محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخۡرِجَاكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِمَا وَيَذۡهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلۡمُثۡلَىٰ} (63)

{ قَالَ لَهُم مُّوسَى } أي مقدما لهم النصح والإنذار ، لينقطع عذرهم { وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } أي لا تخيلوا للناس بأعمالكم ، إيجاد أشياء لا حقائق لها ، وأنها مخلوقة وليست مخلوقة . فتكونوا قد كذبتم على الله تعالى : { فَيُسْحِتَكُمْ } أي يستأصلكم { بِعَذَابٍ } أي هائل لغضبه عليكم { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا } أي بطريق التناجي والإسرار { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } أي بمذهبكم الأفضل . وهو ما كانوا عليه . يعنون أن قصد موسى وهارون هو عزل فرعون عن ملكه ، بجعله عبدا لغيره ، واستقرارهما في مكانه ، وجعل قومهما مكانكم . وإلجائكم إلى مبارحة أرضكم ، وإبطال طريقتكم بسحرهما الذي يريدان إعجازكم به . و { المثلى } تأنيث الأمثل ، بمعنى الأفضل . ودعواهم ذلك ، لأن كل حزب بما لديهم فرحون .

لطيفة :

في قوله تعالى : { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد النون من { إن } و { هذين } بالياء وهي قراءة أبي عمرو ، وهي جارية على السنن المشهور في عمل { إن } .

والثانية : { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتخفيف ( إن ) وإهمالها عن العمل ، كما هو الأكثر فيها إذا خففت .

وما بعدها مرفوع بالابتداء والخبر . واللام لام الابتداء فرقا بينها وبين النافية . ويرى الكوفيون أن اللام هذه بمعنى { إلا } و { إن } قبلها نافية ، واستدلوا على مجيء اللام للاستثناء بقوله :

أمسى أبان ذليلا بعد عزته *** وما أبان لمن أعلاج سودان

والثالثة : { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد { إن } و { هذان } بالألف . وخرجت على أوجه :

أحدها : موافقة لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث . وهم بنو الحرث بن كعب وخثعم وزبيد وكنانة وآخرون . قال قائلهم :

* تزود من بين أذناه طعنة*

/ وقال آخر :

إن أباها وأبا أباها *** قد بلغا في المجد غايتاها

ثانيها : إن { إن } بمعنى ( نعم ) حكاه المبرد . واستدل بقول الراجز :

يا عمر الخير جزيت الجنة *** اكس بنياني وأمهنه

وقل لهن : إن أن إنه*** أقسم بالله لتفعلنه

وقول : عبد الله بن قيس الرقيات :

ويقلن شيب قد علا *** ك وقد كبرت فقلت إنه

ورد على المبرد أبو علي الفارسي ؛ بأنه لم يتقدم ما يجاب ب ( نعم ) وأجاب الشمني ، بأن التنازع فيما بينهم ، وإسرار النجوى ، يتضمن استخبار بعضهم من بعض ، فهو جواب للاستخبار الضمني . ولا يخفى بعده . فإن إسرار النجوى فيما بينهم ليس في الاستخبار عن كونهما ساحرين ، بل هم جزموا بالسحر فقالوا : { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك } ثم أسروا النجوى فيما يغلبان به موسى . إلا أن يقال : محط الجواب قوله : { فأجمعوا كيدكم } الخ ، وما قبله توطئة . وقد رد في ( المغني ) هذا التخريج ؛ بأن مجيء ( نعم ) شاذ حتى نفاه بعضهم . ومنعه الدماميني ؛ بأن سيبويه والحذاق حكوه عن الفصحاء . وعليه ، فاللام في { لساحران } لام الابتداء ، زحلقت للخبر . وأبى البصريون دخولها على الخبر . وزعموا أنها في مثله داخلة على مبتدأ محذوف ، أو زائدة ، أو دخلت مع ( إن ) التي بمعنى ( نعم ) لشبهها بالمؤكدة لفظا .

وأقول : فيه تكلف . والشواهد على اقتران الخبر باللام كثيرة .

وثالثها : أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد ، وهو ( هذا ) جعل كذلك في التثنية ، ليكون المثنى كالمفرد . لأنه فرع عليه . واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى ، وزعم أن بناء المثنى ، إذا كان مفرده مبنيا ، أفصح من إعرابه . قال : وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة . ثم اعترض بأمرين :

أحدهما : أن السبعة أجمعوا على الياء في قوله تعالى : { إحدى ابنتي هاتين } مع أن هاتين تثنية ( هاتا ) وهو مبني .

والثاني : أن ( الذي ) مبني وقد قالوا في تثنيته { الذين } في الجر والنصب . وهي لغة القرآن ، كقوله تعالى : { ربنا أرنا الذين أضلانا } وأجاب الأول ؛ بأنه إنما جاء ( هاتين ) بالياء على لغة الإعراب لمناسبة { ابنتي } قال : فالإعراب هنا أفصح من البناء ، لأجل المناسبة . كما أن البناء في { إن هاذان لساحران } أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في ( هذان ) للألف في ( ساحران ) وأجاب عن الثاني بالفرق بين ( اللذان ) و ( هذان ) بأن ( اللذان ) تثنية اسم ثلاثي ، فهو تشبيه ( بالزيدان ) و ( هذان ) تثنية اسم على حرفين . فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف . قال رحمه الله : وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ { إن هذان } لحن وإن عثمان رضي الله عنه قال ( إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ) وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه .

أحدها : إن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات ، فكيف يقرون اللحن في القرآن ، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته ؟

والثاني : أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام ، فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف ؟

والثالث : أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم . لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي .

والرابع : أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب ( التابوت ) بالهاء على لغة الأنصار ، فمنعوه من ذلك ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنهم . فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش . ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ : عتى حين ، على لغة هذيل ، أنكر ذلك عليه وقال : ( أقرئ الناس بلغة قريش . فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم ، ولم ينزله بلغة هذيل ) . انتهى كلام تقي الدين ملخصا .

هذا حاصل ما في ( المغني ) و ( الشذور ) و ( حواشيهما ) وفي الآية وجوه أخرى استقصتها المطولات .

وما ذكرناه أرقاها .