قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } يعني اليهود .
قوله تعالى : { يدعون إلى كتاب الله } . اختلفوا في هذا الكتاب ، فقال قتادة : هم اليهود دعوا إلى حكم القرآن فاعرضوا عنه ، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية ، إن الله تعالى جعل القرآن حكماً فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم . فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهدى فأعرضوا عنه . وقال الآخرون : هو التوراة . روى سعيد بن جبير ، أوعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المراس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله عز وجل فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد ؟ فقال : على ملة إبراهيم . فقال : إن إبراهيم كان يهودياً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا ، وكان في كتابهم الرجم ، فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم ، فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوا أن يكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم ، فقال له : النعمان بن أوفى وبحري بن عمرو : جرت عليهما يا محمد ليس عليهما الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينكم التوراة فقالوا قد أنصفتنا ، قال فمن أعلمكم بالتوراة ؟ قالوا : رجل أعور يسكن فدك ، يقال له ابن صوريا ، فأرسلوا إليه فقدم المدينة وكان جبريل قد وصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت ابن صوريا ؟ قال : نعم ، قال أنت أعلم اليهود ؟ قال : كذلك يزعمون ، قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من التوراة ، فيها الرجم مكتوب ، فقال له : أقرأ ، فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عبد الله ابن سلام : يا رسول الله قد جاوزها . فقام فرفع كفه عنها ثم قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود بأن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما ، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهوديين فرجما ، فغضب اليهود لذلك وانصرفوا فانزل ، الله عز وجل ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ) حظا من الكتاب " التوراة " ( يدعون إلى كتاب الله ) .
قوله تعالى : { ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون } .
يقول تعالى منكرًا على اليهود والنصارى ، المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللَّذين بأيديهم ، وهما التوراة والإنجيل ، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما ، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، تولَّوا وهم معرضون عنهما ، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم ، والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } أي التوراة أو جنس الكتب السماوية ، ومن للتبعيض أو للبيان . وتنكير النصيب يحتمل التعظيم والتحقير . { يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم } الداعي محمد عليه الصلاة والسلام وكتاب الله القرآن ، أو التوراة لما روي ( أنه عليه الصلاة والسلام دخل مدراسهم فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على أي دين أنت ؟ فقال : على دين إبراهيم . فقالا : إن إبراهيم كان يهوديا فقال : هلموا إلى التوراة فإنها بيننا وبينكم . فأبيا فنزلت ) . وقيل نزلت في الرجم . وقرئ ليحكم على البناء للمفعول فيكون الاختلاف فيما بينهم ، وفيه دليل على أن الأدلة السمعية حجة في الأصول . { ثم يتولى فريق منهم } استبعاد لتوليهم مع علمهم بأن الرجوع إليه واجب . { وهم معرضون } وهم قوم عادتهم الإعراض ، والجملة حال من فريق وإنما ساغ لتخصصه بالصفة .
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدراس{[3053]} على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد{[3054]} على أي دين أنت يا محمد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنا على ملة إبراهيم » فقالا : فإن إبراهيم كان يهودياً ، فقال لهما النبي عليه السلام : «فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم » فأبيا عليه فنزلت ، وذكر النقاش : أنها نزلت لأن جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . فقال لهم النبي عليه السلام : «هلموا إلى التوراة ففيها صفتي »{[3055]} فأبوا .
قال القاضي أبو محمد : فالكتاب في قوله : { من الكتاب }{[3056]} هو اسم الجنس ، و { الكتاب } في قوله : { إلى كتاب الله } هو التوراة ، وقال قتادة وابن جريج : { الكتاب } في قوله { إلى كتاب الله } هو القرآن ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إليه فكانوا يعرضون ، ورجح الطبري القول الأول ، وقال مكي : الكتاب الأول اللوح المحفوظ والثاني التوراة ، وقرأ جمهور الناس «ليَحكم » بفتح الياء أي ليحكم الكتاب ، وقرأ الحسن وأبو جعفر وعاصم الجحدري «ليُحكم » بضم الياء وبناء الفعل للمفعول ، وخص الله تعالى بالتولي فريقاً دون الكل لأن منهم من لم يتول كابن سلام وغيره .
استئناف ابتدائي : للتعجيب من حالة اليهود في شدّة ضلالهم . فالاستفهام في قوله : { ألم تر } للتقرير والتعجيب ، وقد جاء الاستعمال في مثله أن يكون الاستفهام داخلاً على نفي الفعل والمراد حصولُ الإقرار بالفعل ليكون التقرير على نفيه محرّضاً للمخاطب على الاعتراف به بناء على أنّه لا يرضى أن يكون ممّن يجهله ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه } في سورة [ البقرة : 258 ] .
والرؤية بصرية بدليل تعديتها بحرف إلى : الذي يتعدى به فعل النظر ، وجوز صاحب الكشاف } في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذي أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة } في سورة [ النساء : 44 ] : أن تكون الرؤية قلبية ، وتكون ( إلى ) داخلة على المفعول الأول لتأكيد اتّصال العِلم بالمعلوم وانتهائه المجازي إليه ، فتكون مثل قوله : { ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم } [ البقرة : 258 ] .
وعُرف المتحدّث عنهم بطريق الموصولية دون لقبهم ، أعني اليهودَ : لأنّ في الصلة ما يزيد التعجيب من حالهم ؛ لأنّ كونهم على علم من الكتاب قليلٍ أو كثير من شأنه أن يصدّهم عمّا أخبر به عنهم . على ما في هذه الصلة أيضاً من توهين علمهم المزعوم .
والكتاب : التوراة فالتعريف للعهد ، وهو الظاهر ، وقيل : هو للجنس .
والمراد بالذين أوتوه هم اليهود ، وقيل : أريد النصارى ، أي أهل نجران .
والنصيب : القسط والحظّ وتقدم عند قوله تعالى : { أولئك لهم نصيب ممّا كسبوا } في سورة [ البقرة : 202 ] .
{ وتنكير نصيباً } للنوعية ، وليس للتعظيم ؛ لأنّ المقام مقام تهاون بهم ، ويحتمل أن يكون التنوين للتقليل .
و { من } للتبعيض ، كما هو الظاهر من لفظ النصيب ، فالمراد بالكتاب جنس الكتب ، والنصيب هو كتابُهم ، والمراد : أوتوا بعض كتابهم ، تعريضاً بأنّهم لا يعلمون من كتابهم إلاّ حظّاً يسيراً ، ويجوز كون مِن للبيان . والمعنى : أوتوا حظّاً من حظوظ الكمال ، هو الكتاب الذي أوتوه .
وجملة { يدعون إلى كتاب الله } في موضوع الحال لأنّها محل التعجيب ، وذلك باعتبار ضميمة ما عطف عليها ، وهو ، قوله : { ثم يتولى فريق منهم } لأنّ ذلك هو العجيب لا أصل دعوتهم إلى كتاب الله ، وإذا جعلت ( تَر ) قلبية فجملة يدعون في موضع المفعول الثاني وقد علمتَ بُعده .
و { كتاب الله } : القرآن كما في قوله : { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب اللَّه وراء ظهورهم } [ البقرة : 101 ] . فهو غير الكتاب المراد في قوله : { من الكتاب } كما ينبىء به تغيير الأسلوب . والمعنى : يُدعون إلى اتّباع القرآن والنظرِ في معانيه ليحكم بينهم فيأبون . ويجوز أن يكون كتاب الله عين المراد من الكتاب ، وإنّما غير اللفظ تفنّناً وتنويهاً بالمدعوّ إليه ، أي يُدعون إلى كتابهم ليتأملوا منه ، فيعلموا تبشيره برسول يأتي من بعد ، وتلميحَه إلى صفاته .
روي ، في سبب نزول هذه الآية : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مِدْراس اليهود فدعاهم إلى الإسلام ، فقال له نُعيم بن عمرو ، والحارث بن زَيد : على أيّ دين أنت قال : على ملة إبراهيم قالا : فإنّ إبراهيم كان يهودياً .
فقال لهما : إنّ بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها ، فأبيا .
وقوله : { ثم يتولى فريق منهم } ( ثم ) عاطفة جملة { يتولّى فريق منهم } على جملة { يدعون } فالمعطوفة هنا في حكم المفرد فدلت ( ثم ) على أنّ تولّيهم مستمر في أزمان كثيرة تبعد عن زمان الدعوة ، أي أنّهم لا يرعوون فهم يتولَّون ثم يتولّون ؛ لأنّ المرء قد يُعرض غضباً ، أو لِعِظَم المفاجأة بالأمر غيرِ المترقَّب ، ثم يثوب إليه رشده ، ويراجع نفسه ، فيرجع ، وقد علم أنّ تولّيهم إثر الدعوة دون تراخٍ حاصل بفحوى الخطاب .
فدخول { ثم } للدلالة على التراخي الرتبي ؛ لأنّهم قد يتولّون إثر الدعوة ، ولكن أريد التعجيب من حالهم كيف يتولّون بعد أن أوتُوا الكتاب ونقلوه ، فإذا دُعوا إلى كتابهم تولّوا . والإتيان بالمضارع في قوله : { يتولون } للدلالة على التجدّد كقول جعفر ابن عُلبة الحارثي :
ولا يكشف الغَمَّاء إلاّ ابن حرة *** يَرَى غَمَراتِ الموتِ ثُم يَزُورها
والتولّي مجاز عن النفور والإباء ، وأصله الإعراض والانصراف عن المكان .
وجملة { وهم معرضون } حال مؤكّدة لجملة { يتولّى فريق } إذ التولّي هو الإعراض ، ولما كانت حالاً لم تكن فيها دلالة على الدوام والثبات فكانت دالة على تجدّد الإعراض ، منهم المفاد أيضاً من المضارع في قوله : { ثم يتولى فريق منهم } .