قوله تعالى : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } ، يعني : أهلك القرون الماضية وأورثكم الأرض يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم من بعدهم ، فجعلكم خلائف منهم فيها تخلفونهم فيها ، وتعمرونها بعدهم ، والخلائف جمع خليفة كالوصائف جمع وصيفة ، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة لأنه يخلفه .
قوله تعالى : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } ، أي : خالف بين أحوالكم فجعل بعضكم فوق بعض في الخلق والرزق والمعاش والقوة والفضل .
قوله تعالى : { ليبلوكم في ما آتاكم } ، ليختبركم فيما رزقكم ، يعني : يبتلي الغني والفقير ، والشريف والوضيع ، والحر والعبد ، ليظهر منكم ما يكون عليه من الثواب والعقاب . قوله تعالى : { إن ربك سريع العقاب } ، لأن ما هو آت فهو سريع قريب ، قيل : هو الهلاك في الدنيا .
قوله تعالى : { وإنه لغفور رحيم } ، قال عطاء : سريع العقاب لأعدائه ، غفور لأوليائه رحيم بهم .
يقول تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } أي : جعلكم تعمرون الأرض جيلا بعد جيل ، وقَرْنا بعد قرن ، وخَلَفا بعد سَلَف . قاله ابن زيد وغيره ، كما قال : { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ } [ الزخرف : 60 ] ، وكقوله تعالى : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [ النمل : 62 ] ، وقوله { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] ، وقوله { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ] .
وقوله : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أي : فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق ، والمحاسن والمساوي ، والمناظر والأشكال والألوان ، وله الحكمة في ذلك ، كقوله : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } [ الزخرف : 32 ] ، وقوله [ تعالى ]{[11532]} : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } [ الإسراء : 21 ] .
وقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } أي ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به ، ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره ، والفقير في فقره ويسأله عن صبره .
وقد روى مسلم في صحيحه ، من حديث أبي نَضْرة ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الدنيا حُلْوَة خَضِرَة وإن الله مُسْتَخْلِفكم فيها لينظر كيف{[11533]} تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " {[11534]} .
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } ترهيب وترغيب ، أن حسابه وعقابه سريع ممن{[11535]} عصاه وخالف رسله { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } لمن والاه واتبع رسله فيما جاءوا به من خير وطلب .
وقال محمد بن إسحاق : يرحم العباد على ما فيهم . رواه ابن أبي حاتم .
وكثيرا ما يقرن تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين ، كما قال [ تعالى ]{[11536]} : وقوله : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } [ الحجر : 49 ، 50 ] ، [ وقوله ]{[11537]} : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الرعد : 6 ] وغير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب ، فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه ، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها ، وتارة بهذا وبهذا ليَنْجَع في كُلَّ بحَسَبِه . جَعَلَنا الله ممن{[11538]} أطاعه فيما أمر ، وترك ما عنه نهى وزَجَر ، وصدقه فيما أخبر ، إنه قريب مجيب سميع الدعاء ، جواد كريم وهاب .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا زُهَيْر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[11539]} أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طَمِع بالجنة أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قَنطَ من الجنة أحد ، خلق الله مائة رَحْمَة فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها ، وعند الله تسعة وتسعون " .
ورواه الترمذي ، عن قُتَيْبَة ، عن عبد العزيز الدَّراوَرْدي ، عن العلاء به . وقال : حسن [ صحيح ]{[11540]} . ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى وقتيبة وعلي بن حُجْر ، ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء{[11541]} .
[ آخر تفسير سورة الأنعام ولله الحمد والمنة ]{[11542]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنّ رَبّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنّهُ لَغَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته : والله الّذِي جَعَلَكُمْ أيها الناس خَلائِفَ الأرْضِ بأن أهلك من كان قبلكم من القرون والأمم الخالية ، واستخلفكم فجعلكم خلائف منهم في الأرض ، تخلفونهم فيها ، وتعمرونها بعدهم . والخلائف : جمع خليفة ، كما الوصائف جمع وصيفة ، وهي من قول القائل : خَلَف فلان فلانا في داره يَخْلُفُه فهو خليفة فيها ، كما قال الشماخ :
تُصِيبُهُمْ وتُخْطِئنِي المنَايا ***وأُخْلَفُ فِي رُبُوعٍ عَنْ رُبُوعِ
حدثني الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَهُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ قال : أما خلائف الأرض : فأهلك القرون ، واستخلفنا فيها بعدهم .
وأما قوله : وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ فإنه يقول : وخالف بين أحوالكم ، فجعل بعضكم فوق بعض ، بأن ربع هذا على هذا بما بسط لهذا من الرزق ففضله بما أعطاه من المال والغنى على هذا الفقير فيما خوّله من أسباب الدنيا ، وهذا على هذا بما أعطاه من الأيد والقوّة على هذا الضعيف الواهن القُوَى ، فخالف بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا وخفض من درجة هذا عن درجة هذا . وذلك كالذي :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ يقول : في الرزق .
وأما قوله : لِيَبْلُوَكُمْ فِيما آتاكُمْ فإنه يعني : ليختبركم فيما خوّلكم من فضله ومنحكم من رزقه ، فيعلم المطيع له منكم فيما أمره به ونهاه عنه والعاصي ، ومن المؤدّي مما آتاه الحقّ الذي أمره بأدائه منه والمفرط في أدائه .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ رَبّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإنّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ .
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن ربك يا محمد لسريع العقاب لمن أسخطه بارتكابه معاصيه وخلافه أمره فيما أمره به ونهاه ، ولمن ابتلي منه فيما منحه من فضله وطوْله ، توليا وإدبارا عنه ، مع إنعامه عليه وتمكينه إياه في الأرض ، كما فعل بالقرون السالفة . وَإنّهُ لَغَفُورٌ : وإنه لساتر ذنوب من ابتلي منه إقبالاً إليه بالطاعة عند ابتلائه إياه بنعمة ، واختباره إياه بأمره ونهيه ، فمغطّ عليه فيها وتارك فضيحته بها في موقف الحساب . رَحِيمٌ بتركه عقوبته على سالف ذنوبه التي سلفت بينه وبينه إذ تاب وأناب إليه قبل لقائه ومصيره إليه .
يَظهر أنّ هذا دليل على إمكان البعث ، وعلى وقوعه ، لأنّ الذي جعل بعض الأجيال خلائف لما سبَقَها ، فعمَروا الأرض جيلاً بعد جيل ، لا يُعجزه أن يحشرها جميعاً بعد انقضاء عالم حياتها الأولى . ثمّ إنّ الذي دبَّر ذلك وأتقنه لا يليق به أن لا يقيم بينهم ميزان الجزاء على ما صنعوا في الحياة الأولى لئلا يذهب المعتدون والظّالمون فائزين بما جنوا ، وإذا كان يقيم ميزان الجزاء على الظّالمين فكيف يترك إثابة المحسنين ، وقد أشار إلى الشقّ الأول قوله : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } ، وأشار إلى الشقّ الثّاني قوله : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلونكم في ما آتاكم } . ولذلك أعقبه بتذييله : { إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } .
فالخطابُ موجَّه إلى المشركين الذين أمِر الرّسولُ عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهم : { أغير الله أبغي رباً } [ الأنعام : 164 ] ؛ وذلك يذكّر بأنَّهم سيصيرون إلى ما صار إليه أولئك . فموقع هذه عقب قوله : { ثم إلى ربكم مرجعكم } [ الأنعام : 164 ] تذكير بالنّعمة ، بعد الإنذار بسلبها ، وتحريض على تدارك ما فات ، وهو يفتح أعينهم للنّظر في عواقب الأمم وانقراضها وبقائها .
ويجوز أن يكون الخطاب للرّسول عليه الصّلاة والسّلام والأمّة الإسلاميّة ، وتكون الإضافة على معنى اللام ، أي جعلكم خلائف الأمم التي ملكتْ الأرض فأنتم خلائفُ للأرض ، فتكون بشارة للأمّة بأنَّها آخر الأمم المجعولة من الله لتعمير الأرض . والمراد : الأمم ذوات الشّرائع الإلهيّة وأياً ما كان فهو تذكير بعظيم صنع الله ومنّته لاستدعاء الشّكر والتّحذير من الكفر .
والخلائف : جمع خليفة ، والخليفة : اسم لما يُخلف به شيء ، أي يجعل خلفاً عنه ، أي عوضَه ، يقال : خليفة وخِلْفة ، فهو فَعيل بمعنى مفعول ، وظهرت فيه التّاء لأنَّهم لما صيّروه اسماً قطعوه عن موصوفه .
وإضافته إلى الأرض على معنى ( في ) على لوجه الأوّل ، وهو كون الخَطاب للمشركين ، أي خلائف فيها ، أي خلف بكم أمماً مضت قبلكم كما قال تعالى حكاية عن الرّسل في مخاطبة أقوامهم : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ] { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } [ الأعراف : 74 ] { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } [ الأعراف : 129 ] . والإضافة على معنى اللام على الوجه الثّاني وهو كون الخطاب للمسلمين .
وفي هذا أيضاً تذكير بنعمة تتضمّن عبرة وموعظة : وذلك أنَّه لمّا جعلهم خلائف غيرهم فقد أنشأهم وأوجدهم على حين أعدم غيرهم ، فهذه نعمة ، لأنَّه لو قدّر بقاء الأمم التي قبلها لما وُجد هؤلاء .
وعطْف قوله : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } يجري على الاحتمالين في المخاطب بقوله : { جعلكم خلائف الأرض } فهو أيضاً عبرة وعِظة ، لعدم الاغترار بالقوّة والرّفعة ، ولجعل ذلك وسيلة لشكر تلك النّعمة والسّعي في زيادة الفضل لمن قصّر عنها والرّفق بالضّعيف وإنصاف المظلوم .
ولذلك عقّبه بقوله : { ليبلونكم ما آتاكم } أي ليَخْبُركم فيما أنعم به عليكم من درجات النّعم حتّى يظهر للنّاس كيف يضع أهل النّعمة أنفسهم في مواضعها اللائقة بها وهي المعبّر عنها بالدّرجات . والدّرجات مستعارة لتفاوت النّعم . وهي استعارة مبنيّة على تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريبه .
والإيتاء مستعار لتكوين الرّفعة في أربابها تشبيهاً للتكوين بإعطاء المعطي شيئاً لغيره .
والبلْو : الاختبار ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع } [ البقرة : 155 ] . والمراد به ظهور موازين العقول في الانتفاع والنّفع بمواهب الله فيها وما يسرّه لها من الملائمات والمساعدات ، فالله يعلم مراتب النّاس ، ولكن سمّى ذلك بَلْوى لأنَّها لا تظهر للعيان إلاّ بعد العمل ، أي ليعلمه الله علم الواقعات بعد أن كان يعلمه علم المقدرات ، فهذا موقع لام التّعليل ، وقريب منه قول إياس بن قبيصَة الطائي :
وأقبلتُ والخطيّ يخطر بيننا *** لأعلم مَنْ جَبانها مِن شُجاعها
وجملة : { إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } تذييل للكلام وإيذان بأنّ المقصود منه العمل والامتثال فلذلك جمع هنا بين صفة { سريع العقاب } وصفة { لغفور } ليناسب جميع ما حوته هذه السّورة .
واستعيرت السّرعة لعدم التردّد ولتمام المقدرة على العقاب ، لأنّ شأن المتردّد أو العاجز أن يتريّث وأن يخشى غائلة المعاقَب ، فالمراد سريع العقاب في يوم العقاب ، وليس المراد سريعه من الآن حتّى يؤوّل بمعنى : كلّ آت قريب ، إذ لا موقع له هنا .
ومن لطائف القرآن الاقتصار في وصف ( سريع العقاب ) على موكِّد واحد ، وتعزيز وصف ( الغفور الرحيم ) بمؤكدات ثلاثة وهي إنّ ، ولام الابتداء ، والتّوكيد اللّفظي ؛ لأنّ ( الرّحيم ) يؤكِّد معنى ( الغفور ) : ليُطمئِن أهل العمل الصّالح إلى مغفرة الله ورحمته ، وليَسْتَدعي أهلَ الإعراض والصدوف ، إلى الإقلاع عمّا هم فيه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وهو الذي جعلكم خلائف الأرض}، يعني من بعد هلاك الأمم الخالية، {ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم}، يعني بالدرجات الفضائل والرزق... يعني ليبتليكم فيما أعطاكم... {إن ربك سريع العقاب} لمن عصاه في فاقة أو غنى، يخوفهم كأنه قد جاء ذلك اليوم، {وإنه لغفور رحيم} بعد التوبة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته: والله "الّذِي جَعَلَكُمْ "أيها الناس "خَلائِفَ الأرْضِ" بأن أهلك من كان قبلكم من القرون والأمم الخالية، واستخلفكم فجعلكم خلائف منهم في الأرض، تخلفونهم فيها، وتعمرونها بعدهم...
وأما قوله: "وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ" فإنه يقول: وخالف بين أحوالكم، فجعل بعضكم فوق بعض، بأن ربع هذا على هذا بما بسط لهذا من الرزق ففضله بما أعطاه من المال والغنى على هذا الفقير فيما خوّله من أسباب الدنيا، وهذا على هذا بما أعطاه من الأيد والقوّة على هذا الضعيف الواهن القُوَى، فخالف بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا وخفض من درجة هذا عن درجة هذا...
وأما قوله: "لِيَبْلُوَكُمْ فِيما آتاكُمْ" فإنه يعني: ليختبركم فيما خوّلكم من فضله ومنحكم من رزقه، فيعلم المطيع له منكم فيما أمره به ونهاه عنه والعاصي، ومن المؤدّي مما آتاه الحقّ الذي أمره بأدائه منه والمفرط في أدائه.
"إنّ رَبّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإنّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد لسريع العقاب لمن أسخطه بارتكابه معاصيه وخلافه أمره فيما أمره به ونهاه، ولمن ابتلي منه فيما منحه من فضله وطوْله، توليا وإدبارا عنه، مع إنعامه عليه وتمكينه إياه في الأرض، كما فعل بالقرون السالفة. "وَإنّهُ لَغَفُورٌ": وإنه لساتر ذنوب من ابتلي منه إقبالاً إليه بالطاعة عند ابتلائه إياه بنعمة، واختباره إياه بأمره ونهيه، فمغطّ عليه فيها وتارك فضيحته بها في موقف الحساب. "رَحِيمٌ" بتركه عقوبته على سالف ذنوبه التي سلفت بينه وبينه إذ تاب وأناب إليه قبل لقائه ومصيره إليه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله "إن ربك سريع العقاب "إنما وصف نفسه بأنه سريع العقاب مع وصفه تعالى بالإمهال ومع أن عقابه في الآخرة من حيث كان كل آت قريبا، فهو إذا سريع، كما قال "وما أمر الساعة الا كلمح البصر أو هو أقرب" وقد يكون سريع العقاب بمن استحقه في دار الدنيا، فيكون تحذير الواقع في الخطيئة على هذه الجهة. وقيل معناه اأنه قادر على تعجيل العقاب، فاحذروا معاجلته. وإنما قابل بين العقاب والغفران ولم يقابل بالثواب، لأن ذلك أدعى إلى الإقلاع عما يوجب العقاب، لأنه لو ذكر الثواب لجاز أن يتوهم أنه لمن لم يكن فيه عصيان...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
صير التوبة إليكم، وقَصَرَ حكم عصركم عليكم، فأنتم المقصودون اليوم دون من هو سواكم. ثم إنه جعلكم أصنافاً، وخلقكم أخْيافاً فمنْ مُسَخَّرٍ له، مُرَفَّهٍ، مُرَوَّحٍ، يتعب لأَجْله كثيرٌ. ومن مُعَنَّيّ، وذي مشقةٍ أُدِير عليه رأسهُ. وجاء البلاءُ ليختبركم فيما آتاكم، ويمتحنكم فيما أعطاكم. إنَّ حسابه لكم لاحِقٌ، وحكمه فيكم سابق. والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{جَعَلَكُمْ خلائف الأرض} لأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فخلفت أمّته سائر الأمم. أو جعلهم يخلف بعضهم بعضاً. أو هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها. {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات} في الشرف والرزق {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتاكم} من نعمة المال والجاه، كيف تشكرون تلك النعمة، وكيف يصنع الشريف بالوضيع، والحرّ بالعبد، والغني بالفقير {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب} لمن كفر نعمته {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن قام يشكرها. ووصف العقاب بالسرعة، لأنّ ما هو آت قريب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {خلائف} جمع خليفة أي يخلف بعضكم بعضاً.
وهذا يتصور في جميع الأمم وسائر أصناف الناس، لأن من أتى خليفة لمن مضى، ولكنه يحسن في أمة محمد عليه السلام أن يسمى أهلها بجملتهم خلائف للأمم، وليس لهم من يخلفهم إذ هم آخر الأمم وعليهم قيام الساعة...
وقوله {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} لفظ عام في المال والقوة والجاه وجودة النفوس والأذهان وغير ذلك، وكل ذلك إنما هو ليختبر الله تعالى الخلق فيرى المحسن من المسيء، ولما أخبر عز وجل بهذا ففسح للناس ميدان العمل وحضهم على الاستباق إلى الخير توعّد ووعد تخويفاً منه وترجية، فقال {إن ربك سريع العقاب} وسرعة عقابه إما بأخذاته في الدنيا، وإما بعقاب الآخرة، وحسن أن يوصف عقاب الآخرة ب {سريع} لما كان متحققاً مضمون الإتيان والوقوع، فكل آت يحكم عليه بالقرب ويوصف به {وإنه لغفور رحيم} ترجية لمن أذنب وأراد التوبة، وهذا في كتاب الله كثير اقتران الوعيد بالوعد لطفاً من الله تعالى بعباده.
هذا الكلام بلغ في شرح الأعذار والإنذار والترغيب والترهيب إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما قدم أنه المحسن إلى كل شيء بالربوبية، وختم بالتهديد بالحشر، أتبعه التذكير بتخصيصهم بالإحسان، فقال عاطفاً على {وهو رب كل شيء} مستعطفاً لهم إليه بالتذكير بنعمته: {وهو} أي لا غيره {الذي جعلكم} أي أيها الإنس {خلائف الأرض} أي تفعلون فيها فعل الخليفة متمكنين من كل ما تريدونه، ويجوز أن يراد بذلك العرب، ويكون ظاهر الكلام أن المراد بالأرض ما هم فيه من جزيرة العرب، وباطنه البشارة بإعلاء دينهم الإسلام على الدين كله وغلبتهم على أكثر أهل الأرض في هذه الأزمان وعلى جميع أهل الأرض في آخر الزمان {ورفع بعضكم} في مراقي العقل والعلم والدين والمال والجاه والقوة الحسية والمعنوية {فوق بعض درجات} أي مع كونكم من نفس واحدة، وربما كان الوضيع أعقل من الرفيع ولم ينفعه عقله فيدل ذلك دلالة واضحة على أن ذلك كله إنما هو فعل الواحد القهار، لا بعجز ولا جهل ولا بخل؛ ثم علل ذلك بقوله: {ليبلوكم} أي يفعل معكم فعل المختبر ليقيم الحجة عليكم وهو أعلم بكم منكم {في ما آتاكم} فينظر هل يرحم الجليل الحقير ويرضى الفقير بعطائه اليسير، ويشكر القوي ويصبر الضعيف!. ولما ذكر علو بعضهم على بعض، وكان من طبع الآدمي التجبر، أتبعه التهديد للظالم والاستعطاف للتائب بما يشير -بما له سبحانه من علو الشأن وعظيم القدرة- إلى ضعف العالي منهم وعجزه عن عقاب السافل بمن يحول بينه وبينه من شفيع وناصر وبما يحتاج إليه من تمهيد الأسباب، محذراً من البغي والعصيان فقال موجهاً الخطاب إلى أكمل الخلق تطييباً لقلبه إعلاماً بأنه رباه سبحانه أجمل تربية وأدبه أحسن تأديب: {إن ربك} أي المحسن إليك {سريع الحساب} أي لمن يريد عقابه ممن يكفر نعمته لكونه لا حائل بينه وبين من يريد عقابه ولا يحتاج إلى استحضار آلات العقاب، بل كل ما يريد حاضر لديه عتيد إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون 1939} [يس: 82]، وفي ذلك تهديد شديد لمن لا يتعظ. ولما هدد وخوف، رجّى من أراد التوبة واستعطف فقال: {وإنه لغفور رحيم} معلماً بأنه -على تمام قدرته عليهم وانهماكهم فيما يوجب الإهلاك- بليغ المغفرة لهم عظيم الرحمة {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة} [النحل: 61]، حثاً على عفو الرفيع من الوضيع، وتأكيده الثاني دون الأول ناظر إلى قوله {كتب على نفسه الرحمة} [الأنعام: 12]، "إن رحمتي سبقت غضبي "لأنه في سياق التأديب لهذه الأمة والتذكير بالإنعام عليهم بالاستخلاف، وسيأتي في الأعراف بتأكيد الاثنين لأنه في حكاية ما وقع لبني إسرائيل من إسراعهم في الكفر ومبادرتهم إليه واستحقاقهم على ذلك العقوبة، وجاء ذلك على طريق الاستئناف على تقدير أن قائلاً قال: حينئذ يسرع العالي إلى عقوبة السافل! فأجيب بأن الله فوق الكل وهو أسرع عقوبة، فهو قادر على أن يسلط الوضيع أو أحقر منه على الرفيع فيهلكه؛ ثم رغب بعد هذا الترهيب في العفو بأنه على غناه عن الكل أسبل ذيل غفرانه ورحمته بإمهاله العصاة وقبوله اليسير من الطاعات بأنه خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور منافع لهم ثم هم به يعدلون! ولولا غفرانه ورحمته لأسرع عقابه لمن عدل به غيره فأسقط عليهم السماوات وخسف بهم الأرضين التي أنعم عليهم بالخلافة فيها وأذهب عنهم النور وأدام الظلام، فقد ختم السورة بما به ابتدأها، فإن قوله: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} هو المراد بقوله: {هو الذي خلقكم من طين} [الأنعام: 2] وقوله: {أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء} [الأنعام: 164] هو معنى قوله: {خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} [الأنعام: 1]...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} هذه الآية مبينة لبعض أحوال البشر التي نعبر عنها في عرف هذا العصر بالسنن الاجتماعية وقد عطفت على ما قبلها لأنها في سياق تقرير التوحيد وإبطال خرافات الشرك على ما سنبينه. والخلائف جمع خليفة وهو من يخلف أحدا كان قبله في مكان أو عمل أو ملك. وفي الخطاب وجهان أحدهما: أنه للبشر والمعنى أنه تعالى جعلهم خلفاءه في الأرض بالتبع لأبيهم آدم على ما تقدم في سورة البقرة أو جعل سنته فيهم أن تذهب أمة وتخلفها أخرى، ثانيهما: أن الخطاب للأمة المحمدية وأنه جعلهم خلفاء لمن سبقهم من الأمم في الملك واستعمار الأرض وهذا هو الراجح المختار ويؤيده قوله تعالى بعد ذكر إهلاك القرون الخالية {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} (يونس 14) وفي معناها آيات أخرى وقال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} (النور 53) وهذا استخلاف خاص وذلك عام.
والمعنى أن ربكم الذي هو رب كل شيء هو الذي جعلكم خلائف هذه الأرض بعد أمم سبقت لكم في سيرتها عبر ورفع بعضكم فوق بعض درجات في الخلق والخلق والغنى والفقر، والقوة والضعف والعلم والجهل والعقل والجهل والعز والذل ليختبركم فيما أعطاكم أي يعاملكم معاملة المختبر لكم في ذلك فيبني الجزاء على العمل، بمعنى أن سننه تعالى في تفاوت الناس فيما ذكرنا من الصفات الوهبية والأعمال الكسبية هي التي يظهر بها استعداد كل منهم ودرجة وقوفه في تصرفه في النعم والنقم عند وصايا الدين وحدود الشرع، ووجدان الاطمئنان في القلب، والحقوق والواجبات تختلف باختلاف أحوال الناس في تلك الدرجات، وسعادة الناس أفرادا وأسرا وأمما وشقاوتهم في الدنيا والآخرة تابعة لأعمالهم وتصرفاتهم في مواهبهم ومزاياهم وما يبتليهم به تعالى من النعم والنقم، ولا شيء مما يطلبه الناس من سعادة الدنيا ونعمها أو رفع نقمها أو من ثواب الآخرة والنجاة من عذابها إلا وهو منوط بأعمالهم التي ابتلاهم بها بحسب ما قرره شرعه المبني على توحيده المجرد، ومضت به سننه في نظام الأسباب والمسببات، فبقدر علمهم وعملهم بالشرع وسنن الكون والاجتماع البشري يكون حظهم من السعادة.
فهذه الهداية الاجتماعية مقررة لعقيدة التوحيد وهادمة لقواعد الشرك التي هي عبارة عن اتكال الناس واعتمادهم على ما اتخذوا بينهم وبين ربهم من الوسطاء ليقربوهم إليه ويشفعوا لهم عنده فيما يطلبون من نفع ودفع ضر كما تقدم شرحه... نزل في معنى هذه الآية آيات كثيرة ناطقة بأن نعم الله في الأنفس والآفاق مما يفتن الله به عباده أي يربيهم ويختبرهم ليظهر أيهم أحسن عملا فيترتب عليه الجزاء في الدارين... أرشدنا الله تعالى في هذه الآيات وأمثالها إلى طريق الاستفادة من سننه في جعلنا خلائف في الأرض ورفع بعضنا درجات على بعض، بأن نصبر في البأساء والضراء، ونشكر في السراء، والشكر عبارة عن صرف النعم فيما وهبت لأجله، وهو ما يرضي المنعم تعالى وتظهر به حكمته، وتعم رحمته كإنفاق فضل المال في وجوه البر التي تنفع الناس وإعداد القوة بقدر الاستطاعة لتأييد الحق وإقامة العدل. ولكل نعمة بدنية أو عقلية أو علمية أو مالية أو حكمية شكر خاص، ومن لم يهتد بهذه الهداية الربانية في الاستفادة من النعم والنقم فإنه يسيء التصرف في الحالتين فيظلم نفسه ويظلم الناس، وإن العقل الصحيح والفطرة السليمة مما يهدي إلى الصبر والشكر، ولكن لا تكمل الهداية إلا بتعليم الوحي، لأن الإسلام قد شرع لمساعدة العقل على حفظ مواهب الله تعالى في الفطرة ومنع الهوى من إفسادها، وصدها عن الوصول إلى كمالها، ولذلك سمي دين الفطرة...
{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي إنه تعالى سريع العقاب لمن كفر به أو بنعمه وخالف شرعه وتنكب سننه، وسرعة العقاب تصدق في عقاب الدنيا والآخرة فإن العقاب العام عبارة عما يترتب على ارتكاب الذنوب من سوء التأثير وهو في الدنيا ما حرمت لأجله من الضرر في النفس أو العقل أو العرض أو المال أو غير ذلك من الشؤون الاجتماعية، فإن الذنوب ما حرمت إلا لضرها وهو واقع مطرد في الدنيا في ذنوب الأمم وأكثري في ذنوب الأفراد ولكنه يطرد في الآخرة بتدنيسها النفس وتدسيتها كما وضحناه مرارا، وقد يستبطئ الناس العقاب قبل وقوعه لأن ما في الغيب مجهول لديهم فيستبعدونه وهو عند الله معلوم مشهود فليس ببعيد {أنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا} (المعارج 6- 7).
وأنه تعالى على سرعة عقابه وشدة عذابه للمشركين والكافرين غفور للتوابين الأوابين رحيم بالمؤمنين والمحسنين. بل سبقت رحمته غضبه ووسعت كل شيء ولذلك جعل جزاء الحسنة عشر أمثالها وقد يضاعفها بعد ذلك أضعافا كثيرة، وجزاء السيئة سيئة مثلها وقد يغفرها لمن تاب منها {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (الشورى 30) وقد أكد المغفرة والرحمة هنا بما لم يؤكد به العقاب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يَظهر أنّ هذا دليل على إمكان البعث، وعلى وقوعه، لأنّ الذي جعل بعض الأجيال خلائف لما سبَقَها، فعمَروا الأرض جيلاً بعد جيل، لا يُعجزه أن يحشرها جميعاً بعد انقضاء عالم حياتها الأولى. ثمّ إنّ الذي دبَّر ذلك وأتقنه لا يليق به أن لا يقيم بينهم ميزان الجزاء على ما صنعوا في الحياة الأولى لئلا يذهب المعتدون والظّالمون فائزين بما جنوا، وإذا كان يقيم ميزان الجزاء على الظّالمين فكيف يترك إثابة المحسنين، وقد أشار إلى الشقّ الأول قوله: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض}، وأشار إلى الشقّ الثّاني قوله: {ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلونكم في ما آتاكم}. ولذلك أعقبه بتذييله: {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم}. فالخطابُ موجَّه إلى المشركين الذين أمِر الرّسولُ عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهم: {أغير الله أبغي رباً} [الأنعام: 164]؛ وذلك يذكّر بأنَّهم سيصيرون إلى ما صار إليه أولئك. فموقع هذه عقب قوله: {ثم إلى ربكم مرجعكم} [الأنعام: 164] تذكير بالنّعمة، بعد الإنذار بسلبها، وتحريض على تدارك ما فات، وهو يفتح أعينهم للنّظر في عواقب الأمم وانقراضها وبقائها. ويجوز أن يكون الخطاب للرّسول عليه الصّلاة والسّلام والأمّة الإسلاميّة، وتكون الإضافة على معنى اللام، أي جعلكم خلائف الأمم التي ملكتْ الأرض فأنتم خلائفُ للأرض، فتكون بشارة للأمّة بأنَّها آخر الأمم المجعولة من الله لتعمير الأرض. والمراد: الأمم ذوات الشّرائع الإلهيّة وأياً ما كان فهو تذكير بعظيم صنع الله ومنّته لاستدعاء الشّكر والتّحذير من الكفر. والخلائف: جمع خليفة، والخليفة: اسم لما يُخلف به شيء، أي يجعل خلفاً عنه، أي عوضَه، يقال: خليفة وخِلْفة، فهو فَعيل بمعنى مفعول، وظهرت فيه التّاء لأنَّهم لما صيّروه اسماً قطعوه عن موصوفه. وإضافته إلى الأرض على معنى (في) على لوجه الأوّل، وهو كون الخَطاب للمشركين، أي خلائف فيها، أي خلف بكم أمماً مضت قبلكم كما قال تعالى حكاية عن الرّسل في مخاطبة أقوامهم: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} [الأعراف: 69] {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد} [الأعراف: 74] {عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} [الأعراف: 129]. والإضافة على معنى اللام على الوجه الثّاني وهو كون الخطاب للمسلمين. وفي هذا أيضاً تذكير بنعمة تتضمّن عبرة وموعظة: وذلك أنَّه لمّا جعلهم خلائف غيرهم فقد أنشأهم وأوجدهم على حين أعدم غيرهم، فهذه نعمة، لأنَّه لو قدّر بقاء الأمم التي قبلها لما وُجد هؤلاء. وعطْف قوله: {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} يجري على الاحتمالين في المخاطب بقوله: {جعلكم خلائف الأرض} فهو أيضاً عبرة وعِظة، لعدم الاغترار بالقوّة والرّفعة، ولجعل ذلك وسيلة لشكر تلك النّعمة والسّعي في زيادة الفضل لمن قصّر عنها والرّفق بالضّعيف وإنصاف المظلوم. ولذلك عقّبه بقوله: {ليبلونكم ما آتاكم} أي ليَخْبُركم فيما أنعم به عليكم من درجات النّعم حتّى يظهر للنّاس كيف يضع أهل النّعمة أنفسهم في مواضعها اللائقة بها وهي المعبّر عنها بالدّرجات. والدّرجات مستعارة لتفاوت النّعم. وهي استعارة مبنيّة على تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريبه. والإيتاء مستعار لتكوين الرّفعة في أربابها تشبيهاً للتكوين بإعطاء المعطي شيئاً لغيره. والبلْو: الاختبار، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع} [البقرة: 155]. والمراد به ظهور موازين العقول في الانتفاع والنّفع بمواهب الله فيها وما يسرّه لها من الملائمات والمساعدات، فالله يعلم مراتب النّاس، ولكن سمّى ذلك بَلْوى لأنَّها لا تظهر للعيان إلاّ بعد العمل، أي ليعلمه الله علم الواقعات بعد أن كان يعلمه علم المقدرات، فهذا موقع لام التّعليل... وجملة: {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} تذييل للكلام وإيذان بأنّ المقصود منه العمل والامتثال فلذلك جمع هنا بين صفة {سريع العقاب} وصفة {لغفور} ليناسب جميع ما حوته هذه السّورة. واستعيرت السّرعة لعدم التردّد ولتمام المقدرة على العقاب، لأنّ شأن المتردّد أو العاجز أن يتريّث وأن يخشى غائلة المعاقَب، فالمراد سريع العقاب في يوم العقاب، وليس المراد سريعة من الآن حتّى يؤوّل بمعنى: كلّ آت قريب، إذ لا موقع له هنا. ومن لطائف القرآن الاقتصار في وصف (سريع العقاب) على موكِّد واحد، وتعزيز وصف (الغفور الرحيم) بمؤكدات ثلاثة وهي إنّ، ولام الابتداء، والتّوكيد اللّفظي؛ لأنّ (الرّحيم) يؤكِّد معنى (الغفور): ليُطمئِن أهل العمل الصّالح إلى مغفرة الله ورحمته، وليَسْتَدعي أهلَ الإعراض والصدوف، إلى الإقلاع عمّا هم فيه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الآية التي هي آخر الآيات من سورة الأنعام إِشارة إِلى أهمية مقام الإِنسان ومكانته في عالم الوجود لتكميل الأبحاث الماضية في مجال تقوية دعائم التوحيد، ومكافحة الشرك، يعني أن يعرف الإِنسان قيمةَ نفسه، كأرقى وأفضل كائن في عالم الخلق، ولا يسجد للخشب والحجر، ولا يركع أمام الأصنام المختلفة الأُخرى، ولا يقع في أسرها، بل يكون أميراً وحاكماً عليها بدل أن يكون أسيراً ومحكوماً لها. لهذا قال تعالى في مطلع كلامه: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض). إِن الإِنسان الذي هو خليفة الله في أرضه، والذي سُخِرت له كل منابع هذا العالم وصدر الأمر بحكومته على جميع الموجودات من جانب الله تعالى، لا يجوز أن يسمح لنفسه بالسقوط إِلى درجة السجود للجمادات. ثمّ أشار سبحانه إِلى اختلاف المواهب والاستعدادات في المواهب البدنية والروحية لدى البشر، والهدف من هذا الاختلاف والتفاوت، فيقول: (ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم) من المواهب المتنوعة والمتفاوتة ويختبركم بها.
ثمّ تشير في خاتمة الآية الحاضرة إِلى حرية الإِنسان في اختيار طريق السعادة وطريق الشقاء نتيجة هذه الاختبارات والابتلاءات، إِذ يقول: (إِن ربّك سريع العقاب وإِنّه لغفور رحيم)، فإِنّ ربّك سريع العقاب مع الذين يفشلون في هذا الاختبار، وغفور رحيم للذين ينجحون فيه ويسعون لإِصلاح أخطائهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لو سميت سور القرآن بما يدل على جل ما تشتمل عليه كل سورة أو على أهمه، لسميت هذه السورة: سورة عقائد الإسلام أو سورة التوحيد، على ما جرى عليه العلماء من التعبير عن علم العقائد بالتوحيد لأنه أساسها وأعظم أركانها، فهي مفصلة لعقيدة التوحيد مع دلائلها وما تجب معرفته من صفات الله تعالى وآياته ولرد شبهات الكفار على التوحيد، وما يتبع ذلك من هدم هياكل الشرك وتفويض أركانه ولإثبات الرسالة والوحي وتفنيد شبهاتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلزامهم الحجة بآية الله الكبرى وهي القرآن المشتمل على الآيات الكثيرة من عقلية وعلمية ومبنية لوظائف الرسول ودعوته وهديه في الناس على اختلاف طبقاتهم وأحوالهم، وللبعث والجزاء والوعد والوعيد ولأحوال المؤمنين والكافرين وأعمالهم، ولأصول الدين ووصاياه الجامعة في الفضائل والآداب، وليس فيها على طولها قصة من قصص الرسل المفصلة في السور المكية الطويلة كالأعراف من الطول ويونس وهود من المئين والطواسين من المثاني، بل جميع آياتها في الألوهية والربوبية والرسالة والجزاء وأصول البر وأحوال المؤمنين والكافرين وآيات الله وحججه على العالمين، وإنما ذكر فيها من قصص الرسل عليهم السلام محاجة إبراهيم لأبيه وقومه في التوحيد وما آتاه الله من الحجة عليهم لما بيناه من حكمة ذلك، وذكر فيها موسى والتوراة للشبه بين رسالته وكتابه وبين رسالة محمد وكتابه عليهما السلام كما شرحناه في محله، ومنه وصايا القرآن العشر ووصايا التوراة العشر، وذكر فيها أيضا ما كان من حال الرسل عامة مع أقوالهم المشركين لأجل العبرة وتسلية خاتم الرسل صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعين. وإننا بعد هذا الإجمال نذكر القراء ببعض الأصول التي يغفل الكثيرون عن جملتها وفوائد الجمع بينها. أساليب القرآن في العقائد الإلهية: أما مسائل العقائد في الإلهيات فقد فصلت أبلغ تفصيل بأساليب القرآن العالية الجامعة بين الإقناع والتأثير، كبيان صفات الله في سياق بيان أفعاله وسننه في الخلق والتكوين والتقدير والتدبير، وآياته في الأنفس والآفاق وطبائع الاجتماع وملكات الأخلاق وتأثير العقائد في الأعمال وما يترتب عليها في الدارين من الجزاء، وناهيك بإيراد الحقيقة بأسلوب المناظرة والجدال، أو ورودها جوابا بعد سؤال أو تجليها في برود الوقائع وضروب الأمثال، وهذا الأسلوب أعلى الأساليب وأكملها جميعا بين إقناع العقول والتأثير في القلوب فيقترن اليقين في الإيمان، بحب التعظيم وخشوع الخوف والرجاء، وفي أثناء ذلك يذكر شبهات المشركين والكفار، فيكون مثلها فيه كقطعة من الطين الآسن تلقى في غدير صاف، يتدفق من صخر على حصباء كالدر، لا تلبث أن تتضاءل وتخفى، ولا تكدر له صفوا، حتى أنه ليستغنى بمجرد بيانها عن وصف قبحها والحجة على بطلانها، فكيف وهي تقرن غالبا بالوصف الكاشف لما غشيها من التلبيس، أو يقفى عليها بالبرهان الدامغ لما فيها من الأباطيل. ولا تغفل عن أسلوب إحالة المخاطبين على ما أودع في غرائزهم وفطرهم، وتذكيرهم بمعارضته لما ألفوا من تقاليدهم وفساد نظرهم، ولا عن أسلوب إنذار سوء المغبة في العاجلة، وسوء العاقبة والمصير في الآخرة. أضلت الفلسفة اليونانية علماء الكلام عن هذه الأساليب العليا فلم يهتدوا بها ولا اقتدوا بشيء منها، بل طفقوا يلقنون النشء الإسلامي صفات الله تعالى مسرودة سردا معدودة عدا، معرفة بحدود ناقصة أو رسوم دارسة مقرونة بأدلة نظرية وتشكيكات جدلية؛ لا تثمر إيمان الإذعان، ولا خشية الديان، ولا حب الرحمن، بل تثير رواكد الشبهات، وتتعارض في إثباتها دلائل النظريات؛ تأمل كيف بدئت هذه السورة بحمد الله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم التذكير بخلق الناس وقضاء الآجال وكيف عطف على الأول ذكر شرك الكافرين بربهم بجعل بعض خلقه عدلا له، مع أن البداهة قاضية بأن الرب الخالق لا يعادله أحد ولا شيء من خلقه، وعطف على الثاني التنبيه لإعراضهم عن الآيات الدالة على الحق، وأنه هو المانع لهم من العلم تذكيرا للمستعد للفهم بالمانع ليجتنب، والمقتضي ليتبع، وإيذانا للعاقل بأن عقائد الإسلام مؤيدة بالحجة والبرهان. ولما كان التوحيد الذي هو لباب الدين وروحه نوعين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، بين كل منهما بالآيات والبراهين، ولما كان الشرك في الربوبية قليلا في الناس والشرك في الإلهية دون الربوبية هو الكثير الفاشي وعليه سواد جاهلية العرب الأعظم، بني القول ببطلان هذا على بطلان ذاك، كما بينت حجج إثبات أحدهما على المعترف به من إثبات الآخر، راجع في فهرسي الجزأين السابع والثامن من التفسير بحث الإيمان والتوحيد والشرك والشفاعة والرب والإله والجزاء وفي آخر تفسير السورة بحث نجاة الناس وسعادتهم أو شقاوتهم بأعمالهم. وانتقل بك من هذا التذكير إلى قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم عليه وعلى نبينا وآلهما وسلم مع أبيه وقومه في إنكاره عليهم اتخاذ الأصنام آلهة أي معبودين، واتخاذ الكواكب أربابا أي مدبرين لأمور العالم وإن لم يكونوا خالقين، وهو بحث جاء بأسلوب المناظرة في قصة واقعة تعددت فيها الحجج على توحيد الألوهية والربوبية معا فكان أجدر بأن يوعى فيحفظ ويعقل فيقبل، وقد أسهبنا القول في تفسيره بما لم يأت بمثله أحد من المفسرين المعروفين فاستغرق خمسين صفحة أو أكثر (ج 7 تفسير). ومن أبلغ ما في السورة من تقرير عقيدة التوحيد وسوء حال أهل الشرك في ضلالهم عنها وإعراضهم عن آياتها بأسلوب التمثيل قوله تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات} (الآية 39) فارجع إلى تفسيرها (في ج 7 تفسير) وقوله تعالى: {قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران} (الآية 71) إلخ فراجع تفسيرها. ولا حاجة إلى الدلالة على شواهد بيان التوحيد من طريق السؤال والجواب لكثرتها مع ظهورها لكل قارئ بصيغتها. ولعل أرق أساليب الإقناع وأبلغ وسائل الإذعان بأصول الإيمان، إحالة المخاطبين إلى غرائزهم وفطرهم وتذكيرهم بتأثير التربية التقليدية في أنفسهم، ومناشئ عروض الشبهات لأذهانهم، وإلزامهم الحجة بمحاسبة عقولهم لأنفسهم على تعارض الأفكار وتناقض الأقوال، بسبب اختلاف الأوقات والأحوال ومخالفة التقاليد والمسلمات للغرائز والملكات، ويتلو هذا الأسلوب إحالتهم على مثل ذلك في غيرهم من الناس بالنظر في أحوال المعاصرين، والاعتبار بسير الغابرين، فآياته تعالى في الأنفس أقوى من آياته في غيرها {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات 20- 21)؟ تأمل وصف المعاندين من مشركي مكة في الآية الرابعة وما بعدها إلى آخر التاسعة بالإعراض عن جميع الآيات التي تأتيهم من ربهم وتكذيبهم بالحق لما جاءهم والجزم بأنهم يكابرون الحس ويشتبهون في اللمس ولا يخرجون من محيط اللبس وقابله بقوله: {وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمن بها} إلى قوله في آخر الآيتين بعدها {ولكن أكثرهم يجهلون} ثم ما يناسبه من إقامة الحجة عليهم بقطع إنزال الكتاب لاعتذارهم يوم القيامة عن شركهم وضلالهم بأن الكتاب إنما أنزل على طائفتين من قبلهم وكانوا غافلين عن دراسته، جاهلين لهدايته، وأنه لو أنزل عليهم لكانوا أهدى منهم لذكاء عقولهم وعلو همتهم، فراجع تفسير الآيات 145- 157. ثم تأمل قوله تعالى في أولئك المعرضين بعد تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن جحودهم {وإن كان كبر عليك إعراضهم} إلى آخر الآية (39) ترى كيف سجل عليهم الجهل والحرمان من العلم، وشبههم بالصم البكم، ثم تأمل كيف التفت عن خطاب الرسول إلى خطابهم، سائلا إياهم أن يراجعوا عقولهم وضمائرهم ويخبروا كيف حالها إذا أتاها عذاب الله أو أتتها الساعة؟ أغير الله يدعون في هذه الحالة؟ ثم أجاب عنهم بما يعلمونه حق العلم من أنفسهم وهو أنهم في مثل هذه الشدة القصوى يدعون الله وحده دون غيره لا يخطر في بالهم سواه وهذا هو الإيمان الوجداني الذي فطر الله عليه الناس فأضلتهم عنه الوساوس الوهمية، والتقاليد الموروثة (راجع تفسير هذه الآيات في ج 7 تفسير). ولا تغفل عند مراجعة ما ذكر من الآيات في هذا الأسلوب عما يمازجها أو يقارنها من الآيات في الأسلوب الآخر المناسب له وهو التذكير بأحوال الأمم في كفرهم وعنادهم، وقيام حجج الرسل عليهم. فإنما غرضنا هنا التنبيه والتذكير، وإذا أحيانا الله تعالى ووفقنا لإنجاز ما وعدنا به من وضع كتاب في فقه القرآن وهدايته مرتب على أبواب العقائد والآداب والأعمال الدينية والمدنية فهناك نستوفي بيان هذه الأساليب في إثبات العقائد بالشواهد من القرآن كله. ولا حاجة إلى ذكر شيء من الشواهد على أسلوب إنذار العاقبة وسوء المصير في الدنيا والآخرة فإنها جلية واضحة. الأساليب في عقيدة الوحي والرسل وأما أساليب الركن الثاني من أركان الاعتقاد وهو الوحي والرسل فنستغني عن التذكير بأساليب الإثبات وطرق الإقناع فيه بما ذكرنا في عقيدة التوحيد وآياته وصفات الله وأفعاله وما يتعلق بها من بطلان الشرك وإقامة الحجة على الكفار أجمعين. على أن بعض ما ذكرنا فيه وما لم نذكر من الشواهد على مكابرة المعاندين للآيات والحجج، تشترك فيه حجج الوحي والرسالة مع حجج التوحيد وسنشير إلى بعضه هنا. وإنما المهم تذكير القارئ ابتغاء الاهتداء في نفسه والهداية لغيره بالآيات التي تعرفه موضوع الوحي والرسالة وصفات الرسل ووظائفهم وما أيدوا به من الآيات لإثبات دعواتهم، وشبهات الكفار على ذلك وبيان بطلانها. قد بينا في مواضع من التفسير أن أكثر البشر يؤمنون بأن للعالم خالقا مقدرا وربا مدبرا وأن هذا الرب الخالق عليم حكيم قادر على كل شيء وأنه يجب أن يعبد ويشكر، وبينا أن كفر أكثر الكفار إنما هو بعبادة غيره معه، ولو بقصد التوسل للتقرب إليه والشفاعة عنده. ولكن كثيرا من الكفار المشركين وغير المشركين يكفرون بالرسل سواء كانوا مؤمنين بوجود الله وهم الأكثرون، أم لا وهم الأقلون وسبب ذلك استبعاد وقوع الوحي وشبهات أخرى عليه، وقد بنيت هذه السورة معنى الرسالة وموضوع الوحي والدليل عليه ووظائف الرسل عليهم السلام. وكشفت ما أوردوا من الشبهات على ذلك. فنحن نلخص أولا ما جاء في معنى الرسالة وموضوعها ووظائف الرسل ثم نقفي عليه بما ورد فيما أثبتها الله تعالى به من الآيات ودفع الشبهات عنها فنقول: موضوع الرسالة وظائف الرسول إن الرسول بشر آتاه الله علما ضروريا غير مكتسب لهداية الخلق به إلى ما تتزكى به أنفسهم وتتهذب به أخلاقهم وتصلح به أحوالهم الشخصية والاجتماعية بحيث يكون الوازع لهم به من أنفسهم، وهو الإيمان اليقيني والتسليم الإذعاني بالتعليم والهدى الذي جاء به الرسول لا القهر والسيطرة وبذلك يكونون سعداء في الدنيا بقدر ما يكون في الدنيا من السعادة، ويحيون الحياة الأبدية العليا في الآخرة. وصف الله تعالى ما أرسل به خاتم رسله صلى الله عليه وسلم بأنه الحق وبأنه بصائر للناس وبأنه هدى ورحمة. وبأنه صدق وعدل وبأنه صراط مستقيم ودين قيم. وأثبت أن الرسول نفسه على بينة من ربه فيه. وأنه أول المسلمين له والمهتدين به. قال تعالى {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم} (الأنعام 5) وقال: {وكذب به قومك وهو الحق} (الأنعام 66) وقال: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} (الأنعام 114) وقال: {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين} (الأنعام 57) والحق هو الأمر الثابت المتحقق بنفسه فلا يمكن نقضه ولا إبطاله، فبهذا الوصف ينبه العقلاء إلى أن يبحثوا عن حقيته بفكر مستقل وبالآيات الدالة عليه ليصلوا بأنفسهم إلى معرفة أنه الحق. وهي غاية لا بد أن يصل إليها الباحث المنصف البريء من الأهواء في نظره ومن قيود التقليد في طلبه للحق، كما قال في آخر سورة فصلت: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (فصلت 53) كذلك كان وهكذا يكون. وقال {وقد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ} (الأنعام 104) والبصائر جمع بصيرة وهي لإدراك العقل كالبصر في إدراك الحس فتطلق على المعرفة اليقينية. وعلى الحجة العقلية والعلمية. وفي معناها وصف الوحي من آخر سورة الأعراف بقوله: {هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (الأعراف 203) ومثله في سورة الجاثية وأمر رسوله في أواخر سورة يوسف بأن يقول: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} (يوسف 108) ويؤيد هذا كل ما ورد في القرآن من الاعتماد على الآيات والبراهين ومخاطبة العقل. وكان أصحاب الأديان المحرفة والأديان المبتدعة قد بعدوا عن العقل والعلم. واعتمدوا في الدعوة وتلقين الدين على التسليم والتقليد الأعمى. ووصف القرآن في آية 155 بأنه مبارك أي جامع لأسباب الهداية الدائمة النامية ثم قال في آية {فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة} (الأنعام 157) وقال: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما} (الأنعام 161) والصراط المستقيم أقرب الطرق الموصلة إلى السعادة التي شرع لها الدين من غير عائق ولا تأخير والقيم ما يقوم ويثبت به الأمر المطلوب حتى لا يفوت صاحبه. وقال: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} (الأنعام 115) أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام. فهذه أمهات الآيات في بيان صفة ما جاء به الرسول وأنه أفضل وأكمل ما يحتاج إليه الخلق لتكميل أنفسهم وتزكيتها بالعلم والهدى وليس هو من قبيل الدعوى بغير دليل بل هو من قبيل التنبيه وعطف النظر إلى الشيء البديع الصنع البالغ منتهى الحسن والجمال الذي يدرك جماله وكماله بمجرد النظر إليه. ولعمري إن من كان صحيح العقل مستقل الفكر لا يحتاج إلى دليل يثبت به كون هداية القرآن حقا وصدقا وعدلا وصراطا مستقيما. وقد أثبتت الوقائع أن الذين آمنوا به بمجرد الدعوة كانوا أكمل الناس عقلا ونظرا وفهما وفضلا كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، على أنه أرشد إلى الاعتماد فيه على الآيات البينات والحجج الواضحات ومتى ثبتت بهذه الآيات حقية ما جاء به الرسول وحسنه ونفعه فمن الحماقة أن يترك الاهتداء به لأجل مشاركته لنا البشرية أو استبعاد ما فضله الله به من الخصوصية. الرسول ووظائفه أمر الرسول أن يخاطب الناس بقوله: {قل إني على بينة من ربي} (الأنعام 57) والبينة ما يتبين به الحق. والمراد بها هنا العلم الذي أوحاه إليه مبينا له بالحق مؤيدا بالدلائل والحجج العلمية والفطرية وهذا في معنى قوله {أدعو إلى الله بصيرة أنا ومن اتبعني} (يوسف 108) فليس في دينه تحكم ولا إكراه إذ أمره إن يقول {لست عليكم بوكيل} (الأنعام 66) أي ليس أمر هدايتكم والتصرف في شؤونكم موكولا إلي من الله بحيث أكون مسيطرا عليكم وملزما إياكم كشأن الوكيل على أعمال الناس. وبين في الآيات 103- 106 أن ما جاء به صلى الله عليه وسلم بصائر للناس فمن أبصر به الحق واتبعه فلنفسه أبصر فهو الذي سيسعد به، ومن عمي فعليها الوزر إذ هو الذي يشقى به، ثم قال: {وما أنا عليكم بحفيظ} أي بموكل بإحصائها وحفظها لأجل الجزاء عليها، ثم أخبر تعالى جده بأن هذا من تصريفه الآيات وتنويعه الدلائل و تبيينها لقوم يعلمون. ثم أمره باتباع ما يوحى إليه والإعراض عن المشركين إلى أن قال: {وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل} (راجع تفسير الآيات في ج 7 تفسير). وكل هذه الآيات وأمثالها تفصيل للآية التي حصرت فيها وظيفة جميع المرسلين في التبليغ والتعليم المنقسم إلى التبشير والإنذار وهو قوله تعالى: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين} (الأنعام 48) وقد وردت هذه القاعدة في الحصر بصيغة الإثبات بعد النفي، الذي هو الأصل فيما يخاطب به الجاهل أو خالي الذهن لأنها من أول ما نزل في بيان هذه العقيدة الهادمة لعقائد الكفار في الرسل وخواص أتباعهم التي منها أنهم وكلاء الله على الأرض، بيدهم الهدى والحرمان منه والإسعاد والإشقاء والرحمة والغفران والعقاب وغير ذلك. ووردت آيات أخرى مثلها في عدة سور منها ما هو عام في جميع الرسل ومنها ما هو خاص بخاتمهم، ووردت آيات أخرى في معناها ذكر الحصر فيها بصيغة "إنما "وهي متأخرة عن الأولى كلها أو بعضها، وهي الصيغة التي يخاطب بها من كان على علم بالشيء لنكتة من النكت كما تقدم بيانه في تفسير {قل لا أجد فيما أوحي إلي} (الأنعام 145) الآية. وكما غلا الضالون في الرسل ومن دونهم من الصالحين بجعلهم وكلاء الله سبحانه وتعالى في الهداية والجزاء كالمغفرة والرحمة والعقاب، غلوا فيهم بزعمهم أنهم يعلمون الغيب وأنهم يتصرفون في أمور الأرض، فيوسعون على الناس الرزق، ويقضون الحاجات بقوة غيبية إلهية فيهم مخالفة لسنن الله تعالى في الناس أو بحمل الخالق سبحانه وتعالى على ذلك بحيث لولاهم لم يفعله، وأنهم في تفوقهم في ذلك وأمثاله على سائر الناس كالملائكة أو أعظم تأثيرا من الملائكة، وقد بين الله تعالى على لسان خاتم رسله فساد هذا الغلو وبطلان هذه العقائد وصرح بأن الرسل كسائر البشر في سنن الله تعالى فيهم، إلا أنه ميزهم بالوحي وعصمهم من الخطأ في تبليغ ما أمرهم بتبليغه قولا وعملا ومما يحول دون التأسي بهم، وحسبك من هذه السورة في ذلك قوله تعالى في إثر قوله: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين} (الأنعام 48) {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى} إلى {قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} (الأنعام 50) فراجع تفسريها في (ج 7 تفسير). فقد بينا فيه بطلان ما سرى إلى المسلمين من أهل الوثنية والكتب المحرفة من الغلو في الأنبياء والصالحين كزعمهم أنهم يعلمون الغيب، يتصرفون في خزائن ملك الله بالعطاء والمنع، والضر والنفع، وإلحاقهم إياهم بالملائكة من عالم الغيب، حتى صاروا يطلبون منهم ما لا يطلب إلا من الله تعالى، وذلك عين العبادة التي يسمى الذين توجه إليهم آلهة. شبهات الكفار على الوحي والرسالة هذا الغلو من بعض الناس في الأنبياء والرسل يقابله غلو آخرين منهم في إنكار رسالتهم واختصاص الله تعالى إياهم بوحيه إليهم فأولئك الغلاة أفرطوا في تصوير خصوصيتهم، وزادوا فيها بأوهامهم وأهوائهم، وهؤلاء فرطوا فيها، فلم يروا لهم مزية يمتازون على غيرهم بها، أولئك زادوا في بيان حقيقتهم فصلا فصلهم من نوع الإنسان، وهؤلاء جعلوا بشريتهم مانعة من امتيازهم على سائر أفراد الناس، إذ رأوهم بشرا وظنوا أن الوحي يخرجهم منها فيجعلهم كالملائكة كما يزعم الغلاة، قال تعالى في هذه السورة: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} (الأنعام 91) أي أنهم ما عرفوا الله حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه بإنكارهم قدرته على إنزال شيء من العلم على قلوب بعض البشر لاقتضاء عمله وحكمته أن يكونوا معلمين لسائر البشر ما فيه هدايتهم، كما أن الغلاة فيهم ما قدروا الله حق قدره إذ زعموا أنه جعلهم شركاء له في علم الغيب والتصرف في ملكه بالعطاء والمنع. وقد بينا في تفسير هذه الآية حقيقة الوحي ووجه حاجة البشر إليه واقتضاء حكمة الله وفضله الإنعام عليهم به. فراجعه في (ج 7 تفسير) وهذه الشبهة شبهة كونهم بشرا قد ذكرت في سور كثيرة عند الكلام على رسالة الرسل كالأعراف وإبراهيم والنحل والكهف والأنبياء والشعراء ويس والتغابن، وذكرت في بعض السور بلفظ رجل بدل بشر كقوله تعالى في أول سورة يونس {الر أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} (يونس 1- 2) الخ، وهذا في نبينا صلى الله عليه وسلم ومثله عن أول من كذبوا الرسل وهم قوم نوح، قال تعالى في قصته من سورة الأعراف حكاية لخطابه إياهم {أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم ليذركم} (الأعراف 26) ويليه حكاية مثل ذلك عن هود مع قومه (آية 67). ولما استبعد هؤلاء الوحي لرجل من البشر مثلهم كما حكاه عنهم في قوله: {ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون} (المؤمنون 33)، زعموا أن الرسول من الله يجب أن يكون ملكا أو أن يؤيد بملك يكون معه كما حكاه عنهم بقوله: {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا} (النور 7) وقد ردت هذه الشبهة في الآيتين الثامنة التاسعة من هذه السورة ببيان سنة الله تعالى في إنزال الملائكة، وببيان عدم استعداد جمهور البشر لرؤيته والتلقي عنهم في الدنيا، وإنما يعد الله بعض الأفراد من كملتهم، لذلك فلا مندوحة إذا أنزل الملك عن جعله رجلا أي متمثلا في صورة رجل وحينئذ يلتبس عليهم الأمر وتبقى شبهتهم في موضعها. هذه الشبهة على الرسالة وهي كون الرسول بشرا مثل المرسل إليهم لم تدعم بحجة ولم تؤيد ببرهان بل هي باطلة بالبداهة لأنها تقييد لمشيئة المرسل وقدرته وهو الفعال لما يريد {يختص برحمته من يشاء} (البقرة 105) وقد كان أولئك المشتبهون مؤمنين بقدرته التامة ومشيئته العامة. بل كون الرسول إلى البشر بشرا مثلهم يفهمون أقواله ويتأسون بأفعاله هو المعقول الذي تقتضيه الفطرة وطبيعة الاجتماع، ولكن الأوهام الجهلية تقلب الحقائق وتعكس القضايا... فقوله تعالى: {ولو جعلنا ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون} (الأنعام 9) كاشف لهذه الغمة من الوهم، وهاد إلى ما يوافق سنن الفطرة من العلم، وقاطع على الدجالين طريق الجبت والخرافات التي يخدعون بها أولي الأوهام والخيالات فيوهمونهم أن الأولياء والقديسين فوق مرتبة البشر ويقدرون على ما لا يقدر عليه غيرهم من البشر، وأنهم عند الله تعالى كالوزراء ورؤساء الحجاب والأعوان عند الملوك المستبدين، يقربون منه ويبعدون عنه من شاءوا ويحملونه على العطاء والمنع والضر والنفع كما يشاءون. وجملة القول إن الله تعالى قد أبطل هذه الشبهة في الآيات 7و 8و 9 من هذه السورة وردها أكمل رد فراجع تفصيل القول في تفسيرهن (ج 8 تفسير)، ثم بين في الآية (110) أنه لو نزل إليهم الملائكة وآتاهم كل شيء من الآيات مقابلا لهم أو حشره وجمعه لهم قبيلا بعد قبيل ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله، لأنهم معاندون لا مريدو حق وطلاب دليل يعرفونه به، فراجع تفسيرها في أول هذا الجزء. تعجيزهم الرسول بطلب الآيات كان الجاهلون المعاندون من كفار مكة يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بالآيات على رسالته، وكان بأمر الله تعالى يحتج ويستدل عليها بشهادة الله له وهي أنواع وبالقرآن الجامع لأقوى طرق الاستدلال العلمية والعقلية، على كونه آية في نفسه من وجوه كثيرة، وآية باعتبار كون من أنزل على قلبه وظهر على لسانه كان أميا لم يتعلم شيئا ما من أنواع العلوم الإلهية والشرعة والاجتماعية والتاريخية التي اشتمل عليها. وقد بينا وجوه دلالة القرآن على رسالته صلى الله عليه وسلم في مواضع من تفسير هذه السورة فراجع تفسير الآية 19 والآية 25 والآية 37، وفيه بيان كون القرآن أدل على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات الكونية التي أوتيها موسى وعيسى وغيرهما عليهما السلام على رسالتهم والآية 50 وكل ذلك في الجزء 7 من التفسير والآية (114 من هذا الجزء). نعم إن آية القرآن أقوى الحجج وأظهر الدلالات وهي مشتملة ومرشدة إلى كثير من الآيات والبينات، ولكن الذين كانوا يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بالآيات على صدقه لم يكونوا ينظرون في الآيات ولا يحفلون بأمر الاستدلال بل كانوا يعرضون عن كل آية لأنهم فريقان: فريق الرؤساء والكبراء الذين شغلهم الكبر والحسد للرسول والعداوة له عن النظر فيما جاء به من هدى وما أقام عليه من دليل، وفريق المقلدين الذين ألفوا ما ورثوا عن آبائهم وأجدادهم فأعرضوا عن كل ما يخالفه ولا سيما إذا كان مزيفا له ومضللا لأهله، ولهذا قال تعالى بعد افتتاح هذه السورة الكريمة بحمده ووصفه بما يثبت استحقاقه للحمد ومقارنة ذلك بما اتخذ الذين كفروا له من ند وعدل {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين} (الأنعام 4) وأنى يفقه الشيء من يعرض عنه ولا ينظر فيه؟ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن لإعراضهم ويود لم يؤتيه الله تعالى آية مما اقترحوا عليه من الآيات السماوية، كإنزال الملك أو إنزال كتاب من السماء، أو الآيات الأرضية كتفجير ينبوع في مكة أو إعطائه جنة فيها يفجر الأنهار خلالها تفجيرا، فهون الله تعالى عليه ذلك وعلمه ما لم يكن يعلم من طباع هؤلاء المعاندين وعدم استعدادهم للإيمان وكونهم يكذبون بكل آية يؤتونها كما كذب أمثالهم الرسل من قبله، وبين له سنته في عذاب المكذبين بعد إيتائهم الآيات المقترحة بالاستئصال. وفي خذلانهم ونصر الرسل عليهم. وأمره أن يصبر على قومه كما صبروا على أقوامهم ويتحمل مثل ما تحملوا من أذاهم. و يخبرهم أن الآيات عند الله تعالى لا عنده. راجع تفسير الآيات 7- 9 (ج 7) و25و 26و 33و 37 وآية 50و 57و 58و 65و 67و 65و 67و 108و 109 إلى آخر الجزء السابع و 110 في أول هذا الجزء 123و 125 (منه). وأما قولهم في القرآن أساطير الأولين كما في الآية 25 (ج 7) وقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم "درست" كما في الآية 104 (منه) فهو مما قاله بعضهم في قصص القرآن تعليلا لأنفسهم بما أملاه الخاطر، وتبادر إلى فكر المكابر، لا عن معرفة وإطلاع كما بيناه في تفسير الآيتين، فمثلهم فيه كمثل من يستكبر من أهل البداية من كاتب أو شاعر ما يكتب أو ينظم فينسبه إلى أحد المشهورين ولا سيما إذا كان لذلك الكاتب أو الشاعر صلة بأحد منهم. كما كان يظن بعد الناس أن الأستاذ الإمام هو الذي يحرر المنار كله أو التفسير والفتاوى والمقالات الإصلاحية منه. ولم يجد الجاحدون شبهة على كون النبي صلى الله عليه وسلم تعلم شيئا من أحد وقد عاش طول عمره معهم وليس عنده ولا عندهم أحد يعلم أخبار الرسل مع أقوامهم، وقد احتج عليهم بذلك بأمر الله تعالى حتى ألجأت المكابرة بعضهم إلى عزو هذا التعليم إلى قين (حداد) رومي جاء مكة يشتغل فيها بصنع السيوف فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقف عليه ليشاهد صناعته. وقد رد الله تعالى شبهتهم هذه بقوله: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} (النحل 104) فإن ذلك الرومي لم يكن يعرف العربية وهذا القرآن قد بلغ ببيانه فيها حد الإعجاز. وتتمة القول في هذا تراه في تفسير الآية الثانية من الآيتين اللتين افتتحنا بهما هذه المسألة. فعلم مما تقدم أن الرسل رجال من البشر في جميع الشؤون البشرية الفطرية ليسوا أربابا ولا شركاء لرب العباد في علم الغيب. ولا في تصرفه في تدبير أمر الخلق. فهم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرا ولا نفعا، ولا إيمانا ولا رشدا، بل هم عبيد لله سبحانه كسائر عباده، ولكنه أكرمهم بسلامة الفطرة واختصهم بعلم أوحاه إليهم وأمرهم أن يبلغوا لأقوامهم ليهتدي به المستعد منهم للهداية وتحق الكلمة على الجاحدين والمعاندين {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} (الأنفال 42). وقد بين للناس أن ما يؤيدهم به من الآيات ليس في استطاعتهم ولا من مقدروهم لأن سنة الله تعالى في قدرتهم كسنته في سائر البشر، كما أن سنته في علمهم كذلك. فلا الوحي الذي اختصهم به من كسبهم واستنتاج عقولهم، ولا الآيات المثبتة له من عملهم، تأمل قوله تعالى لخاتم الرسل {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بأية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين} (الأنعام 35) وراجع تفسيرها في (ج7). وتأمل أمره إياه بأن يبين للناس أنه ليس عنده خزائن الله ولا علم الغيب وأنه ليس ملكا، وحصر خصوصيته باتباع وحي ربه في الآية (50) التي أشرنا إليها آنفا، وأمره في الآية التي بعدها بالإنذار، ثم تدبر بعد هذين الأمرين ما نهاه عنه وما أمره في شأن معاملة فقراء المؤمنين السابقين وسائر المؤمنين في الآيات (51- 55) وقارن فيها بين قوله في الآية 35 {فلا تكونن من الجاهلين} وقوله في آية 52 {ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين}، تعلم الفرق بين مقام الربوبية ومقام عبودية النبوة. ويقابل هذا النهي عن طرد فقراء المؤمنين إجابة لاقتراح الأغنياء المتكبرين قوله تعالى في معاملة هؤلاء المشركين {وذر الذين اتخذوا دينهم هزوا ولعبا} (الأنعام 70) إلخ، وسيأتي شيء من بيان سنن الله تعالى في الرسل وأقوامهم عند الإشارة إلى ما في السورة من بيان السنن الإلهية العامة في الخلق. البعث والجزاء ذكرت آيات البعث والجزاء في هذه السورة تارة خبرا مجردا مؤكدا كقوله: {لنجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} (النساء 87) وقوله: {إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين} (الأنعام 134) أو غير مؤكد للاستغناء عن التوكيد في السياق كقوله: {والموتى يبعثهم الله} (الأنعام 36)، وكفى بالإسناد إلى القادر على كل شيء استغناء عن التوكيد كما قال في آخر السورة: {ثم إلى ربكم مرجعكم} (الأنعام 164) والأسلوب الغالب في بيان هذه العقيدة إيرادها في سياق ذكر الجزاء على الأعمال والبشارة والإنذار والوعد والوعيد وأبلغ الآيات فيه التذكير بما يكون في ذلك اليوم كقوله: {يوم نحشرهم جميعا} إلى آخر آية (24) وقوله: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} إلى آخر آية (32) وقد جاء هذا بعد حكاية إنكار البعث عنهم وحصرهم الحياة في الدنيا فبين لهم سوء مصيرهم في الآخرة التي ينكرونها لعدم الاستعداد لها بتزكية أنفسهم، وختم السياق بحصر متاع الحياة الدنيا باللعب واللهو الذي هو شأن الأطفال وتفضيل الآخرة عليها. ويناسب هذا المعنى قوله في الآية: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع} (الأنعام 70) الآية، وكل هذه الآيات في الجزء السابع ويقرب منه ما جاء في أسلوب حشر الإنس والجن وبيان ما يقوله يومئذ كل منهما في الآخر وسؤال الله إياهم عن مجيء الرسل منهم إليهم يقصون عليهم آيات ربهم وينذرونهم لقاء ذلك اليوم وشهادتهم على أنفسهم. راجع آية 127 آية 129 وقد جمع في الآيات 132- 134 بين الوعيد بسوء عاقبتهم في الدنيا والآخرة جميعا. إذا استقصى القارئ آيات البعث في هذه السورة يراها تخبر بشيء ثابت مقرر، هو لصدق المخبر به كأنه مسلم، لإنذار ما يقع في يومه من العذاب للمجرمين عسى أن يتقي، والبشارة بما أعد فيه للمتقين من الفوز والنعيم عسى أن يسعى له بالإيمان والهدى. ويظن الذين اعتادوا تلقي العقائد من طريق النظريات الجدلية، أن هذه دعاو غير برهانية. وإنما هي أساليب خطابية. والصواب أنها أخبار أخبر بها من لا خلاف بين المؤمنين والكفار في صدقه وأمانته، وقد قام البرهان على رسالته. ولم يأت منكروها بدليل على إنكارها ولا شبهة، فيحتاج إلى إبطالها بالحجة. وإنما كان سبب الإنكار استغراب ما لم يعرف ولم يؤلف في هذه الدار، وهذا جهل وغفلة من قوم يؤمنون بأن الله تعالى هو الذي بدأ هذا الخلق وبأنه هو الذي خلق السماوات والأرض. وأنه قادر على كل شيء. لهذا اكتفى في هذه السورة بجعل هذه القضية في ثبوتها كالقضايا المسلمة مع التذكير في بعض الآيات بمشيئة الله النافذة وقدرته الكاملة وحكمته في التكليف والجزاء وكونه رحمة منه تعالى وهو غني عن عبادة العباد، كالآيات الثلاثة 132- 134. ولم يذكر هذه الصفات هنا بأسلوب الاستدلال لأنه لم يحك عن المنكرين شيئا من الاحتجاج وما ثم احتجاج ولا ما حكاه عنهم في غير هذه السورة من التعجب والاستغراب، فكان الغرض من سرد الآيات بالأساليب التي أشرنا إليها التأثير في النفس، فإن من غرائز البشر ومقتضى فطرتهم أن تتأثر أنفسهم وعقولهم بما يتكرر على أسماعهم من كلام الصادقين الموقنين، ولا سيما إذ كانوا هداة مهديين. وقد كان فيما نزل قبل هذه السورة حكاية تعجبهم من خبر البعث وتفنيد ذلك بأسلوب إقامة الحجة، ودحض الشبهة. ومنها سورة (يس) وقد تكرر فيها ذكر الحشر والبعث والجزاء، وختمت بأسلوب المناظرة والاستدلال. فراجع تفسيرها في مفاتح الغيب للرازي، وذكر مثل ذلك في فواتح السورة التي تليها (الصافات) وفي فاتحة سورة (ق) ومن الرد عليهم في أثنائها (أفعيينا بالخلق الأول؟ بل هم في لبس من خلق جديد} (ق 15)، وقد بينا في تفسير آيات البعث والجزاء في هذه السورة وغيرها ما ينبغي بيانه وذكرنا فيه بعض ما ورد في سور أخرى. فللقارئ أن يراجع ذلك إذا أراد أن يجمع بين الآيات في ذلك. عالم الغيب عقيدة البعث والجزاء مما يجب اعتقاده من أمر عالم الغيب ومنه الملائكة والجن والشياطين والجنة والنار. وقد كانت العرب تؤمن كغيرها بوجود الجن وكانوا يزعمون أنهم يظهرون لهم أحيانا بصور الغيلان وأنهم يسمعون أصواتهم وعزفهم. وأنهم يلقون الشعر في هواجس الشعراء. ويستغني القارئ عن ذكر ما ورد في هذه السورة من الآيات في ذلك بمراجعة كلمات الملائكة والشياطين والغيلان والروح والأرواح والجنة والنار في فهرس هذا الجزء وما قبله وكذا غيرهما من أجزاء التفسير، وبمراجعة ما كتبناه في تفسير اسم الله اللطيف، ومنها تعلم أن العلوم الكونية قد وصلت إلى درجة لم يعد يستغرب معها شيء من أخبار عالم الغيب ولا سيما علم الكمياء وعلم الكهرباء، لكن من عجائب تفاوت أفهام البشر أنه لا يزال الكثيرون ينكرون من أخبار الرسل ما لم يألفوا، ولا يرون المعروف منها إلا ما عرفوا، وإذا قيل لهم فيه أو في مثله أنه قد اكتشفه الهر فلان والمستر علان 1965مثلا قبلوه مذعنين. وقالوا إنه الحق المبين وهذا شر التقليد. الأصول العلمية والعملية من دينية واجتماعية أجمع ما ورد في السورة من الأصول الكلية الجامعة للعقائد والآداب والفضائل والنهي عن الرذائل الوصايا العشر في الآيات الثلاث 151- 153 وتفصيل القول في تفسيرها في الأمر بترك ظاهر الإثم وباطنه في الآية 119 وهائم انظروا أهم الأصول والقواعد المتفرقة في الآيات قبلها وبعدها. الأصل الأول: إن دين الله دين توحيد واتفاق فتفريقه بالمذاهب المختلفة والأهواء المفرقة وجعل أهله شيعا متعادية، مفارقة له وخروج عن هدي الرسول الذي جاء به، يوجب براءته صلى الله عليه وسلم من فاعلي ذلك. راجع تفسير {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} (الأنعام 159) وهذا الأصل هو قاعدة سياسية الدين وحياة أهله الاجتماعية والتشديد فيه يضاهي التشديد في أصل التوحيد الذي هو القاعدة الاعتقادية. الأصل الثاني: إن سعادة الناس وشقاوتهم منوطتان بأعمالهم النفسية والبدينة وأن جزاءهم على أعمالهم يكون بحسب تأثيرها في أنفسهم وهذا المعنى يستفاد من آيات كثيرة بالنص أو الفحوى. ومن أصرح آيات هذه السورة فيه قوله تعالى في آية {سنجزيهم وصفهم} (الأنعام 139) فراجع تفسيره واستعن على مراجعة سائر الآيات بالأرقام التي بجانب كلمة "الجزاء" من فهرس الجزءين 7و 8 ومن أهمها ما في ج 7 وتفسير {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} في أواخر السورة (من هذا الجزء). الأصل الثالث: الجزاء على الأعمال في الآخرة يكون على السيئة بمثلها وعلى الحسنة بعشر أمثالها فضلا من الله ونعمة جل ثناؤه، وعظمت نعماؤه ويا خسارة من غلبت سيئاته حسناته المضاعفة. وأولئك هم الخاسرون (راجع الآية 160). تنبيه: مسألة الجزاء على الأعمال بجعل الحسنات مضاعفة دون السيئات التي جزاؤها بمثلها، إن لم ينل صاحبها شيء من عفو الله ومغفرته ومسألة سعة الرحمة الإلهية لكل شيء وسبقها الغضب، كل ذلك قد عد مشكلا مع تفسير الجمهور لخلود الكفار في النار خلودا لا نهاية له. وقد بسطنا ما وقع من الخلاف في هذه المسألة في تفسير قوله تعالى: {قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله. إن ربك حكيم عليم} (الأنعام 128) فيراجع وفيه كلام نفيس في رحمة الله تعالى وحكمته. الأصل الرابع: جزاء سيئات كل عليه وحده وحسناته له وحده فلا يحمل أحد وزر غيره ولا ينجو بحسنات غيره (راجع الآية 165 وتفسير هذا الأصل فيها) والاستدراك عليه. الأصل الخامس: الجزاء يكون على الأعمال البدنية والنفسية جميعا ولذلك أمر تعالى بترك ظاهر الإثم وباطنه. بل المراد من العمل الظاهر إصلاح الباطن. الأصل السادس: الناس عاملون بالإرادة والاختيار ولكنهم خاضعون في أعمالهم للسنن والأقدار فلا إجبار ولا اضطرار ولا تعارض بين عملهم باختيارهم وبين مشيئة الخالق سبحانه، ولا يعدون به مشاركين له تعالى في إرادته وقدرته، فإن صفاته تعالى ذاتية واجبة الوجود كاملة وإرادة العباد وقدرتهم من عطاء الله وخلقه حسب مشيئته، فهو الذي شاء أن يخلق نوعا من الخلق ويجعله ذا قدرة محدودة ومشيئة تتوقف عليها أعماله الاختيارية. ومعنى خلقه تعالى الأشياء بقدر وتقديره لكل شيء أنه خلقها بنظام جعل فيها المسببات على قدر الأسباب عن علم وحكمة ولم يخلق شيئا جزافا ولا أنفا كما يزعم منكرو القدر. والأنف بضمتين الأمر الذي يكون بادئ الرأي عن غير تقدير ولا نظام يجري عليه فليس في القدر شيء من معنى الإكراه والإجبار على العمل البتة. راجع في فهرسي الجزئين 7و8 وكذا غيرهما كلمات مشيئة والجبر والقدر سنة الله أو سنن الله تعالى في الكائنات مثال ذلك من الجزء السابع من هذا الجزء وتفسير: {فمن يرد الله أن يهديه} (الأنعام 125). الآية وآية {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا) (الأنعام 129) منه أيضا منه وتفسير {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا} (الأنعام 148) منه أيضا. ويدخل في هذا الباب سنة الله تعالى وقدره في فقد الاستعداد للإيمان الذي يعبر عنه في القرآن بمشيئة الإضلال وبالأكنة والختم والرين على القلوب، ويوصف أصحابه بالصم البكم العمي، ليس معنى هذه السنة أن الله بقدرته طبع هؤلاء على الكفر ابتداء وخلقا أنفا، حتى صار تكليفهم الإيمان عبثا، ومن تكليف ما لا يطاق. بل هي داخلة في نظام المقدار. وارتباط الأسباب بالمسببات، إذ هي عبارة عن تأثير أعمال الإنسان في نفسه وتأثير التربية والمعاشرة أيضا، فهي إذا أثر كسبه كما يعلم من الشواهد التي أشرنا إليها آنفا، وكثيرا ما نذكر به في التفسير لإيضاح هذه المسائل التي ضل فيها كثير من المتكلمين والصوفية فأوقعوا الناس في الحيرة بل أفسدوا أمر هذه الأمة في كسبها وملكها وأخلاقها. راجع تفسير آية 7- 9 وآية 25و 35و 46 كلها من الجزء السابع وتفسير 110- 112 من آخر السابع وأول الثامن و121 و 122 و 123 و125و 144 من هذا الجزء. وكذلك سنن الله في افتتان بعض الناس وكذا الجن ببعض في الآية 53 وفي لبسهم شيعا وإذاقة بعضهم بأس بعض في الآية 35، وتولية بعض الظالمين بعضا في الآية 127، وفي تزين أعمالهم لهم في الآية 107 وآية 121 وآية 137 (من هذا الجزء)، وفي مكر أكابر المجرمين في المدائن في الآية 122 (منه). كل هذه السنن العامة في الاجتماع البشري في معنى ما بيناه في الأصل الذي قبل هذا علمها الله رسوله والمؤمنين ليكونوا على بصيرة من أمر البشر وتأثير دعوة الإسلام في المستعدين دون غيرهم حتى لا يحزنوا ولا يطمعوا في غير مطمع ولا شيء منها يقتضي سلب الاختيار ولا وقوعها بالإكراه والإجبار. الأصل السابع: ما ورد من بيان السنن الاجتماعية في حياة الأمم وموتها وسعادتها وشقاوتها وإهلاكها بمعاندة الرسل وبالظلم والفساد في الأرض وتربيتها بالشدائد وكذا بالنعم والنقم (راجع من الجزء السابع من هذا الجزء. الأصل الثامن: إن مسائل عقائد الدين علم صحيح يشترط فيه اليقين، ومن ثم كان بصائر للناس وأيد بالآيات كما تقدم في بحث العقائد الإلهية وبحث الرسالة. واليقين جزء تطمئن به النفس لا يزلزله شك ولا ريب. الأصل التاسع: التقليد في الدين باطل لأنه ينافي أصل العلم اليقين. فإن المقلد في الدين هو من يعتمد في دينه على قول من يثق به من أهله وقومه أو معلمه وليس على علم ولا بصيرة فيه، فهو لا يدخل في أتباع الرسول الذين قال فيهم الله عز وجل: {قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} (البقرة 108) فكل ما ورد في هذه السورة وغيرها من القرآن أو السنة من كون هذا الدين علما مؤيدا بالحجة وبصائر للناس وآيات بينات فهو مبطل للتقليد، وكل ما ورد فيها من النعي على الكفار وعيبهم بالجهل وعدم العلم، ووصفهم بالصم البكم العمي، وبكونهم لا يعقلون فهو مبطل للتقليد. وكل ما فيه من مطالبتهم بالدليل على ما يدعون وبالعلم والعقل فكذلك. وقد نبهنا في تفسير بعض آيات السورة الواردة في هذه المسائل إلي بطلان التقليد كقوله تعالى في آخر آية 144 {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم} والعبرة فيه أنه جاء في خاتمة تقريعهم على ما حرموا من الحرث والأنعام تقليدا لآبائهم فبذلك كانت كل تلك الآيات هادمة للتقليد، ويؤيدها آية محرمات الطعام وبعدها. وقد نقلنا في تفسيرها كلاما حسنا في جهل المقلدين وإيثارهم كلام شيوخهم على كلام الله ورسوله نقله الرازي عن شيخه الذي وصفه بخاتمة المحققين والمجتهدين وراجع خسران النفس في ج 7. الأصل العاشر: إن التحليل والتحريم التعبديان و سائر شرائع العبادة وشعائرها من حق الله على عباده فمن وضع لهم حكما من ذلك لم يستند إلى شرع الله الذي أوحاه إلى رسوله فقد افترى على الله وجعل نفسه شريكا له في ربوبيته وأضل الناس بغير علم فهو ضال مضل، وما جاء به فهو بدعة ضلالة، راجع تفسير الآيات 136- 140. الأصل الحادي عشر: إن الله تعالى لم يحرم على الناس طعاما يطعمونه إلا الأربعة الذي ذكرت بصيغة الحصر في الآية (145) وهي الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فراجع تحقيق الحق في تفسيرها. الأصل الثاني عشر: إن هذه المحرمات تباح للمضطر إليها بشرط أن لا يكون باغيا أي مريدا لها، ولا عاديا أي متجاوزا حد الضرورة إلى التمتع بها، وإذا كان الاضطرار علة هذه الإباحة بشرطها فمثل هذه الأطعمة غيرها من المحرمات التي يضطر إليها الإنسان لحفظ حياته كالاضطرار إلى الحمر أحيانا كما صرحوا به وليس منه الزنا لأنه ليس مما يضطر إليه أحد لحفظ حياته. الأصل الثالث عشر: السياحة والسير في الأرض. فاتنا أن نذكر في تفسير قوله تعالى: {قل سيروا في الأرض} (الأنعام 11) أنه يدل بعمومه على وجوب السياحة وإن جعل الزمخشري والبيضاوي الأمر فيه للإباحة. وإنما يجب بالقصد المنصوص في الآيات كما يأتي تفصيله في الأصل التالي لهذا. نعم إن الخطاب في هذه الآية للمشركين المكذبين وإن الغرض منه الدلالة على مصداق الآية التي قبلها الناطقة بما حل من عقاب الله بالساخرين من الرسل والمستهزئين بهم من قبلهم. ولكن العبرة بعموم اللفظ دون السبب الخاص لنزوله والاحتجاج به، وقد تكرر الأمر في الكتاب العزيز بالسير في الأرض والحث عليه. فمنه ما جاء في خطاب المشركين كآية الأنعام ومثلها في النحل والنمل والعنكبوت ويوسف وفاطر وغافر. ومنه ما جاء في خطاب المؤمنين كآية آل عمران (3:137) ومثلها آية سورة الروم (30: 41) ومنه ما يحتمل العموم والإطلاق. ويؤيد ذلك وصف المؤمنين والمؤمنات في القرآن بالسائحين والسائحات في سورتي التوبة والتحريم وإن فسرها بعضهم فيهما بالصيام وهو تأويل بعيد، وكذا تخصيص سهم من مال الزكاة لأبناء السبيل وهم الرحالون الذين ينقطعون بالأسفار عن أوطانهم ومعاهد كسبهم حتى كأن السبيل لكل منهم أبوه وأمه لأنه لا يكاد يفارقه وانظر أحكام السفر وفوائده في الأصل التالي: الأصل الرابع عشر: النظر في أحوال الأمم وعواقب الأقوام التي كذبت الرسل في أثناء السير في أرضها ورؤية آثارها وسماع أخبارها كما بينا ذلك في تفسير الآية التي استدللنا بها آنفا على الأصل السابق وهي {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} (الأنعام 11). وهذا النظر والاعتبار لا خلاف بين العلماء في وجوبه شرعا وكونه مطلوبا لذاته ومقصودا من السياحة والسير في الأرض وإنما اختلفوا في السفر نفسه إذا لم يقصد به ذلك فذهب بعضهم إلى إباحته كما تقدم وبعضهم إلى وجوبه. والحق أن القرآن قد بين للسفر فوائد أخرى علل بها الأمر به والحث عليه وإن الأصل فيه الإباحة وقد يكون واجبا إذا كان لأمر واجب كالحج والجهاد الشرعي والنظر والاعتبار الذي هو موضوع هذا الأصل من أصول فوائد سورة الأنعام وقد يكون مندوبا إذا كان لطلب التوسع في العلوم وأما العلم الذي هو فرض عين فالسفر لطلبه إذا تعذر تحصيله بدونه يكون فرض عين. والسفر لطلب العلم الذي هو فرض كفاية ومنه الفنون والصناعات التي يتوقف عليها حفظ البلاد وشؤون المعاش والصحة... تأثم الأمة كلها إذا لم يقم به من تحصل بهم كفاية الأمة والبلاد وقد يكون محرما أو مكروها إذا قصد به عمل محرم أو مكروه. كالذين يسافرون إلى أوروبا لأجل الفسق. وأجمع الآيات لتكميل النفس بالسفر من طريق الدراية المستفادة بالنظر والاكتشاف والاعتبار وطريق الرواية والتلقي عن أهل العلم والبصيرة والاختبار قوله تعالى في سورة الحج: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها؟ فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور} (الحج 44). وقد نبهت آية آل عمران إلى أصل من أعظم أصول العلم التي تستفاد من السياحة واختبار أحوال الأمم وهو العلم بسنن الله في شؤون البشر العامة المعبر عنه في هذا العصر بعلم الاجتماع وهي: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا} (آل عمران 137) الآية ونبهت آية العنكبوت إلى أصل آخر وهو البحث فيما يتعلق ببدء الخلق من الآثار ليكون من فوائد قياس النشأة الآخرة على النشأة الأولى وذلك قوله تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} (العنكبوت 19) الآية. ونبهت الآية الأولى من آيتي سورة الروم إلى النظر في أحوال الأمم وآثارها الخاصة بالقوة الحربية وموارد الثروة الزراعية وسائر شؤون العمران، وكيف كان عاقبة ذلك وأسبابه ليعلم أن القوة والثروة لا تحول دون هلاك الأمة إذا استحقت ذلك بالظلم وكفر النعمة وهي: {أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها} (الروم 8) إلخ وفي معناها آية فاطر (35: 44) وهي خاصة بمسألة القوة ولكنها جاءت بعد بيان سنة الله في الأولين، وإن سنن الله لا تبديل لها ولا تحويل فهي ترشد بموقعها إلى البحث عن تلك السنن وفي معناها آيتا سورة غافر (40: 21و 82) فهما ترشدان إلى الاعتبار بقوة الأمم وآثارها في الأرض فتزيد على ما قبلها الإرشاد إلى الاستفادة من صناعات الأولين وطرق كسبهم والاعتبار بكونها لم تكن واقية لهم مع قوتهم الحربية من عذاب الله إياهم بذنوبهم وكفرهم. وقد ذكرنا هذه الأمهات من أصول علوم الاجتماع والعمران على سبيل الاستطراد اختصارا وهو كاف لتذكير مسلمي هذا العصر بأن القرآن قد أرشد البشر إلى جميع وسائل سعادة الأمم والأفراد في أمري المعاش والمعاد. الأصل الخامس عشر: جعل الله الظلم سببا لهلاك الأمم وإبادة الأقوام فقال: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا} (الأنعام 45) وقال: {هل يهلك إلا القوم الظالمون} (الأنعام 47) وقال: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (الأنعام 82) وقال: {فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون} (الأنعام 135) والظلم أنواع قد بين في هذه السورة بعضها والحق أن المراد في مثل هذه الآيات الظلم العام. الأصل السادس عشر: في علوم الكائنات والإرشاد إلى البحث فيها لمعرفة سنن الله وحكمه فيها وآياته الكثيرة فيها الدالة على علمه وحكمته ومشيئته وقدرته وفضله ورحمته ولأجل الاستفادة منها على أكمل الوجوه التي ترتقي بها الأمة في معاشها و سيادتها، وتشكر فضل الله عليها، وقد جعلنا هذا النوع من هداية السورة أصلا واحدا وهو أصول تتعلق بكثير من العلوم المتعلقة بالمواليد الثلاث، وغيرها، وإنما غرضنا بذكر هذه الأصول التذكير والإشارة ويمكن القارئ أن يأخذ من هذا الأصل إرشاد القرآن إلى جميع العلوم النباتية والحيوانية والإنسانية من جسدية ونفسية والفلكية والجوية والحسابية. ولو لم يرد في هذه السورة إلا الآيات الأربع المتصلة من قوله تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى} إلى قوله {لآيات لقوم يؤمنون} (الأنعام 99) لكفى، فراجع تفسيرها في (ج 7) وفي معناها في النبات {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات} (الأنعام 141) الآيات. ومثلها في الحيوان خاصة آية 38 التي تذكر في الأصل الذي بعد هذا. الأصل السابع عشر: العناية بحفظ أنواع الحيوان، والرفق بما سخره الله منها للإنسان وبغيره. يؤخذ هذا من قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} (الأنعام 38) فقد استنبط النبي صلى الله عليه وسلم منها حظر قتل الكلاب فقال: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها" 1966 الحديث رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن مغفل بسند صحيح. وقد استدلت إحدى الصحابيات بالآية على وجوب الرفق بالحيوان وتحريم تعذيبه كما ذكرناه في تفسيرها وذكرنا في المعنى بعض الأحاديث المرفوعة وهنالك أحاديث أخرى أبلغ منها معروفة في محلها وراجع تفسير الآية (ج 7). الأصل الثامن عشر: إثبات أن الحياة الدنيا ليست إلا لعبا ولهوا وأن الحياة الآخرة خير منها للذين يتقون ما أمر الله تعالى الناس باتقائه من الشرك وكفر النعم والظلم والفواحش والمنكرات والآية 32 نص صريح في ذلك وقد ذكرنا في تفسيرها ما ورد في معناها فراجعه في (ج 7). والمراد من بيان هذه الحقيقة تحذير العاقل من جعل التمتع بشهوات الدنيا كل همه من حياته أو أكبر همه فيها، وإن وقف في ذلك عند حد المباح من الزينة والطيبات من الرزق، ولم يضيع ما لله وما لعباده عليه من حق، على أن هذا لا يكاد يتفق لمن كان ذلك أكبر همه، ذلك بأن متاع الدنيا قليل، وأجله قصير، وهو مشوب بالمنغصات، وعرضة للآفات والذي لا هم له فوقه يسرف فيه فيظلم نفسه ويظلم غيره، وإننا نرى أهل الحضارة المادية في هذا العصر قد وصلوا إلى درجة رفيعة من العلوم العقلية والأدبية والاجتماعية ولم تكن بصارفة لهم عن افتراس أقويائهم لضعفائهم، فضلا عن الضعفاء الذين هم دونهم في حضارتهم أو غير أبناء جنسهم، وقد انتهوا في البحث والشر والظلم والفتك إلى غاية لم يعرفها تاريخ البشر في أشد المتوحشين جهلا. الأصل التاسع عشر: إن من آداب الإسلام المحتمة أن يتحامى المسلمون سب ما يعبده المشركون حجرا كان أو شجرا أو حيوانا أو إنسانا لأن ذلك قد يفضي إلى ما هو شر منه وهو أن يسب أولئك المشركون الله تعالى عدوا بغير علم على إيمانهم به ويثير العداوة ويورث الأحقاد بينهم وبين المسلمين ويكثف الحجاب الذي يحجبهم عن الإسلام، على قبح السب في نفسه، وكونه غير لائق بالمسلم ولا من شأنه، كما ورد في حديث "المسلم ليس بسباب ولا لعان" والأصل في هذا الأدب العالي وما يهدي إليه من الآداب الأخرى في المعاملات العامة قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله} (الأنعام 108) الآية فراجع تفسيرها في آخر الجزء السابع وفيه بحث عصبية المذاهب والأديان، وما تفضي إليه من الفساد والطغيان وما يتعلق بذلك ويرد عليه من الشبهات. الأصل العشرون: ابتلاء الناس بعضهم ببعض أي جعل ما بينهم من الاختلاف والتفاوت في الصفات والمزايا الوهبية والكسبية مما يختبر به استعداد الأفراد والشعوب في التنافس والمسابقة إلى ما يفضل به بعضهم على بعض. فمنهم من سلك في ذلك سبيل الحق والخير، ومنهم من سلك طرق الباطل والشر. ولذلك ينتهي الاختبار تارة بارتقاء كل من المتنافسين في العلوم والأعمال النافعة وتارة ينتهي بالرزايا والنكال لكل منهما. وتارة ينتهي بارتفاع فريق إلى أعلى الدرجات. وهوي الآخر إلى أسفل الدركات. وكان الواجب على المسلمين أن يكونوا أول المهتدين بهذا الإرشاد الإلهي في منافستهم لغيرهم ومنافسة غيرهم لهم وذلك قوله تعالى في آخر السورة: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم. إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} (الأنعام 165)) فعسى أن يتوبوا ويتوب الله تعالى عليهم، ويعود برحمته الخاصة عليهم، فيرفع عنهم ما نزل بهم من الأرزاء ويعيد إليهم ما سلبهم من الآلاء وهو الغفور الرحيم ذو الفضل العظيم. الأصل الحادي والعشرون: التوبة الصحيحة مع ما يلزمها من العمل الصالح توجب مغفرة الذنوب ورحمة الرب الغفور، بإيجابه ذلك على نفسه بسننه في خلقه ووعده في كتابه، لا بتأثير مؤثر ولا إيجاب موجب ولا محاباة شافع والآية 54 من هذه السورة نص في هذا الإيجاب الشرعي إذ قال: {كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم} وأما إيجابها بمقتضى سنن الله تعالى فهو مبدأ التوبة شعور بالألم والامتعاض من الذنب والحياء من الله والخوف من سخطه وعقابه عليه ولوم النفس الذي يسميه بعضهم توبيخ الضمير وهذا يستلزم بسنة الفطرة البشرية تركه والإتيان بعمل يضاده ويذهب بأثره من النفس. وقد عرف أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى التوبة بأنها مركبة من علم وحال وعمل فالعلم بقبح المعصية وكونها سببا لسخط الله وعذابه يوجب الحال وهو ألم النفس الذي ذكرناه آنفا. وهذا الحال يوجب العمل الشامل لترك الذنب وتكفيره بالعمل الصالح ولا سيما إذا كان مضادا له. ويراجع تفسير الآية في ج 7 تفسير الآيات التي يحيل عليها في تفصيل المسألة. وقد أخرنا هذا الأصل لتذكير الأفراد والأقوام من هذه الأمة التي جعل الله تعالى هذا الكتاب إمامها بما يجب عليها من التوبة عن مخالفة ما هداها إليه من دين الله القويم وصراطه المستقيم وتنكب ما أرشدها إليه من سنته في خلقه هذا ما تيسر التذكير به من أصول علوم الدين والدنيا في هذه السورة بقدر ما تذكرناه وقت كتابته. والفكر في بلبال والقلب في آلام، والزمن غير مساعد على محاولة الاستقصاء. على أن الإحاطة بعلوم القرآن، ليست في استطاعة إنسان، فهي تتجدد في كل زمان، ويهب الله منها، الأواخر ما لم يهب الأوائل، ويمنح بعض الضعفاء ما لا يمنح الأقوياء وقد أدمجنا في هذه الأصول وفي الكلام على أركان العقائد الثلاث قبلها أصولا كثيرة لو بسطت لطال الكلام كأنواع شهادة الله لرسوله بصدقه ومعجزات القرآن وعلومه المشار إليها في الآيتين 113و 114 وأعداء الرسل وتغريرهم والانخداع بها في الآيتين قبلهما وهن في أول هذه الجزء وغير ذلك مما ألممنا ببعضه. وبهذا نختم تفسير هذه السورة. ونسأله تعالى أن يلهمنا الصواب. ويجعلنا ممن تاب وأناب، ويوفقنا لإتمام تفسير الكتاب، ويؤتينا فيه الحكمة وفصل الخطاب. آمين...