قوله تعالى : { تولج الليل في النهار } أي تدخل الليل في النهار حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات .
قوله تعالى : { و تولج النهار في الليل } حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة ، والنهار تسع ساعات ، فما نقص من أحدهما زاد في الآخر .
قوله تعالى : { وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } . قرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ( الميت ) بتشديد الياء هاهنا ، وفي الأنعام ، ويونس ، والروم في الأعراف ( لبلد ميت ) وفي فاطر ( إلى بلد ميت ) زاد نافع أو من كان ميتاً فأحييناه . ولحم أخيه ميتا ، والأرض الميتة أحييناها ، فشددها ، والآخرون يخففونها ، وشدد يعقوب ( يخرج الحي من الميت ) ( ولحم أخيه ميتاً ) ، قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة : معنى الآية : يخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة ، ويخرج النطفة من الحيوان . وقال عكرمة والكلبي : يخرج الحي من الميت ، أي الفرخ من البيضة ، وتخرج البيض من الطير ، وقال الحسن وعطاء : يخرج المؤمن من الكافر ، ويخرج الكافر من المؤمن ، والمؤمن حي الفؤاد والكافر ميت الفؤاد .
قال الله تعالى ( أو من كان ميتا فأحييناه ) . وقال الزجاج : يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس ، ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي .
قوله تعالى : { وترزق من تشاء بغير حساب } من غير تضييق ولا تقتير .
أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنفي ، أنا أبو بكر احمد بن الحسن الحيري ، أنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي ، أنا محمد ابن علي بن زيد الصائغ ، أنا محمد بن أبي أزهر ، أنا الحارث بن عمير ، أنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، والآيتين من آل عمران ، شهد الله إلى قوله إن الدين عند الله الإسلام ، وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب ، مشفعات معلقات بالعرش ، ما بينهن وبين الله عز وجل حجاب . قلن : يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك ؟ قال الله عز وجل : بي حلفت ، لا يقرأكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان فيه ، وأسكنته في حظيرة القدس ، ونظرت إليه بعيني المكنونة ، وقضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ، وأعذته من كل عدو وحاسد ، ونصرته عليهم " . رواه الحارث بن عمير وهو ضعيف .
وقوله : { تُولِجُ{[4929]} اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ{[4930]} النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } أي : تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان ، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان ، ثم يعتدلان . وهكذا في فصول السنة : ربيعًا وصيفًا وخريفًا وشتاء .
وقوله : { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } أي : تخرج الحبَّة من الزرع والزرع من الحبة ، والنخلة من النواة والنواة من النخلة ، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة ، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء { وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : تعطي من شئت من المال ما لا يَعده ولا يقدر على إحصائه ، وتقتر على آخرين ، لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة والعدل . قال الطبراني : حدثنا محمد بن زكريا الغلابي ، حدثنا جعفر بن جسْر بن فَرْقَد ، حدثنا أبي ، عن عَمْرو{[4931]} بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اسْم اللهِ الأعْظَم الَّذي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ، فِي هَذِهِ الآيةِ مِنْ آلِ عِمْرانَ : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ]{[4932]} }{[4933]} .
{ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب } عقب ذلك ببيان قدرته على معاقبة الليل والنهار والموت والحياة وسعة فضله ، دلالة على أن من قدر على ذلك قدر على معاقبة الذل والعز وإيتاء الملك ونزعه . والولوج : الدخول في مضيق . وإيلاج الليل والنهار : إدخال أحدهما في الآخر بالتعقيب أو الزيادة والنقص . وإخراج الحي من الميت وبالعكس . إنشاء الحيوانات من موادها وإماتتها ، أو إنشاء الحيوان من النطفة والنطفة منه . وقيل : إخراج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر { الميْت } بالتخفيف .
وقال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وابن زيد في معنى قوله تعالى : { تولج الليل في النهار } الآية : أنه ما ينتقص من النهار فيزيد في الليل وما ينتقص من الليل فيزيد في النهار دأباً كل فصل من السنة ، وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار كأن زوال أحدهما ولوج في الآخر .
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وتخرج الحي من الميت } الآية ، فقال الحسن : معناه تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، وروي نحوه عن سلمان الفارسي ، وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض أزواجه فإذا بامرأة حسنة النغمة فقال : من هذه ؟ قالت إحدى خالاتك فقال : إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب ، أي خالاتي هي ؟ قالت : خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث{[3068]} فقال النبي عليه السلام : سبحان الذي يخرج الحي من الميت{[3069]} ، وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافراً وهو أحد المستهزئين الذين كفيهم النبي عليه السلام .
قال أبو محمد : فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن والحياة والموت مستعاران ، وذهب جمهور كثير من العلماء إلى أن الحياة والموت في الآية إنما هو الحياة حقيقة والموت حقيقة لا باستعارة ، ثم اختلفوا في المثل التي فسروا بها فقال عكرمة : هو إخراج الدجاجة وهي حية من البيضة وهي ميتة وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية ولفظ الإخراج في هذا المثال وما ناسبه لفظ متمكن على عرف استعماله ، وقال عبد الله بن مسعود في تفسير الآية : هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي ويخرج الرجل منها وهي ميتة .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الإخراج في تنقل النطفة حتى تكون رجلاً إنما هو عبارة عن تغير الحال كما تقول في صبي جيد البنية : يخرج من هذا رجل قوي ، وهذا المعنى يسميه ابن جني : التجريد أي تجرد الشيء من حال إلى حال هو خروج ، وقد يحتمل قوله تعالى : { ويخرج الميت من الحي } أن يراد به أن الحيوان كله يميته فهذا هو معنى التجريد بعينه وأنشد ابن جني على ذلك :
أَفَاءَتْ بَنُوا مَرْوانَ ظُلْماً دِمَاءَناَ*** وفي اللَّهِ إنْ لَمْ يُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ{[3070]}
وروى السدي عن أبي مالك{[3071]} قال في تفسير الآية : هي الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة ، والنواة تخرج من النخلة والنخلة تخرج من النواة والحياة في النخلة والسنبلة تشبيه ، وقوله تعالى : { بغير حساب } قيل معناه بغير حساب منك لأنه تعالى لا يخاف أن تنتقص خزائنه ، هذا قول الربيع وغيره ، وقيل معنى { بغير حساب } أي من أحد لك ، لأنه تعالى لا معقب لأمره ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : الميْت «بسكون الياء في جميع القرآن ، وروى حفص عن عاصم » من الميّت «بتشديد الياء ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي » الميّت «بتشديد الياء في هذه الآية ، وفي قوله : { لبلد ميت }{[3072]} ، و { إلى بلد ميت } [ فاطر : 9 ] وخفف حمزة والكسائي غير هذه الحروف ، قال أبو علي : { الميت } هو الأصل والواو التي هي عين منه انقلبت ياء لإدغام الياء فيها وميت التخفيف محذوف منه عينه أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب ، والحذف حسن والإتمام حسن وما مات وما لم يمت في هذا الباب يستويان في الاستعمال .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وذهب قوم إلى أن » الميْت «بالتخفيف إنما يستعمل فيما قد مات ، وأما » الميّت «بالتشديد فيستعمل فيما مات وفيما لم يمت بعد .
حقيقة « تُولج » تدخل وهو هنا استعارة لتعاقب ضوء النهار وظلمة الليل ، فكأنَّ أحدهما يدخل في الآخر ، ولازدياد مدة النهار على مدة الليل وعكسه في الأيام والفصول عدا أيام الاعتدال وهي في الحقيقة لحظات قليلة ثم يزيد أحدهما لكنّ الزيادة لا تدرك في أولها فلا يعرفها إلاّ العلماء ، وفي الظاهر هي يومان في كل نصف سنة شمسية قال ابن عرفة : « كان بعضهم يقول : القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوامّ وألفاظ يفهمها الخواصّ وما يفهمه الفريقان ومنه هذه الآية ؛ فإنّ الإيلاج يشمل الأيام التي لا يفهمها إلاّ الخواص والفصولَ التي يدركها سائر العوام » .
وفي هذا رمز إلى ما حدث في العالم من ظلمات الجهالة والإشراك ، بعد أن كان الناس على دين صحيح كدين موسى ، وإلى ما حدث بظهور الإسلام من إبطال الضلالات ، ولذلك ابتدىء بقوله : { تولج الليل في النهار } ، ليكون الانتهاء بقوله : { وتولج النهار في الليل } ، فهو نظير التعريض الذي بيّنته في قوله : { تؤتي الملك من تشاء } الآية . والذي دل على هذا الرمز افتتاح الكلام بقوله : { اللهم مالك الملك } إلخ .
وإخراج الحي من الميّت كخروج الحيوان من المضغة ، ومن مُح البيضة . وإخراج الميت من الحي في عكس ذلك كلّه ، وسيجيء زيادة بيان لهذا عند قوله : { ومن يخرج الحي من الميّت } في سورة يونس ( 31 ) . وهذا رمز إلى ظهور الهُدى والملك في أمّة أمية ، وظهور ضلال الكفر في أهل الكتابين ، وزوال الملك من خَلَفهم يعد أن كان شعار أسلافهم ، بقرينة افتتاح الكلام بقوله : اللهم مالك الملك } إلخ .
وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف : « الميّت » بتشديد التحتية . وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب : بسكون التحتية وهما وجهان في لفظ الميت .
وقوله : { وترزق من تشاء بغير حساب } هو كالتذييل لذلك كلّه .
والرزق ما يَنتفع به الإنسان فيطلق على الطعام والثمارَ كقوله : { وجد عندها رزقاً } [ آل عمران : 37 ] وقوله : { فليأتكم برِزق منه } [ الكهف : 19 ] ، ويطلق على أعمّ من ذلك ممّا ينتفع به كما في قوله تعالى : { يَدْعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب . وعندهم قاصرات الطَّرف أتراب } ثم قال { إنّ هذا لَرِزْقُنا مَالَه من نَفَاد } [ ص : 51 54 ] وقوله : { قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله } ومن ثم سميت الدراهم والدنانير رزقاً : لأنّ بها يعوض ما هو رزق ، وفي هذا إيماء إلى بشارة للمسلمين بما أخبىء لهم من كنوز الممالك الفارسية والقيصرية وغيرها .