحي أن أقرأ { أنْ هذان لَسَاحِرَانِ }{[25294]} .
وقرأ ابن مسعود : " وَأسَرُّوا النَّجْوَى أنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ " بفتح " أن " وإسقاط اللام على أنها وما في خبرها بدل من " النَّجْوَى " كذا قاله الزمخشري{[25295]} ، وتبعه أبو حيان ولم ينكره{[25296]} ، وفيه نظر ، لأن الاعتراض{[25297]} بالجملة القولية بين البدل والمبدل منه لا يصح .
وأيضا : فإن الجملة القولية ممفسرة للنجوى في قراءة العامة . وكذا قاله الزمخشري أولاً{[25298]} فكيف يصح أن يجعل { أنْ هذان لَسَاحِرَانِ } بدلاً من النجوى ؟
وقرأ{[25299]} حفص عن عاصم بتخفيف النونين{[25300]} .
وعن الأخفش : { إنْ هذان لَسَاحِرَانِ } خفيفة بمعنى ثقيلة{[25301]} وهي لغة لقوم{[25302]} يرفعون بها ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التي تكون في معنى ( ما ){[25303]} .
وروي عن{[25304]} ابن أبي كعب { ما هذان إلاَّ لَسَاحِرَانِ } ، وروي عنه أيضاً { إنْ هذان إلاَّ لَسَاحِرَانِ } ، وعن الخليل بمثل{[25305]} ذلك{[25306]} .
وعنة أُبَيِّ أيضاً : { إنْ ذَانِ لَسَاحِرَانِ }{[25307]} .
فصل{[25308]}
قال المحققون : هذه القراءات لا يجوز تصحيحها ، لأنها منقولة{[25309]} بطريق الآحاد ، والقرآن يجب أن يكون منقولاً بالتواتر ، ولو جوزنا إثبات زيادة{[25310]} في القرآن بطريق الآحاد لما أمكننا القطع بأن هذا الذي هو عندنا كل القرآن ، لأنه لما جاز في هذه{[25311]} القراءات أنها من القرآن مع كونها ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك .
فثبت أن تجويز كون هذه القراءات من القرآن يطرق{[25312]} جواز الزيادة والنقصان والتغيير في القرآن ، وذلك يُخرج القرآن عن كونه حجة ، ولما كان ذلك باطلاً فكذلك{[25313]} ما قرئ{[25314]} .
وأما الطعن في القراءة المشهورة{[25315]} فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن ، وذلك يُفضِي إلى القدح في التواتر ، وإلى القدح في كل القرآن ، وهو باطل ، وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضاً بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة .
وأيضاً : فإن المسلمين أجمعوا على أنَّ ما بين الدفتين كرمُ الله ، وكلام الله لا يجوز أن يكون لحناً وغلطاً{[25316]} ولذلك ذكر النحويون وجه تصحيح{[25317]} القراءة المشهورة كما تقدم{[25318]} .
اعلم أنه تعالى{[25319]} لما ذكر ما أسروه من النجوى حكى عنهم ما أظهروه بما يدل على التنفير{[25320]} عن متابعة موسى ، وهو أمور :
أحدها : قولهم { إنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ } وهذا طعن منهم في معجزات{[25321]} موسى ومبالغة في التنفير عنه ، لأن كل طبع سليم ينفر عن السحر وعن رؤية الساحر{[25322]} لأنَّ الإنسان يعلم أن السِّحْر لا بقاء له ، فإذا اعتقدوا فيه السحر قالوا : كيف نتبعه ، وهو لا بقاء له ولا لدينه ؟
وثانيها{[25323]} : قوله : { يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } وهذا نهاية التنفير ، لأن مفارقة الوطن والمنشأ شديدة على القلب . وهذا كقول فرعون : تُرِيدُ أنْ تُخْرِجَنَا مِنْ أرْضِنَا يا مُوسَى ، فكأنَّ السحرة تلقفوا{[25324]} هذه الشبهة من فرعون ثم أعادوها .
وثالثها : قوله : { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى } ، وهذا أيضاً له تأثير شديد في القلب ، فإن العدو إذا استولى على جميع المناصب والأشياء التي يرغب فيها كذلك يكون في نهاية{[25325]} المشقة على القلب{[25326]} . قال{[25327]} ابن عباس : يَعْني براءة قومِكم وأشْرَافِهم يقال : هؤلاء طريقة قومهم أي : أشْرَافُهُمْ{[25328]} .
والمُثْلَى تأنيثُ الأمْثَلِ ( وهو الأفضل{[25329]} . وسمي بالأفضل بالأمثل ) {[25330]} ، لأن الأمثل هو الأشبه بالحق وقيل{[25331]} : الأَمْثَلُ : الأوضح الأظهر{[25332]} وحدث الشعبي{[25333]} عن عليٍّ قال : يصرفان وجوه الناس إليهما{[25334]} .
وقال قتادة : " طَرِيقَتُكُمْ المثْلَى " يومئذ بنو إسرائيل{[25335]} ، كانوا{[25336]} أكثر القوم عدداً ( وأموالاً ){[25337]} ، فقال عدو الله يريد أن يذهبا بهم لأنفسهم{[25338]} .
وقيل : بطريقتكم أي بسنتكم ودينكم{[25339]} الذي أنتم عليه{[25340]} . والمُثْلَى : نعت الطريقة ، تقول العرب : فلان على الطريقة المُثْلَى يعني على الهدى المستقيم{[25341]} .
وقيل : الطريقة المُثْلى الجاه والمنصب والرياسة .
قوله : { بِطَرِيقَتِكُمْ } الياء مُعَدِّية كالهمزة ، والمعنى بأهل طريقتكم . قال الزجاج : هذا من باب حذف المضاف{[25342]} . وإذا كانت الطريقة عبارة عن العادة فلا حذف .