معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (72)

قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وهاجروا } ، أي : هجروا قومهم وديارهم ، يعني المهاجرين من مكة .

قوله تعالى :{ وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا } رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه ، أي : أسكنوهم منازلهم .

قوله تعالى : { ونصروا } أي : ونصروهم على أعدائهم ، وهم الأنصار رضي الله عنهم . قوله تعالى : { أولئك بعضهم أولياء بعض } ، دون أقربائهم من الكفار ، قيل : في العون والنصرة . وقال ابن عباس : في الميراث ، وكانوا يتوارثون بالهجرة ، فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام ، وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة ، انقطعت الهجرة ، وتوارثوا بالأرحام حيث ما كانوا ، وصار ذلك منسوخاً بقوله عز وجل : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأحزاب : 6 ] ،

قوله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء } ، يعني في الميراث .

قوله تعالى : { حتى يهاجروا } ، قرأ حمزة : ( ولايتهم ) بكسر الواو ، والباقون بالفتح ، وهما واحد كالدلالة والدلالة .

قوله تعالى : { وإن استنصروكم في الدين } ، أي : استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا .

قوله تعالى : { فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } ، عهد فلا تنصروهم عليهم .

قوله تعالى : { والله بما تعملون بصير } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (72)

ذكر تعالى أصناف المؤمنين ، وقسمهم إلى مهاجرين ، خرجوا من ديارهم وأموالهم ، وجاؤوا لنصر الله ورسوله ، وإقامة دينه ، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك . وإلى أنصار ، وهم : المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك ، آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم ، وواسوهم في أموالهم ، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم ، فهؤلاء بعضهم أولى ببعض{[13186]} أي : كل منهم أحق بالآخر من كل أحد ؛ ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ، كل اثنين أخَوَان ، فكانوا يتوارثون بذلك إرثًا مقدمًا على القرابة ، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث ، ثبت ذلك في صحيح البخاري ، عن ابن عباس{[13187]} ورواه العَوْفي ، وعلي بن أبي طلحة ، عنه{[13188]} وقال{[13189]} مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم .

قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن شريك ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن جَرير - هو ابن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة " تفرد به أحمد{[13190]}

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا شيبان{[13191]} حدثنا عِكْرِمة - يعني ابن إبراهيم الأزدي - حدثنا عاصم ، عن شَقِيق ، عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " المهاجرون والأنصار ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف ، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة " . هكذا رواه في مسند عبد الله بن مسعود{[13192]}

وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في{[13193]} كتابه ، فقال : { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ } الآية [ التوبة : 100 ] ، وقال : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } الآية . [ التوبة : 117 ] ، وقال تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } الآية [ الحشر : 8 ، 9 ] .

وأحسن ما قيل في قوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي : لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم ، فإن ظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار ، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، لا يختلفون في ذلك ، ولهذا قال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن حذيفة قال : خَيَّرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة ، فاخترت الهجرة{[13194]}

ثم قال : لا نعرفه إلا من هذا الوجه .

وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ } [ قرأ حمزة : " ولايتهم " بالكسر ، والباقون بالفتح ، وهما واحد كالدِّلالة والدَّلالة ] {[13195]}{ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين ، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا ، بل أقاموا في بَوَاديهم ، فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب ، ولا في خُمسها إلا ما حضروا فيه القتال ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا وَكيع ، حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مَرْثَد ، عن سليمان بن بُرَيْدة ، عن أبيه : بُرَيْدة بن الحُصَيب الأسلمي ، رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش ، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ، وقال : " اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال - أو : خلال - فأيتهن ما أجابوك{[13196]} إليها فاقبل منهم ، وكُفَّ عنهم : ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين ، وأن عليهم ما على المهاجرين . فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب

المسلمين ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية . فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله ثم قاتلهم " .

انفرد به{[13197]} مسلم ، وعنده زيادات أخر{[13198]}

وقوله : { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يقول تعالى : وإن استنصروكم هؤلاء الأعراب ، الذين لم يهاجروا في قتال ديني ، على عدو لهم فانصروهم ، فإنه واجب عليكم نصرهم ؛ لأنهم إخوانكم في الدين ، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار{ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } أي : مهادنة إلى مدة ، فلا تخفروا ذمتكم ، ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم . وهذا مروي عن ابن عباس ، رضي الله عنه .


[13186]:في د، ك، م، أ: "بعضهم أولياء بعض".
[13187]:صحيح البخاري برقم (6747).
[13188]:رواه الطبري في تفسيره (14/78).
[13189]:في أ: "وقاله".
[13190]:المسند (4/363).
[13191]:في د: "سفيان".
[13192]:مسند أبي يعلى (8/446) وفيه عكرمة بن إبراهيم، ضعيف.
[13193]:في د، أ: "من".
[13194]:مسند البزار برقم (2718) "كشف الأستار" وفيه علي بن زيد، ضعيف.
[13195]:زيادة من د، م، أ.
[13196]:في أ: "ما أجابوا".
[13197]:في أ: "انفرد بإخراجه".
[13198]:المسند (5/352) وصحيح مسلم برقم (1731).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (72)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَواْ وّنَصَرُوَاْ أُوْلََئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مّن وَلاَيَتِهِم مّن شَيْءٍ حَتّىَ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النّصْرُ إِلاّ عَلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .

يقول تعالى ذكره : إن الذين صدقوا الله ورسوله . وَهاجَرُوا يعني : هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم ، يعني : تركوهم وخرجوا عنهم ، وهجرهم قومُهم وعشيرتهم . وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ يقول : بالغوا في إتعاب نفوسهم وإنصابها في حرب أعداء الله من الكفار في سبيل الله ، يقول في دين الله الذي جعله طريقا إلى رحمته والنجاة من عذابه . وَالّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا يقول : والذين آووا رسول الله والمهاجرين معه يعني أنهم جعلوا لهم مأوى يأوون إليه ، وهو المثوى والمسكن ، يقول : أسكنوهم وجعلوا لهم من منازلهم مساكن ، إذ أخرجهم قومهم من منازلهم ونَصَرُوا يقول : ونصروهم على أعدائهم وأعداء الله من المشركين . أُولئكَ بعضُهمْ أوْلياءُ بَعْضٍ يقول : هاتان الفرقتان ، يعني المهاجرين والأنصار ، بعضهم أنصار بعض ، وأعوان على من سواهم من المشركين ، وأيديهم واحدة على من كفر بالله ، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار . وقد قيل : إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض ، وأن الله ورّث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام ، وأن الله نسخ ذلك بعد بقوله : وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آووْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ يعني في الميراث . جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام ، قال الله : وَالّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا يقول : ما لكم من ميراثهم من شيء ، وكانوا يعملون بذلك ، حتى أنزل الله هذه الاَية : وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ في الميراث ، فنسخت التي قلبها ، وصار الميراث لذوي الأرحام .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يقول : لا هجرة بعد الفتح ، إنما هو الشهادة بعد ذلك وَالّذِينَ آووْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ . . . إلى قوله : حتى يُهاجِرُوا وذلك أن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل . منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه في الهجرة ، خرج إلى قوم مؤمنين في ديارهم وعقارهم وأموالهم ، وآوَوْا وَنَصَرُوا وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة ، وشهروا السيوف على من كذب وجحد ، فهذان مؤمنان جعل الله بعضهم أولياء بعض ، فكانوا يتوارثون بينهم إذا توفي المؤمن المهاجر ورثه الأنصاريّ بالولاية في الدين ، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر . فبرأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم ، وهي الولاية التي قال الله : ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا وكان حقّا على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قاتلوا إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم ميثاق ، فلا نصر لهم عليهم إلا على العدو الذين لا ميثاق لهم . ثم أنزل الله بعد ذلك أن ألحق كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين هاجروا والذين آمنوا ولم يهاجروا ، فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيبا مفروضا بقوله : وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، وبقوله : وَالمُؤمِنُونَ والمُؤمِناتُ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الثلاث الاَيات خواتيم الأنفال فيهنّ ذكر ما كان من ولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مهاجري المسلمين وبين الأنصار في الميراث ، ثم نسخ ذلك آخرها : وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، قوله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا . . . إلى قوله : بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قال : بلغنا أنها كانت في الميراث لا يتوارث المؤمنون الذين هاجروا والمؤمنون الذين لم يهاجروا ، قال : ثم نزل بعد : وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فتوارثوا ولم يهاجروا . قال ابن جريج ، قال مجاهد : خواتيم الأنفال الثلاث الاَيات فيهنّ ذكر ما كان والي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين المسلمين وبين الأنصار في الميراث ، ثم نسخ ذلك آخرها : وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آووْا وَنَصَرُوا . . . إلى قوله : ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا قال : لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة ، والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئا ، فنسخ ذلك بعد ذلك قول الله : وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهاجِرِينَ إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا أي من أهل الشرك . فأجيزت الوصية ، ولا ميراث لهم ، وصارت المواريث بالملل ، والمسلمون يرث بعضهم بعضا من المهاجرين والمؤمنين ، ولا يرث أهل ملتين .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسن ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن ، قالا : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ . . . إلى قوله : ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا كان الأعرابي لا يرث المهاجر ولا يرثه المهاجر ، فنسخها فقال : وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آووْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ فِي الميراث ، وَالّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يُهاجِرُوا وهؤلاء الأعراب ، ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ في الميراث ، وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ يقول بأنهم مسلمون ، فَعَلَيْكُمُ النّصْرُ إلاّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ . وَالّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ في الميراث ، وَالّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ الذين توارثوا على الهجرة في كتاب الله ، ثم نسختها الفرائض والمواريث ، فتوارث الأعراب والمهاجرون .

القول في تأويل قوله تعالى : وَالّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النّصْرُ إلاّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

يعني بقوله تعالى ذكره : والّذِينَ آمَنُوا الذين صدقوا بالله ورسوله ، ولَمْ يُهاجِرُوا قومهم الكفار ، ولم يفارقوا دار الكفر إلى دار الإسلام . ما لَكُمْ أيها المؤمنون بالله ورسوله المهاجرون قومهم المشركين وأرضَ الحرب ، مِنْ وَلايَتِهِمْ يعني : من نصرتهم وميراثهم . وقد ذكرت قول بعض من قال : معنى الولاية ههنا الميراث ، وسأذكر إن شاء الله من حضرني ذكره بعد . مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا قومهم ودورهم من دار الحرب إلى دار الإسلام . وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ يقول : إن استنصركم هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا في الدين ، يعني بأنهم من أهل دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين ، فعليكم أيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار النصر ، إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم ميثاق ، يعني عهد قد وثق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه . وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يقول : والله بما تعملون فيما أمركم ونهاكم من ولاية بعضكم بعضا أيها المهاجرون والأنصار ، وترك ولاية من آمن ولم يهاجر ، ونصرتكم إياهم عند استنصاركم في الدين ، وغير ذلك من فرائض الله التي فرضها عليكم . بَصِيرٌ يراه ويبصره ، فلا يخفى عليه من ذلك ولا من غيره شيء .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا قال : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة ، وآخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهم ، فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة ، وكان الرجل يسلم ولا يهاجر لا يرث أخاه ، فنسخ ذلك قوله : وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهاجِرِينَ .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام ، فقال : «تُقيمُ الصّلاةَ ، وتُؤْتي الزّكَاةَ ، وتَحجّ البَيْتَ ، وتَصُومُ رَمَضَانَ ، وأنّكَ لا ترى نَارَ مُشْرِكٍ إلاّ وأنْتَ حَرْبٌ » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ يعني : إن استنصركم الأعراب المسلمون أيها المهاجرون والأنصار على عدوّهم فعليكم أن تنصروهم . إلاّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم الناس يوم توفي على أربع منازل : مؤمن مهاجر ، والأنصار ، وأعرابي مؤمن لم يهاجر إن استنصره النبيّ صلى الله عليه وسلم نصره وإن تركه فهو إذن له وإن استنصر النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدين كان حقّا عليه أن ينصره ، فذلك قوله : وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النّصْرُ . والرابعة : التابعون بإحسان .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا . . . إلى آخر السورة ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وترك الناس على أربع منازل : مؤمن مهاجر ، ومسلم أعرابي ، والذين آووا ونصروا ، والتابعون بإحسان .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (72)

مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا ، والكفار والمهاجرين بعد الحديبية ، وذكر نسب بعضهم من بعض ، فقدم أولاً ذكر المهاجرين وهم أصل الإسلام ، وانظر تقديم عمر لهم في الاستشارة و «هاجر » معناه أهله وقرابته وهجروه ، { وجاهدوا } معناه أجهدوا أنفسهم في حرب من أجهد نفسه في حربهم ، { والذين آووا ونصروا } هم الأنصار ، وآوى معناه هيأ مأوى وهوالملجأ والحرز ، فحكم الله على هاتين الطائفتين بأن { بعضهم أولياء بعض } ، فقال كثير من المفسرين : هذه الموالاة هي المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي ، وعليه فسر الطبري الآية ، وهذا الذي قالوا لازم من دلالة اللفظ ، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وكثير منهم إن هذه الموالاة هي في الميراث ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار ، وكانت بين الأنصار أخوة النسب وكانت أيضاً بين بعض المهاجرين فكان المهاجريّ إذا مات ولم يكن له بالمدينة ولي مهاجريّ وورثه أخوه الأنصاري ، وإن كان له ولي مسلم لم يهاجر ، وكان المسلم الذي لم يهاجر لا ولاية بينه وبين قريبه المهاجري لا يرثه ، قال ابن زيد : واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة ، ثم توارثوا بعد ذلك لما لم تكن هجرة .

قال القاضي أبو محمد : فذهبت هذه الفرقة إلى أن هذا هو مقصد الآية ، ومن ذهب إلى أنها في التآزر والتعاون فإنما يحمل نفي الله تعالى ولايتهم عن المسلمين على أنها صفة الحال لا أن الله حكم بأن لا ولاية بين المهاجرين وبينهم جملة ، وذلك أن حالهم إذا كانوا متباعدي الأقطار تقتضي أن بعضهم إن حزبه حازب لا يجد الآخر ولا ينتفع به فعلى هذه الجهة نفي الولاية ، وعلى التأويلن ففي الآية حض للأعراب على الهجرة ، قاله الحسن بن أبي الحسن ، ومن رأى الولاية في الموارثة فهو حكم من الله ينفي الولاية في الموارثة ، قالوا : ونسخ ذلك قوله تعالى { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض }{[5487]} ، وقرأ جمهور السبعة والناس «وَلايتهم » بفتح الواو والوَلاية أيضاً بفتح الواو{[5488]} ، وقرأ الكسائي «وَلايتهم » بفتح الواو والوِلاية بكسر الواو ، وقرأ الأعمش وابن وثاب «وِلايتهم » والوِلاية بكسر الواو وهي قراءة حمزة ، قال أبو علي والفتح أجود لأنها في الدين ، قال أبو الحسن الأخفش والكسر فيها لغة وليست بذلك ولحن الأصمعي والأعمش{[5489]} وأخطأ عليه لأنها إذا كانت لغة فلم يلحن .

قال القاضي أبو محمد : لا سيما ولا يظن به إلا أنه رواها ، قال أبو عبيدة : الوِلاية بالكسر هي من وليت الأمر إليه فهي من السلطان ، والولاية هي من المولى ، يقال مولى بين الوَلاية بفتح الواو ، وقوله { وإن استنصروكم } يعني إن استدعى هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا نصركم على قوم من الكفرة فواجب عليكم نصرهم إلا إن استنصروكم على قوم كفار قد عاهدتموهم أنتم وواثقتموهم على ترك الحرب فلا تنصروهم عليهم لأن ذلك عذر ونقض للميثاق وترك لحفظ العهد والوفاء به ، والقراءة «فعليكم النصرُ » برفع الراء ، ويجوز «فعليكم النصر » على الإغراء ، ولا أحفظه قراءة ، وقرأ جمهور الناس «والله بما تعملون » على مخاطبة المؤمنين ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعرج «بما يعملون » بالياء على ذكر الغائب .


[5487]:- ستأتي بعد ثلاث آيات، فهي الآية (75) من هذه السورة.
[5488]:- يريد [الولاية] في قوله تعالى في الآية (44) من سورة (الكهف): {هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا}.
[5489]:- هكذا في جميع النسخ المخطوطة، ولكن من الواضح أنها "الأخفش" فالكلام عنه، ويؤيد ذلك ما قاله في "البحر" ونصه: "ولحن الأصمعي الأخفش في قراءته بالكسر وأخطأ في ذلك لأنها قراءة متواترة"، وكلام ابن عطية يؤيد هذا حين يقول: "لأنها إذا كانت لغة فلم يلحن"، والذي قال إنها لغة هو الأخفش.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (72)

هذه الآيات استئناف ابتدائي للإعلام بأحكام موالاة المسلمين للمسلمين الذين هاجروا والذين لم يهاجروا ، وعدم موالاتهم للذين كفروا ، نشأ عن قول العباس بن عبد المطلب حين أسرّ ببدر أنّه مسلم ، وأنّ المشركين أكرهوه على الخروج إلى بدر ، ولعلّ بعض الأسرى غيره قد قال ذلك وكانوا صادقين ، فلعل بعض المسلمين عطفوا عليهم وظنّوهم أولياء لهم ، فأخبر الله المسلمين وغيرهم بحكم من آمن واستمرّ على البقاء بدار الشرك . قال ابن عطية : « مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا والكفار ، والمهاجرين بعد الحديبية وذِكْرُ نِسَب بعضهم عن بعض » .

وتعرضت الآية إلى مراتب الذين أسلموا فابتدأت ببيان فريقين اتّحدَت أحكامهم في الولاية والمؤاساة حتى صاروا بمنزلة فريق واحد ، وهؤلاء هم فريقا المهاجرين والأنصار الذين امتازوا بتأييد الدين . فالمهاجرون امتازوا بالسبق إلى الإسلام وتكبّدوا مفارقة الوطن . والأنصار امتازوا بإيوائهم ، وبمجموع العملين حصل إظهار البراءة من الشرك وأهلِه ، وقد اشترك الفريقان في أنّهم آمنوا وأنّهم جاهدوا ، واختص المهاجرون بأنّهم هاجروا واختص الأنصار بأنّهم آووا ونصروا ، وكان فضل المهاجرين أقوى ؛ لأنّهم فضلوا الإسلام على وطنهم وأهليهم ، وبادر إليه أكثرهم ، فكانوا قدوة ومثالاً صالحاً للناس .

والمهاجرة هجر البلاد ، أي الخروج منها وتركها ، قال عَبدة بن الطبيب :

إنّ التي ضَربتْ بيتاً مُهَاجَرةً *** بكوفةِ الجندِ غَالتْ وُدَّها غُول

وأصل الهجرة الترك واشتقّ منه صيغة المفاعلة لخصوص ترك الدار والقوم ، لأنّ الغالب عندهم كان أنّهم يتركون قومهم ، ويتركهم قومهم إذ لا يفارق أحد قومه إلا لسوء معاشرة تنشأ بينه وبينهم .

وقد كانت الهجرة من أشهر أحوال المخالفين لقومهم في الدين ، فقد هاجر إبراهيم عليه السلام { وقال إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين } [ الصافات : 99 ] . وهاجر لوط عليه السلام : { وقال إنّي مهاجر إلى ربّي إنه هو العزيز الحكيم } [ العنكبوت : 26 ] ، وهاجر موسى عليه السلام بقومه ، وهاجر محمد صلى الله عليه وسلم وهاجر المسلمون بإذنه إلى الحبشة ، ثم إلى المدينة يثرب ، ولما استقرّ المسلمون من أهل مكّة بالمدينة غلب عليهم وصف المهاجرين وأصبحت الهجرة صفة مدح في الدين ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التفضيل : " لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار " وقال للأعرابي : " ويحك إنّ شأنها شديد وقال لا هجرة بعد الفتح " .

والإيواء تقدّم عند قوله تعالى : { فآواكم وأيدكم بنصره } في هذه السورة [ 26 ] .

والنصر تقدّم عند قوله تعالى : { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } إلى قوله { ولا هم ينصرون } في سورة [ البقرة : 123 ] .

والمراد بالنصر في قوله : { ونصروا } النصر الحاصل قبل الجهاد وهو نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأنّهم يحمونهم بما يحمون به أهلهم ، ولذلك غلب على الأوس والخزرج وصف الأنصار .

واسم الإشارة في قوله : { أولئك بعضهم أولياء بعض } لإفادة الاهتمام بتمييزهم للإخبار عنهم ، وللتعريض بالتعظيم لشأنهم ، ولذلك لم يؤت بمثله في الإخبار عن أحوال الفرق الأخرى .

ولمّا أطلَق الله الولاية بينهم احتمل حملَها على أقصى معانيها ، وإن كان موردُها في خصوص ولاية النصر ، فإنّ ذلك كورُود العامّ على سبب خاص قال ابن عباس : { أولئك بعضهم أولياء بعض } يعني في الميراث جعل بين المهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام ، حتّى أنزل الله قوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأنفال : 75 ] أي في الميراث فنسختها ، وسيأتي الكلام على ذلك . فحملها ابن عبّاس على ما يشمل الميراث ، فقال : كانوا يتوارثون بالهجرة ، وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر الذي آمن وهاجر ، فنسخ الله ذلك بقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } [ الأنفال : 75 ] . وهذا قول مجاهد وعِكرمة وقتادة والحسن . وروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود ، وهو قول أبي حنيفة وأحمد ، وقال كثير من المفسّرين هذه الولاية هي في الموالاة والمؤازرة والمعاونة دون الميراث اعتداداً بأنّها خاصّة بهذا الغرض ، وهو قول مالك بن أنس والشافعي .

وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر وأهل المدينة ، ولا تشمل هذه الآية المؤمنين غير المهاجرين والأنصار . قال ابن عباس : كان المهاجر لا يتولّى الأعرابي ولا يرثه ( وهو مؤمن ) ولا يرث الأعرابي المهاجر أي ولو كان عاصباً .

وقوله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء } جاء على أسلوب تقسيم الفرق فعطف كما عطفت الجمل بعده ، ومع ذلك قد جعل تكملة لحكم الفرقة المذكورة قبله فصار له اعتباران ، وقد وقع في المصحف مع الجملة التي قبله ، آية واحدة نهايتها قوله تعالى : { والله بما تعملون بصير } .

فإن وصف الإيمان أي الإيمان بالله وحده يقابله وصف الشرك ، وأنّ وصف الهجرة يقابله وصف المكث بدار الشرك ، فلمّا بيّن أول الآية ما لأصحاب الوصفين : الإيمان والهجرة ، من الفضل وما بينهم من الولاية انتقلت إلى بيان حال الفريق الذي يقابل أصحاب الوصفين وهو فريق ثالث ، فبيّنت حكم المؤمنين الذين لم يهاجروا فأثبتت لهم وصف الإيمان ، وأمرت المهاجرين والأنصار بالتبرّئى من ولايتهم حتّى يهاجروا ، فلا يثبت بينهم وبين أولئك حكم التوراث ولا النصر إلاّ إذا طلبوا النصر على قوم فتنوهم في دينهم .

وفي نفي ولاية المهاجرين والأنصار لهم ، مع السكوت عن كونهم أولياء للذين كفروا ، دليل على أنّهم معتبرون مسلمين ، ولكنّ الله أمر بمقاطعتهم حتّى يهاجروا ؛ ليكون ذلك باعثاً لهم على الهجرة .

و« الولاية » بفتح الواو في المشهور وكذلك قرأها جمهور القرّاء ، وهي اسم لمصدر تولاه ، وقرأها حمزة وحده بكسر الواو . قال أبو علي : الفتح أجود هنا ، لأنّ الولاية التي بكسر الواو في السلطان يعني في ولايات الحكم والإمارة .

وقال الزّجاج : قد يجوز فيها الكسر ، لأنّ في تولّى بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة كالقِصارة والخِياطة ، وتبعه في « الكشّاف » وأراد إبطال قول أبي علي الفارسي أنّ الفتح هنا أجود . وما قاله أبو علي الفارسي باطل ، والفتح والكسر وجهان متساويان مثل الدلالة بفتح الدال وكسرها .

والظرفية التي دلت عليها ( في ) من قوله تعالى : { وإن استنصروكم في الدين } ظرفية مجازية ، تؤول إلى معنى التعليل ، أي : طلبوا أن تنصروهم لأجل الدين ، أي لرد الفتنة عنهم في دينهم إذ حاول المشركون إرجاعهم إلى دين الشرك وجب نصرهم ؛ لأنّ نصرهم للدّين ليس من الولاية لهم بل هو من الولاية للدين ونصرِه ، وذلك واجب عليهم سواء استنصرهم الناس أم لم يستنصروهم إذا توفّر داعي القتال ، فجعل الله استنصار المسلمين الذين لم يهاجروا من جملة دواعي الجهاد .

و { عليكم النصر } من صيغ الوجوب ، أي : فواجب عليكم نصرهم ، وقدم الخبر وهو { عليكم } للاهتمام به .

و { أل } في { النصر } للعهد الذكري لأنّ { استنصروكم } يدلّ على طلب نصر والمعنى : فعليكم نصرهم .

والاستثناء في قوله : { إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } استثناء من متعلِّق النصر وهو المنصور عليهم ، ووجه ذلك أنّ الميثاق يقتضي عدم قتالهم إلاّ إذا نكثوا عهدهم مع المسلمين ، وعهدهم مع المسلمين لا يتعلّق إلاّ بالمسلمين المتميزين بجماعة ووطن واحد ، وهم يومئذ المهاجرون والأنصار ، فأمّا المسلمون الذين أسلموا ولم يهاجروا من دار الشرك فلا يتحمّل المسلمون تبعاتهم ، ولا يدخلون فيما جرُّوه لأنفسهم من عداوات وإحَن ، لأنّهم لم يصدروا عن رأي جماعة المسلمين ، فما ينشأ بين الكفار المعاهدين للمسلمين ، وبين المسلمين الباقين في دار الكفر لا يعدّ نكثاً من الكفار لعهد المسلمين ، لأن من عذرهم أن يقولوا : لا نعلم حين عاهدناكم أنّ هؤلاء منكم ، لأنّ الإيمان لا يُطلع عليه إلاّ بمعاشرة ، وهؤلاء ظاهر حالهم مع المشركين يساكنونهم ويعاملونهم .

وقوله : { والله بما تعملون بصير } تحذير للمسلمين لئلاّ يحملهم العطف على المسلمين على أن يقاتلوا قوماً بينهم وبينهم ميثاق .

وفي هذا التحذير تنويه بشأن الوفاء بالعهد ، وأنّه لا ينفضه إلاّ أمر صريح في مخالفته .