التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَـٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (165)

قوله تعالى : { وهو الذي جعلكم خلئف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجت ليبلوكم في ما ءاتكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } خلائق جمع خليقة . مثل كريمة وكرائم . وهو من الخلف بسكون اللام أي القرن بعد القرن{[1337]} والمعنى أن الله جعل الناس { خلئف الأرض } أي يخلف بعضهم بعضا ، كلما مضى قرن جاء بعده قرن آخر . أو كلما ذهب جيل خلفه جيل غيره . وهكذا الأمم على مر العصور يخلف بعضها بعضا . فما تجيء أمة من الأمم حتى تؤول إلى الهلاك والزوال لتعقبها أمة بعدها إلى أن تقوم الساعة . وذلك كله من تدبير الله القدير الذي صنع الحياة والعالمين بعلمه وتدبيره وحكمته .

قوله : { ورفع بعضكم فوق بعض درجت ليبلوكم في ما ءاتكم } درجات مفعول ثان لرفع . وقيل غير ذلك{[1338]} والمعنى أن الله رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات في العقل والعلم والرزق والقوة والجاه وغير ذلك من المظاهر الدنيوية التي جاءت نتيجة لما أوتي الإنسان من قوة العقل أو الجسم أو التفكير أو التدبير . والناس بطبيعتهم متفاوتون فيما أوتوه من قدرات فطرية أو طاقات خلقية ، كطاقة الذكاء أو البسطة في الجسم أو السعة في مدى الذهن وأفق التفكير ، أو القوة في الاحتمال والتخطيط والتدبير وغير ذلك من وجوه التفاوت في القدرات الذاتية الخلقية للإنسان . لا جرم أن التفاوت في مثل هذه القدرات سيفضي بالضرورة إلى التفاوت في مدى الكسب أو التحصيل أو التميز ليكون الناس بعذ ذلك درجات كما بينته الآية . فيكون فيهم القوي والضعيف ، وفيهم الغني والفقير ، وفيهم العالم والجاهل ، وفيهم النشيط والخامل .

قوله : { ليبلوكم في ما ءاتكم } من الابتلاء وهو الامتحان والاختبار . فإن الله جل وعلا يختبر العباد فيما أوتوه من قدرات ودرجات في العقل أو الجسم أو غير ذلك من المزايا ، ليحاسب الموسر على ما آتاه الله من مال ، وليحاسب العالم بعلمه ، هل عمل به أم لم يعمل . وليحاسب ذا الجاه والمكانة بما فعله في جاهه أو مكانته ، هل استعملها في نصرة الحق أم في الباطل كظلم الناس والترفع عليهم في استكبار واستخفاف . وبذلك فإن العبد غير مسيب ولا منفك من تحمل التبعة عما أوتيه من مزايا في دنياه ولكنه مؤاخذ بها ومسؤول عنها يوم القيامة .

قوله : { إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } أي أن عقاب الله سريع الإتيان لأن كل ما هو آت قريب . فما يكون من آت إلا كان بالغ الدنو والقرب وإن طال زمانه حتى بلغ الدهر كله . فما تغني الكافرين والظالمين والمضلين أموالهم أو مكانتهم ما دام الموت ينتظرهم ، والعذاب واقع بهم لا محالة ، وإن امتد زمانه ؟ !

وفي المقابل فإن الله { لغفور رحيم } إن الله غفار للذنوب والعيوب سواء في الدنيا إذ يسترها لعبده التائب المستغفر ، أو في الآخرة فيمحوها بواسع فضله ورحمته{[1339]} .


[1337]:- القاموس المحيط ج 3 ص 141- 142 ومختار الصحاح ص 186.
[1338]:- البيان لابن الأنباري ج 1 ص 352 وتفسير النسفي ج 1 ص 43.
[1339]:- تفسير الرازي ج 14 ص 15 وتفسير القرطبي ج 7 ص 158- 159.