معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ} (32)

قوله تعالى : { من أجل ذلك } ، قرأ أبو جعفر : من أجل ذلك بكسر النون موصولاً ، وقراءة العامة بجزم النون ، وفتح الهمزة مقطوعة ، أي : من جراء ذلك القاتل وجنايته ، يقال : أجل يأجل أجلاً إذا جنى ، مثل أخذ يأخذ أخذ .

قوله تعالى : { كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس } . قتلها فيقاد منه .

قوله تعالى : { أو فساد في الأرض } يريد بغير نفس ، وبغير فساد في الأرض ، من كفر ، أو زنا ، أو قطع طريق ، أو نحو ذلك .

قوله تعالى : { فكأنما قتل الناس جميعاً } ، اختلفوا في تأويلها . قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة : من قتل نبياً ، أو إماماً عدل ، فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن شد عضد نبي ، أو إمام عدل ، فكأنما أحيا الناس جميعاً . قال مجاهد : من قتل نفساً محرمة يصلى النار بقتلها ، كما يصلى لو قتل الناس جميعاً ، ومن أحياها من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعاً . قال قتادة : أعظم الله أجرها ، وعظم وزرها ، معناه : من استحل قتل مسلم بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً في الإثم ، لأنهم لا يسلمون منه .

قوله تعالى : { ومن أحياها } ، وتورع عن قتلها .

قوله تعالى : { فكأنما أحيا الناس جميعاً } في الثواب لسلامتهم منه . قال الحسن : { فكأنما قتل الناس جميعاً } يعني : أنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعاً ، { ومن أحياها } : أي عفى عمن وجب عليه القصاص له ، فلم يقتله ، فكأنما أحيا الناس جميعاً ، قال سليمان بن علي قلت للحسن : يا أبا سعيد ، أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل ؟ قال : إي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا .

قوله تعالى : { ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ} (32)

يقول تعالى : { مِنْ أَجْلِ } قَتْل ابن آدم أخاه ظلما وعدوانًا : { كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : شرعنا لهم وأعلمناهم { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } أي : ومن قتل نفسًا بغير سبب من قصاص ، أو فساد في الأرض ، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية ، فكأنما قتل الناس جميعًا ؛ لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس ، { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي : حرم قتلها واعتقد ذلك ، فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار ؛ ولهذا قال : { فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } .

وقال الأعمش وغيره ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : دخلت على عثمان يوم الدار فقلت : جئت لأنصرك وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين . فقال : يا أبا هريرة ، أيسرك أن تَقْتُل{[9683]} الناس جميعًا وإياي معهم ؟ قلت : لا . قال فإنك إن قتلت رجلا واحدًا فكأنما قتلت الناس جميعًا ، فانْصَرِفْ مأذونًا لك ، مأجورًا غير مأزور . قال : فانصرفت ولم أقاتل .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو كما قال الله تعالى : { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } وإحياؤها : ألا يقتل نفسًا حَرّمها الله ، فذلك الذي أحيا الناس جميعًا ، يعني : أنه من حَرّم قتلها إلا بحق ، حَيِي الناس منه [ جميعا ]{[9684]}

وهكذا قال مجاهد : { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي : كف عن قتلها .

وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس ، في قوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } يقول : من قتل نفسًا واحدة حرمها الله ، فهو مثل من قتل الناس جميعًا . وقال سعيد بن جبير : من استحل دمَ مُسْلِم فكأنما استحل دماء الناس جميعًا ، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعًا .

هذا قول ، وهو الأظهر ، وقال عِكْرمة والعوفي ، عن ابن عباس [ في قوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } يقول ]{[9685]} من قتل نبيًا أو إمام عَدْل ، فكأنما قتل الناس جميعًا ، ومن شَدّ على عَضد نبي أو إمام عَدل ، فكأنما أحيا الناس جميعًا . رواه ابن جرير .

وقال مجاهد في رواية أخرى عنه : من قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا ؛ وذلك لأنه من قتل النفس فله النار ، فهو كما لو قتل الناس كلهم .

وقال ابن جُرَيْج{[9686]} عن الأعرج ، عن مجاهد في قوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } من قتل النفس المؤمنة متعمدا ، جعل الله جزاءه جهنم ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعد له عذابًا عظيمًا ، يقول : لو قتل الناس جميعًا لم يزد على مثل ذلك العذاب .

قال ابن جريج : قال مجاهد { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } قال : من لم يقتل أحدًا فقد حيي الناس منه .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس [ جميعا ]{[9687]} يعني : فقد وجب عليه القصاص ، فلا{[9688]} فرق بين الواحد والجماعة { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي : عفا عن قاتل وليه ، فكأنما أحيا الناس جميعًا . وحكي ذلك عن أبيه . رواه ابن جرير .

وقال مجاهد - في رواية - : { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي : أنجاها من غَرق أو حَرق أو هَلكة .

وقال الحسن وقتادة في قوله : { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } هذا تعظيم لتعاطي القتل - قال قتادة : عَظُم والله وزرها ، وعظم والله أجرها .

وقال ابن المبارك ، عن سلام بن مسكين ، عن سليمان بن علي الرِّبْعِي قال : قلت للحسن : هذه الآية لنا يا أبا سعيد ، كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال : إي والذي لا إله غيره ، كما كانت لبني إسرائيل . وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا .

وقال الحسن البصري : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } قال : وزرًا . { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } قال : أجرًا .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثنا حُيَي{[9689]} بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو قال : جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، اجعلني على شيء أعيش به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا حمزة ، نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها ؟ " قال : بل نفس أحييها : قال : " عليك بنفسك " . {[9690]} {[9691]}

وقوله : { وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة { ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ } وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها ، كما كانت بنو قُرَيْظَة والنَّضير وغيرهم من بني قَيْنُقاع ممن حول المدينة من اليهود ، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية ، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه ، وودوا من قتلوه ، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة ، حيث يقول : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ{[9692]} إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ البقرة : 84 ، 85 ] .


[9683]:في أ: "يقتل".
[9684]:زيادة من أ.
[9685]:زيادة من أ.
[9686]:في أ: "وقال ابن جرير".
[9687]:زيادة من أ.
[9688]:في ر: "ولا".
[9689]:في ر: "يحيى".
[9690]:في ر: "عليك نفسك".
[9691]:المسند (2/175)
[9692]:في أ: "تردون".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ} (32)

{ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل } بسببه قضينا عليهم ، وأجل في الأصل مصدر أجل شرا إذا جناه استعمل في تعليل الجنايات كقولهم ، من جراك فعلته ، أي من أن جررته أي جنيته ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعليل ، ومن ابتدائية متعلقة بكتبنا أي ابتداء الكتب ونشوء من أجل ذلك . { أنه من قتل نفسا بغير نفس } أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص . { أو فساد في الأرض } أو بغير فساد فيها كالشرك أو قطع الطريق . { فكأنما قتل الناس جميعا } من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسن القتل ، وجرأ الناس عليه ، أو من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم . { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } أي ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل ، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة فكأنما فعل ذلك بالناس جميعا ، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيبا عن التعرض لها وترغيبا في المحاماة عليها . { ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون } أي بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية ، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدا للأمر وتجديدا للعهد كي يتحاموا عنها وكثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون به ، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها والإسراف التباعد عن حد الاعتدال في الأمر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ} (32)

جمهور الناس على أن قوله : { من أجل ذلك } متعلق بقوله { كتبنا } أي بسبب هذه النازلة ومن جَّراها كتبنا ، وقال قوم : بل هو متعلق بقوله { من النادمين } [ المائدة : 31 ] أي ندم من «أجل » ما وقع ، والوقف على هذا على ذلك ، والناس على أن الوقف { من النادمين } ويقال أجل الأمر أجلاً{[4520]} وأجلاً إذا جناه وجره ، ومنه قول خوات :

وأهل خباء صالح ذات بينهم *** قد احتربوا في عاجل أنا آجله{[4521]}

ويقال فعلت ذلك من أجلك بفتح الهمزة ومن إجلك بكسرها ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : [ من اجل ذلك ] بوصل الألف وكسر النون قبلها ، وهذا على أن ألقى حركة الهمزة على النون كما قالوا : كم ابلك بكسر الميم ووصل الألف . . ومن ابراهيم بكسر النون و { كتبنا } معناه كتب بأمرنا في كتب منزلة عليهم تضمنت فرض ذلك ، وخص الله تعالى : { بني إسرائيل } بالذكر وقد تقدمتهم أمم كان قتل النفس فيهم محظوراً لوجهين ، أحدهما فيما روي أن { بني إسرائيل } أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب ، وغلظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم وسكفهم الدماء ، والآخر لتلوح مذمتهم في أن كتب عليه هذا ، وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون بل همّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ظلماً ، فخصوا بالذكر لحضورهم مخالفين لما كتب عليهم ، وقوله تعالى : { بغير نفس } معناه بغير أن تقتل نفساً فتستحق القتل ، وقد حرم الله تعالى نفس المؤمن إلا بإحدى ثلاث خصال : كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس ظلماً تعدياً . وهنا يندرج المحارب ، والفساد في الأرض بجميع الزنا والارتداد والحرابة ، وقرأ الحسن «أو فساداً في الأرض » بنصب الفساد على فعل محذوف وتقديره أو أتى فساداً أو أحدث فساداً ، وحذف الفعل الناصب لدلالة الكلام عليه ، وقوله تعالى : { فكأنما قتل الناس جميعاً } اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه ، فروي عن ابن عباس أنه قال المعنى من قتل نبياً إو إمام عدل { فكأنما قتل الناس جميعاً } ومن أحياه بأن شد عضده ونصره { فكأنما أحيا الناس جميعاً } .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا تعطيه الألفاظ ، وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال : المعنى من قتل نفساً واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعاً . ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها مخافتي واستحيامن أن يقتلها فهو كمن أحيا الناس جميعاً . وقال عبد الله بن عباس أيضاً ، المعنى فكأنما قتل الناس جميعاً عند المقتول ، ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ . وقال ابن عباس أيضا وغيره :المعنى : من قتل نفسا فأوبق نفسه فكأنه قتل الناس جميعا ، إذ يصلى النار بذلك ، ومن سلم من قتلها فكأنه سلم من «قتل الناس جميعاً » . وقال مجاهد :الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم ، وغضب عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ، يقول لو «قتل الناس جميعاً » لم يزد على ذلك . ومن لم يقتل أحداً فقد حيي الناس منه . وقال ابن زيد : المعنى أي من قتل نفساً فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من «قتل الناس جميعاً » . قال : ومن أحياها أنقذها من حرق أو غرق ، وقال قوم لما كان المؤمنون كلهم يطلبون القاتل كان كمن قتل الناس جميعاً .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قول متداع ولم يتخلص التشبيه إلى طرف في شيء من هذه الأقوال ، والذي أقول إن الشبه بين قاتل النفس وقاتل الكل لا يطرد من جميع الجهات ، لكن الشبه قد تحصل من ثلاث جهات ، إحداها القود فإنه واحد ، والثانية الوعيد ، فقد توعد الله قاتل النفس بالخلود في النار ، وتلك غاية العذاب ، فإن فرضناه يخرج من النار بعد بسبب التوحيد فكذلك قاتل الجميع ان لو اتفق ذلك ، والثالثة انتهاك الحرمة ، فإن نفساً واحدة ، في ذلك وجميع الأنفس سواء ، والمنتهك في واحدة ملحوظ بعين منتهك الجميع ، ومثال ذلك رجلان حلفا على شجرتين ألا يطعما من ثمرهما شيئاً ، فطعم أحدهما واحدة من ثمر شجرته وطعم الآخر ثمر شجرته كله ، فقد استويا في الحنث ، وقوله تعالى : { ومن أحياها } فيه تجوز لأنها عبارة عن الترك والإنقاذ فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع إنما هو لله تعالى . وإنما هذا الإحياء بمنزلة قول نمرود : أنا أحيي ، سمى الترك إحياء ، ومحيي نفس كمحيي الجميع في حفظ الحرمة واستحقاق الحمد ، ثم أخبر الله تعالى عن «بني إسرائيل » أنهم جاءتهم الرسل من الله بالبينات في هذا وفي سواه ، ثم لم يزل الكثير منهم بعد ذلك في كل عصر يسرفون ويتجاوزون الحدود ، وفي هذه الآية إشارة إلى فعل اليهود في همهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره إلى سائر ذلك من أعمالهم .


[4520]:- فرّق "المعجم الوسيط" بين المصدرين فقال: أجل الشيء- أجلا: حبسه ومنعه، وفلانا: عالجه من الإجل، وأجل أجلا: تأخر، فهو: أجل، وآجل، وأجيل، وفلان: اشتكى الجل (والإجل: وجع في العنق من ميله على الوسادة).
[4521]:- البيت لخوات بن جبير بن النعمان، أحد فرسان الصحابة، شهد بدرا، وتوفي بالمدينة سنة أربعين (الاستيعاب)، وقد نسب اللسان أيضا البيت لخوات هذا، ونقل النسبة عن ابن عطية في "البحر"، ونسبة القرطبي، والشيخ مرتضى للخنوت، اسمه: توبة بن ضرب بن عبيد- والبيت في ديوان زهير- و(أهل) بالكسر على تقدير (ربّ)- ورواية اللسان والقرطبي: "كنت بينهم" بدلا من "ذات بينهم".