معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ} (49)

قوله تعالى : { ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس } ، أي : يمطرون ، من الغيث : وهو المطر . وقيل : ينقذون من قول العرب استغثت فلانا فأغاثني ، { وفيه يعصرون } ، قرأ حمزة والكسائي : { يعصرون } ، بالتاء ، لأن الكلام كله على الخطاب ، وقرأ الآخرون بالياء ردا إلى الناس ، ومعناه : يعصرون العنب خمرا والزيتون زيتا والسمسم دهنا . وأراد به كثرة النعيم والخير . وقال أبو عبيدة : يعصرون أي ينجون من الكروب والجدب ، والعصر والعصرة : المنجاة والملجأ .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ} (49)

هذه الرؤيا من مَلك مصر مما قَدّر الله تعالى أنها كانت سببا لخروج يوسفَ ، عليه السلام ، من السجن مُعزَّزًا مكرما ، وذلك أن المَلك رأى هذه الرؤيا ، فهالته وتَعجَّب من أمرها ، وما يكون تفسيرها ، فجمع الكهنة والحُزَاة وكبراء دولته وأمراءه وقَصَّ عليهم ما رأى ، وسألهم عن تأويلها ، فلم يعرفوا ذلك ، واعتذروا إليه بأن هذه { أَضْغَاثُ أَحْلامٍ } أي : أخلاط اقتضت رؤياك هذه{[15192]} { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ } أي : ولو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط ، لما كان لنا معرفة بتأويلها ، وهو تعبيرها . فعند ذلك تَذَكَّرَ ذلك الذي نجا من ذينك الفتيين اللذين{[15193]} كانا في السجن مع يوسف ، وكان الشيطان قد أنساه ما وصّاه به يوسف ، من ذكر أمره للملك ، فعند ذلك تذكر { بَعْدَ أُمَّةٍ } أي : مدة - وقرأ بعضهم : " بعد أَمِةٍ " أي : بعد نسيان ، فقال للملك والذين جمعهم لذلك : { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } أي : بتأويل هذا المنام ، { فَأَرْسِلُونِ } أي : فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن . ومعنى الكلام : فبعثوا{[15194]} فجاء . فقال : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا } وذكر المنام الذي رآه الملك ، فعند ذلك ذكر له يوسف ، عليه السلام ، تعبيرها من غير تعنيف لذلك الفتى في نسيانه ما وصاه به ، ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك ، بل قال : { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } أي{[15195]} يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات ، ففسر البقر بالسنين ؛ لأنها تثير الأرض التي تُسْتغل منها الثمرات والزروع ، وهن السنبلات الخضر ، ثم أرشدهم إلى ما يعتمدونه في تلك السنين فقال : { فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ } أي : مهما استغللتم{[15196]} في هذه السبع السنين الخصب فاخزنوه في سنبله ، ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه ، إلا المقدار الذي تأكلونه ، وليكن قليلا قليلا لا تسرفوا فيه ، لتنتفعوا في السبع الشداد ، وهن السبع السنين المُحْل التي تعقب هذه السبع متواليات ، وهن البقرات العجاف اللاتي يأكلن السِّمان ؛ لأن سني{[15197]} الجَدْب يؤكل فيها ما جَمَعَوه في سني{[15198]} الخصب ، وهن السنبلات اليابسات .

وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا ، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ؛ ولهذا قال : { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ }

ثم بشرهم بعد الجَدْب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك { عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ } أي : يأتيهم الغيث ، وهو المَطرُ ، وتُغل البلاد ، ويَعصرُ الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم ، من زيت ونحوه ، وسكر ونحوه حتى قال بعضهم : يدخل{[15199]} فيه حلب اللبن أيضًا .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } يحلبون .


[15192]:- في ت ، أ : "رؤيا في هذا".
[15193]:- في ت : "الذي".
[15194]:- في ت : "فبعثوه".
[15195]:- في ت : "إذ".
[15196]:- في ت ، أ : "استغليتم".
[15197]:- في ت ، أ : "سنين".
[15198]:- في ت ، أ : "سنين".
[15199]:- في ت ، أ : "ويدخل".

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ} (49)

{ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس } يمطرون من الغيث أو يغاثون من القحط من الغوث . { وفيه يعصرون } ما يعصر كالعنب والزيتون لكثرة الثمار . وقيل يحلبون الضروع . وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على تغليب المستفتي ، وقرئ على بناء المفعول من عصره إذا أنجاه ويحتمل أن يكون المبني للفاعل منه أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضا ، أو من أعصرت السحابة عليهم فعدي بنزع الخافض أو بتضمينه معنى المطر . وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة ، ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب ، أو بأن السنة الإلهية على أن يوسع على عباده بعدما ضيق عليهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ} (49)

وقوله : { يغاث } جائز أن يكون من الغيث ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين ، أي يمطرون ، وجائز أن يكون من أغاثهم الله ، أذا فرج عنهم ، ومنه الغوث وهو الفرج .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يَعصِرون » بفتح الياء وكسر الصاد ، وقرأ حمزة والكسائي ذلك بالتاء على المخاطبة ، وقال جمهور المفسرين : هي من عصر النباتات كالزيتون والعنب والقصب والسمسم والفجل وجميع ما يعصر ، ومصر بلد عصر لأشياء كثيرة ؛ وروي أنهم لم يعصروا شيئاً مدة الجدب ، والحلب منه لأنه عصر للضروع . وقال أبو عبيدة وغيره : ذلك مأخوذ من العصرة والعصر{[6718]} وهو الملجأ ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه : [ الخفيف ]

صادياً يستغيث غير مغاث*** ولقد كان عصرة المنجود{[6719]}

ومنه قول عدي بن زيد : [ الرمل ]

لو بغير الماء حلقي شرق*** كنت كالغصّان بالماء اعتصاري{[6720]}

ومنه قول ابن مقبل «[ البسيط ]

وصاحبي وهوه مستوهل زعل*** يحول بين حمار الوحش والعصر{[6721]}

ومنه قول لبيد : [ الطويل ]

فبات وأسرى القوم آخر ليلهم*** وما كان وقافاً بغير معصر{[6722]}

أي بغير ملتجأ ، فالآية على معنى ينجون بالعصرة .

وقرأ الأعرج وعيسى وجعفر بن محمد » يُعصَرون «بضم الياء وفتح الصاد ، وهذا مأخوذ من العصرة ، أي يؤتون بعصرة ؛ ويحتمل أن يكون من عصرات السحاب ماءها عليهم ، قال ابن المستنير : معناها يمطرون ، وحكى النقاش أنه قرىء » يعصرون «وجعلها من عصر البلل ونحوه . ورد الطبري على من جعل اللفظة من العصرة رداً كثيراً بغير حجة{[6723]} .


[6718]:بضم العين وسكون الصاد فيهما، يقال: جاء ولكن لم يجيء لعصر، أي: لم يجيء حين المجيء.
[6719]:البيت لأبي زبيد الطائي، والصادي: الشديد العطش، والجمع: صداة. ومعنى (كان عصرة المنجود): كان ملجأ المكروب. قال في (اللسان): "العصر بالتحريك، والعصر والعصرة: الملجأ والمنجاة، وعصر الشيء واعتصر به: لجأ إليه، وقد قيل في قوله تعالى {فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}: إنه من هذا، أي: ينجون من البلاء ويعتصمون بالخصب". وقد قيل: إن أبا زبيد قال البيت في رثاء ابن أخته الذي مات عطشا في طريق مكة وليس في عثمان رضي الله عنه.
[6720]:قال عدي بن زيد هذا البيت من قصيدة أنفذها إلى النعمان يذكره بطول عهده بالسجن ويرجوه العفو عنه، والاعتصار: أن يغص الإنسان بالطعام فيعتصر بالماء، وهو أن يشربه قليلا قليلا. ويقول: لو أني شرقت بغير الماء لكان في الماء نجاتي وإليه التجائي، فكيف أفعل وقد شرقت به؟ وأنت مائي، ولو كنت سجنت بأمر غيرك للجأت إليك فكيف وأنت ساجني؟
[6721]:صاحبه هنا هو فرسه، والفرس الوهوه والوهواه هو النشيط الحديد الذي يكاد يفلت من كل شيء من شدة حرصه على السبق ومن نزقه، والوهوه أيضا الذي يردد صوته في جزع، والمستوهل: الفزع النشيط/ والزعل: النشيط، والعصر: الملجأ، يصف فرسه بالنشاط والسرعة ويقول: إذا طارد فريسة بادرها ومنعها من أن تلجأ إلى ملجئها الذي تحتمي به، أو حال بينها وبين النجاة.
[6722]:استشهد صاحب (اللسان) بالشطر الثاني من البيت، والرواية فيه: "وما كان وقافا بدار معصر"، وذكر صاحب التاج البيت كاملا، والرواية فيه كرواية (اللسان). والبيت في الديوان من قصيدة قالها لبيد يذكر من فقد من قومه ومن سادات العرب، ويتأمل في سطوة الموت وضعف الإنسان أمامه، ومطلع هذه القصيدة: أعاذل قومي فاعذلي الآن أو ذري فلست وإن أقصرت عني بمقصر والمعصر بفتح الصاد المشددة: الملجأ والحرز، وقد نقل ابن عطية البيت عن الطبري بلفظ (بغير) وإلا فرواية الديوان هي (بدار) كما رواها التاج واللسان، والضمير في (بات) يعود على قيس بن جزء كما ذكر في الأبيات السابقة.
[6723]:قال الطبري: "ذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين".