النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَـٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (165)

قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلآئِفَ الأَرْضِ } فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه جعلهم خلفاً من الجان سكاناً للأرض ، قاله ابن عباس .

والثاني : أن أهل كل عصر يخلف أهل العصر الذي قبله ، كلما مضى أهل عصر خلفه أهل عصر بعده على انتظام ، حتى تقوم الساعة على العصر الأخير فلا يخلق عصر ، فصارت هذه الأمة خلفاً للأمم الماضية .

والثالث : جعل بعضهم خليفة لبعض ليتآلفوا بالتعاون .

والرابع : لأنهم آخر الأمم وكانوا خلفاً لمن تقدمهم ، قال الشماخ :

تصيبكم وتخطئني المنايا *** وأخلف في ربوع عن ربوع

{ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } يعني ما خالف بينهم في الغنى بالمال وشرف الآباء وقوة الأجسام ، وهذا ، وإن ابتدأه تفضلاً من غير جزاء ولا استحقاق ، لحكمة منه تضمنت ترغيباً في الأعلى وترهيباً من الأدنى ، لتدم له الرغبة والرهبة .

وقد نبه على ذلك بقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءَاتَاكُمْ } يعني من الغنى والقوة وفيه وجهان :

أحدهما : ليختبركم بالاعتراف{[1023]} .

{ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ } فإن قيل : فكيف جعله سريعاً وهو في الآخرة ؟ فعنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أن كل آت قريب ، كقوله :

{ وَمَا أَمْرُ السَّاعِةِ إِلاَّ كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ }

[ النحل : 77 ] .

والثاني : أن ربك سريع العقاب في الدنيا لمن استحق منه تعجيل العقاب فيها .

والثالث : أنه إذا شاء عاقب ، فصار عقابه سريعاً لأنه يقترن بمشيئته ، وهذا قول ابن بحر .

{ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } جمعاً منه بين ما يقتضي الرهبة من سرعة العقاب وبين ما يقتضي الرغبة من الغفران والرحمة ، لأن الجمع بين الرغبة والرهبة أبلغ في الانقياد إلى الطاعة والإقلاع عن المعصية ، والله عز وجل أعلم{[1024]} .


[1023]:- هكذا في الأصل، ولم يذكر الوجه الثاني.
[1024]:- في ك " إلى هنا انتهى الربع الأول من تفسير القاضي الماوردي" أما في ق فقد قال: "تم الجزء الأول بحمد الله ومنه ويتلوه في الجزء الثاني سورة الأعراف والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين".