ثم قال تعالى ذكره : { قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم }[ 62 ] .
أي : قالت السحرة في سرهم وتناجيهم : إن موسى وهارون ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرها .
وفي حرف ابن مسعود ( إن هذان/ إلا ساحران ){[45209]} : أي : ما هذان يخفف ( إن ) يجعلها بمعنى ما .
ومن شدد ( إن ) ورفع ( هذان ){[45210]} فقد خرج العلماء فيها{[45211]} سبعة أقوال : فالأول{[45212]} : أن يكون بمعنى{[45213]} نعم . حكى سيبويه أن ( إن ) تأتي{[45214]} بمعنى أجل . واختار هذا القول المبرد وإسماعيل القاضي{[45215]} والزجاج وعلي بن سليمان{[45216]} .
واستبعد الزجاج قراءة أبي عمرو{[45217]} ( إن هذين ) لمخالفتها للمصحف{[45218]} .
وقال علي بن أبي طالب : لا أحصي كم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على منبره يقول{[45219]} : " إن الحمد لله نحمده ونستعينه " ، يعني يرفع الحمد يجعل ( إن ) بمعنى ( أجل ) .
ومعنى : أجل : نعم . ثم يقول : أنا أفصح قريش كلها ، وأفصحها بعدي سعيد بن إبان بن العاصي . وكذلك كانت خطباء الجاهلية تفتتح{[45220]} خطبها ب( نعم ){[45221]} ، وكذلك وقعت في أشعارها . قال الشاعر{[45222]} :
قال غدرت ، فقلت : إن وربما *** نال العلي وشقى الخليل{[45223]} الغادر
وقال ابن قيس الرقيات{[45224]} :
بكرت على عواذ لي *** يلحينني وألومهنه
ويقلن شيب قد علاك *** وقد كبرت فقلت إنه
وأنشد ثعلب{[45225]} :
ليت شعري هل للمحب شفاء *** من جوى حبهن إن اللقاء
أي : نعم{[45226]} .
فهذا قول حسن لولا دخول اللام في الخبر .
وقد قيل : إن اللام يراد بها التقديم ، وهو أيضا بعيد ، إنما يجوز التقديم في اللام وهي مؤخرة{[45227]} في الشعر .
لكن الزجاج قال{[45228]} : التقدير : نعم هذان لهما ساحران . فتكون{[45229]} اللام داخلة على الابتداء في المعنى ، كما قال : أم الحليس لعجوز شهربة{[45230]} .
وقيل{[45231]} : إن اللام يراد بها التقديم .
وقيل : هي في موضعها ، و( العجوز ) مبتدأ ، وشهربة{[45232]} الخبر ، والجملة خبر عن اللام .
والقول الثاني : ما حكاه أبو زيد والكسائي والأخفش والفراء{[45233]} أنها لغة لبني الحارث بن كعب ، يقولون : رأيت الزيدان ومررت بالزيدان ، وأنشدوا{[45234]} .
- فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى *** مساغا لنا باه الشجاع لصمما
وأنشدوا أيضا{[45235]} :
- تزود منا بين أذناه طعنة على *** رأسه تلقى العظام{[45236]} من الفم .
وحكى أبو الخطاب{[45237]} أنها{[45238]} لغة لبني كنانة{[45239]} .
وحكى غيره{[45240]} أنها{[45241]} لغة خثعم . وهذا القول قول ، حسن ، لا نطعن فيه لثقة الناقلين لهذه اللغة ، وتواتر نقلهم واتفاقهم على ذلك ، وقد نقلها أبو زيد ، وكان سيبويه إذ قال حدثني من أثق به{[45242]} ، فإياه يعني .
ورواه الأخفش{[45243]} ، وهو ممن روى عنه سيبويه ، وقول سيبويه في ألف التثنية أنها حرف الأعراب ، يدل على أن حكمها لا تتغير{[45244]} عن لفظها ، كما لا تتغير الدال من زيد ، فجاءت في هذه الآية على الأصل ، كما جاء ( استحوذ ) على الأصل .
والقول الثالث : قاله الفراء{[45245]} . قال : الألف في ( هذان ) دعامة ، ليست بلام الفعل ، فزدت{[45246]} عليها نونا ولم أغيرها ، كما قلت ( الذي ) ثم{[45247]} زدت{[45248]} عليه نونا ، ولم أغيرها . فقلت ( الذين ) في الرفع والنصب والجر .
والقول الرابع : يحكى عن بعض الكوفيين أن الألف في هذان مشبهة{[45249]} بألف بفعلان ، فلم تغير{[45250]} كما لا يغير ألف يفعلان .
والقول الخامس : حكاه الزجاج . قال{[45251]} : القدماء يقولون{[45252]} : الهاء مضمر ها هنا ، والمعنى : أنه هذان لساحران ، ويعترض هذا القول دخول اللام في الخبر .
والقول السادس : قاله ابن كيسان ، قال : سألني إسماعيل ابن إسحاق عنها{[45253]} ، فقلت : القول عندي ، أنه لما كان يقال هذا في موضع الرفع والنصب والجر ، وكانت{[45254]} التثنية يجب ألا تغير ، أجريت التثنية مجرى الواحد . فقال إسماعيل : ما أحسن هذا ، لو تقدمك احد بالقول به ، حتى تؤنس به . فقلت : فيقول القاضي به حتى يؤنس به ، فتبسم{[45255]} .
والقول السابع : حكاه أبو عمرو وغيره ، أنه من غلط الكاتب .
روي أن عثمان وعائشة/ رضي الله عنها قالا : إن في الكتاب غلطا ستقيمه العرب بألستنها .
وعنهما : إن في الكتاب لحنا ستقيمه العرب بألسنتها . وهذا القول قد طعن فيه{[45256]} ، لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد أجمعوا على صحة ما بين اللوحين ، فلا يمكن أن يجتمعوا على غلط .
فأما من خفف ( إن ) فإنه ما بعدها ، لنقصها عن وزن الفعل ويجوز أن يكون أعلمها مخففة على{[45257]} الثقيلة ، كما يعمل{[45258]} الفعل محذوفا عمله وهو غير محذوف ، إلا أنه أتى ب( هذان ) ، على الوجوه التي ذكرنا ، فأتى بالألف في النصب .
فأما من شدد نون ( هذان ) ، فإنه جعل التشديد عوضا مما حذف من هذا في التثنية .
وعن الكسائي والفراء في : ( إن هذان ) قولان تركنا دكرهما لبعد تأويلهما في ذلك .
ثم قال تعالى : { ويذهبا بطريقتكم المثلى }[ 62 ] .
أي : يغلبكم{[45259]} على ساداتكم وإشرافكم . يقال للسيد : هو طريقة قومه . ولفظ الواحد والجمع التثنية سواء . وربما جمعوا فقالوا : هؤلاء طرائق قومهم ، أي أشرافهم وساداتهم . ومنه قوله : { كنا طرائق قددا } .
والمثلى : نعت للطريقة ، وهو تأنيث أمثل{[45260]} ، وجاز نعت الجماعة بلفظ التوحيد . كما قال : { هو له الأسماء الحسنى }{[45261]} .
ويجوز أن تكون تننننن( المثلى ) أنثت لتأنيث الطريقة .
قال ابن عباس : { بطريقتكم المثلى } أي أمثلكم{[45262]} ، وهم{[45263]} بنو إسرائيل{[45264]} .
وقال مجاهد : ( أولي العقول والشرف والأنساب ){[45265]} .
وقال قتادة : ( كانت طريقتهم المثلى يومئذ بني إسرائيل ، كانوا أكثر الناس عددا وأموالا وأولادا ){[45266]} .
وقيل : المعنى : ويذهبا بدينكم وسنتكم التي أنتم التي أنتم عليها .
وقال ابن وهب : ( يذهبا{[45267]} بالذي أنتم عليه من الدين ، وقرأ قول فرعون { إني أخاف أن يبدل دينكم }{[45268]} قال : فهذا{[45269]} قوله : { ويذهبا بطريقتكم المثلى }{[45270]} .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن{[45271]} المعنى : ويصرفان وجوه الناس إليهما{[45272]} .
ويكون{[45273]} التقدير : ويذهبا بأهل طريقتكم ، ثم حذف ، مثل{[45274]} : { واسأل القرية }{[45275]} .