البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخۡرِجَاكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِمَا وَيَذۡهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلۡمُثۡلَىٰ} (63)

ثم { قالوا إن هذان لساحران } فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبتهما وتثبيطاً للناس من اتباعهما انتهى .

وحكى ابن عطية قريباً من هذا القول عن فرقة قالوا : إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا { إن هذان لساحران } والأظهر أن تلك قيلت علانية ، ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن ثم تنازع .

وقرأ أبو جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وأبو حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوان والصاحبان من السبعة إنّ بتشديد النون { هذان } بألف ونون خفيفة { لساحران } واختلف في تخريج هذه القراءة .

فقال القدماء من النحاة إنه على حذف ضمير الشأن والتقدير إنه هذان لساحران ، وخبر { إن } الجملة من قوله { هذان لساحران } واللام في { لساحران } داخلة على خبر المبتدأ ، وضعف هذا القول بأن حذف هذا الضمير لا يجيء إلا في الشعر وبأن دخول اللام في الخبر شاذ .

وقال الزجاج : اللام لم تدخل على الخبر بل التقدير لهما ساحران فدخلت على المبتدأ المحذوف ، واستحسن هذا القول شيخه أبو العباس المبرد والقاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد .

وقيل : ها ضمير القصة وليس محذوفاً ، وكان يناسب على هذا أن تكون متصلة في الخط فكانت كتابتها { إن هذان لساحران } وضعف ذلك من جهة مخالفته خط المصحف .

وقيل { إنْ } بمعنى نعم ، وثبت ذلك في اللغة فتحمل الآية عليه و { هذان لساحران } مبتدأ وخبر واللام في { لساحران } على ذينك التقديرين في هذا التخريج ، والتخريج الذي قبله وإلى هذا ذهب المبرد وإسماعيل بن إسحاق وأبو الحسن الأخفش الصغير ، والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائماً وهي لغة لكنانة حكى ذلك أبو الخطاب ، ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحية حُكِي ذلك عن الكسائي ، ولبني العنبر وبني الهجيم ومراد وعذرة .

وقال أبو زيد : سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفاً .

وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وحميد وابن سعدان وحفص وابن كثير { إنْ } بتخفيف النون هذا بالألف وشدد نون { هذان } ابن كثير ، وتخريج هذه القراءة واضح وهو على أن إن هي المخففة من الثقيلة و { هذان } مبتدأ و { لساحران } الخبر واللام للفرق بين إن النافية وإن المخففة من الثقيلة على رأي البصريين والكوفيين ، يزعمون أن إن نافية واللام بمعنى إلاّ .

وقرأت فرقة إن ذان لساحران وتخريجها كتخريج القراءة التي قبلها ، وقرأت عائشة والحسن والنخعي والجحدري والأعمش وابن جبير وابن عبيد وأبو عمرو إن هذين بتشديد نون إنّ وبالياء في هذين بدل الألف ، وإعراب هذا واضح إذ جاء على المهيع المعروف في التثنية لقوله { فذانك برهانان } { إحدى ابنتي هاتين } بالألف رفعاً والياء نصباً وجراً .

وقال الزجاج : لا أجيز قراءة أبي عمرو لأنها خلاف المصحف .

وقال أبو عبيد : رأيتها في الإمام مصحف عثمان هذن ليس فيها ألف ، وهكذا رأيت رفع الاثنين في ذلك المصحف بإسقاط الألف ، وإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء ولا يسقطونها ، وقالت جماعة منهم عائشة وأبو عمرو : هذا مما لحن الكاتب فيه وأقيم بالصواب .

وقرأ عبد الله إن ذان إلا ساحران قاله ابن خالويه وعزاها الزمخشري لأُبَيّ .

وقال ابن مسعود : إن هذان ساحران بفتح أن وبغير لام بدل من { النجوى } انتهى .

وقرأت فرقة ما هذا إلاّ ساحران وقولهم { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما } تبعوا فيه مقالة فرعون { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك } ونسبوا السحر أيضاً لهارون لما كان مشتركاً معه في الرسالة وسالكاً طريقته ، وعلقوا الحكم على الإرادة وهم لا اطلاع لهم عليها تنقيصاً لهما وحطاً من قدرهما ، وقد كان ظهر لهم من أمر اليد والعصا ما يدل على صدقهما ، وعلموا أنه ليس في قدرة الساحر أن يأتي بمثل ذلك ، والظاهر أن الضمير في { قالوا } عائد على السحرة خاطب بعضهم بعضاً .

وقيل : خاطبوا فرعون مخاطبة التعظيم ، والطريقة السيرة والمملكة والحال التي هم عليها .

و { المثلى } تأنيث الأمثل أي الفضلى الحسنى .

وقيل : عبر عن السيرة بالطريقة وأنه يراد بها أهل العقل والسن والحجى ، وحكوا أن العرب تقول فلان طريقة قومه أي سيدهم ، وعن علي نحو ذلك قال : وتصرفات وجوه الناس إليهما .

وقيل : هو على حذف مضاف أي { ويذهبا } بأهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل لقول موسى { أرسل معنا بني إسرائيل } بالغوا في التنفير عنهما بنسبتهما إلى السحر ، وبالطبع ينفر عن السحر وعن رؤية الساحر ثم بإرادة الإخراج من أرضهم ثم بتغيير حالتهم من المناصب والرتب المرغوب فيها .