{ قَالَ لَهُم مُّوسَى } أي مقدما لهم النصح والإنذار ، لينقطع عذرهم { وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } أي لا تخيلوا للناس بأعمالكم ، إيجاد أشياء لا حقائق لها ، وأنها مخلوقة وليست مخلوقة . فتكونوا قد كذبتم على الله تعالى : { فَيُسْحِتَكُمْ } أي يستأصلكم { بِعَذَابٍ } أي هائل لغضبه عليكم { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا } أي بطريق التناجي والإسرار { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } أي بمذهبكم الأفضل . وهو ما كانوا عليه . يعنون أن قصد موسى وهارون هو عزل فرعون عن ملكه ، بجعله عبدا لغيره ، واستقرارهما في مكانه ، وجعل قومهما مكانكم . وإلجائكم إلى مبارحة أرضكم ، وإبطال طريقتكم بسحرهما الذي يريدان إعجازكم به . و { المثلى } تأنيث الأمثل ، بمعنى الأفضل . ودعواهم ذلك ، لأن كل حزب بما لديهم فرحون .
في قوله تعالى : { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد النون من { إن } و { هذين } بالياء وهي قراءة أبي عمرو ، وهي جارية على السنن المشهور في عمل { إن } .
والثانية : { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتخفيف ( إن ) وإهمالها عن العمل ، كما هو الأكثر فيها إذا خففت .
وما بعدها مرفوع بالابتداء والخبر . واللام لام الابتداء فرقا بينها وبين النافية . ويرى الكوفيون أن اللام هذه بمعنى { إلا } و { إن } قبلها نافية ، واستدلوا على مجيء اللام للاستثناء بقوله :
أمسى أبان ذليلا بعد عزته *** وما أبان لمن أعلاج سودان
والثالثة : { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد { إن } و { هذان } بالألف . وخرجت على أوجه :
أحدها : موافقة لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث . وهم بنو الحرث بن كعب وخثعم وزبيد وكنانة وآخرون . قال قائلهم :
إن أباها وأبا أباها *** قد بلغا في المجد غايتاها
ثانيها : إن { إن } بمعنى ( نعم ) حكاه المبرد . واستدل بقول الراجز :
يا عمر الخير جزيت الجنة *** اكس بنياني وأمهنه
وقل لهن : إن أن إنه*** أقسم بالله لتفعلنه
وقول : عبد الله بن قيس الرقيات :
ويقلن شيب قد علا *** ك وقد كبرت فقلت إنه
ورد على المبرد أبو علي الفارسي ؛ بأنه لم يتقدم ما يجاب ب ( نعم ) وأجاب الشمني ، بأن التنازع فيما بينهم ، وإسرار النجوى ، يتضمن استخبار بعضهم من بعض ، فهو جواب للاستخبار الضمني . ولا يخفى بعده . فإن إسرار النجوى فيما بينهم ليس في الاستخبار عن كونهما ساحرين ، بل هم جزموا بالسحر فقالوا : { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك } ثم أسروا النجوى فيما يغلبان به موسى . إلا أن يقال : محط الجواب قوله : { فأجمعوا كيدكم } الخ ، وما قبله توطئة . وقد رد في ( المغني ) هذا التخريج ؛ بأن مجيء ( نعم ) شاذ حتى نفاه بعضهم . ومنعه الدماميني ؛ بأن سيبويه والحذاق حكوه عن الفصحاء . وعليه ، فاللام في { لساحران } لام الابتداء ، زحلقت للخبر . وأبى البصريون دخولها على الخبر . وزعموا أنها في مثله داخلة على مبتدأ محذوف ، أو زائدة ، أو دخلت مع ( إن ) التي بمعنى ( نعم ) لشبهها بالمؤكدة لفظا .
وأقول : فيه تكلف . والشواهد على اقتران الخبر باللام كثيرة .
وثالثها : أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد ، وهو ( هذا ) جعل كذلك في التثنية ، ليكون المثنى كالمفرد . لأنه فرع عليه . واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى ، وزعم أن بناء المثنى ، إذا كان مفرده مبنيا ، أفصح من إعرابه . قال : وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة . ثم اعترض بأمرين :
أحدهما : أن السبعة أجمعوا على الياء في قوله تعالى : { إحدى ابنتي هاتين } مع أن هاتين تثنية ( هاتا ) وهو مبني .
والثاني : أن ( الذي ) مبني وقد قالوا في تثنيته { الذين } في الجر والنصب . وهي لغة القرآن ، كقوله تعالى : { ربنا أرنا الذين أضلانا } وأجاب الأول ؛ بأنه إنما جاء ( هاتين ) بالياء على لغة الإعراب لمناسبة { ابنتي } قال : فالإعراب هنا أفصح من البناء ، لأجل المناسبة . كما أن البناء في { إن هاذان لساحران } أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في ( هذان ) للألف في ( ساحران ) وأجاب عن الثاني بالفرق بين ( اللذان ) و ( هذان ) بأن ( اللذان ) تثنية اسم ثلاثي ، فهو تشبيه ( بالزيدان ) و ( هذان ) تثنية اسم على حرفين . فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف . قال رحمه الله : وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ { إن هذان } لحن وإن عثمان رضي الله عنه قال ( إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ) وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه .
أحدها : إن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات ، فكيف يقرون اللحن في القرآن ، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته ؟
والثاني : أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام ، فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف ؟
والثالث : أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم . لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي .
والرابع : أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب ( التابوت ) بالهاء على لغة الأنصار ، فمنعوه من ذلك ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنهم . فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش . ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ : عتى حين ، على لغة هذيل ، أنكر ذلك عليه وقال : ( أقرئ الناس بلغة قريش . فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم ، ولم ينزله بلغة هذيل ) . انتهى كلام تقي الدين ملخصا .
هذا حاصل ما في ( المغني ) و ( الشذور ) و ( حواشيهما ) وفي الآية وجوه أخرى استقصتها المطولات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.