قوله تعالى : { لكيلا تأسوا } تحزنوا ، { على ما فاتكم } من الدنيا ، { ولا تفرحوا بما آتاكم } قرأ أبو عمرو بقصر الألف ، لقوله { فاتكم } فجعل الفعل له ، وقرأ الآخرون { آتاكم } بمد الألف ، أي : أعطاكم . قال عكرمة : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكراً والحزن صبراً ، { والله لا يحب كل مختال } متكبر بما أوتي من الدنيا ، { فخور } يفخر به على الناس . قال جعفر بن محمد الصادق : يا ابن آدم مالك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت ، ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يدك الموت .
وقوله : { لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } أي : أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا{[28304]} للأشياء قبل كونها ، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها ، لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم ، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم ، فلا تأسوا على ما فاتكم ، فإنه{[28305]} لو قدر شيء لكان { وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } أي : جاءكم ، ويقرأ : " آتاكُم " أي : أعطاكم . وكلاهما متلازمان ، أي : لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم ، فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم ، وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم ، فلا تتخذوا نعم {[28306]} الله أشرًا وبطرًا ، تفخرون بها على الناس ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي : مختال في نفسه متكبر فخور ، أي : على غيره .
وقال عكرمة : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ، ولكن اجعلوا الفَرَح شكرًا والحزن صبرًا .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } .
يعني تعالى ذكره : ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في أموالكم ولا في أنفسكم ، إلا في كتاب قد كُتب ذلك فيه من قبل أن نخلق نفوسكم لِكَيْلا تَأسُوْا يقول : لكيلا تحزنوا على ما فاتَكُمْ من الدنيا ، فلم تدركوه منها وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ منها .
ومعنى قوله : بِما آتاكُمْ إذا مدّت الألف منها : بالذي أعطاكم منها ربكم وملّككم وخَوّلكم وإذا قُصرت الألف ، فمعناها : بالذي جاءكم منها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس لِكَيْلا تَأْسَوْا على ما فاتَكُمْ من الدنيا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ منها .
حُدثت عن الحسين بن يزيد الطحان ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن قيس ، عن سماك ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس لِكَيْلا تَأسَوْا على ما فاتَكُمْ قال : الصبر عند المصيبة ، والشكر عند النعمة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سماك البكري ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس لِكَيْلا تَأْسَوْا على ما فاتَكُمْ قال : ليس أحد إلا يحزن ويفرح ، ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبرا ، ومن أصابه خير فجعله شكرا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عزّ وجلّ : لِكَيْلا تَأْسَوْا على ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ قال : لا تأسوا على ما فاتكم من الدنيا ، ولا تفرحوا بما آتاكم منها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : بِما آتاكُمْ فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والكوفة بِما آتاكُمْ بمدّ الألف . وقرأه بعض قرّاء البصرة «بِما أتاكُمْ » بقصر الألف وكأن من قرأ ذلك بقصر الألف اختار قراءته كذلك ، إذ كان الذي قبله على ما فاتكم ، ولم يكن على ما أفاتكم ، فيردّ الفعل إلى الله ، فألحق قوله : «بِمَا أتاكُمْ » به ، ولم يردّه إلى أنه خبر عن الله .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان صحيح معناهما ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وإن كنت أختار مدّ الألف لكثرة قارئي ذلك كذلك ، وليس للذي اعتلّ به منه معتلو قارئيه بقصر الألف كبير معنى ، لأن ما جعل من ذلك خبرا عن الله ، وما صرف منه إلى الخبر عن غيره ، فغير خارج جميعه عند سامعيه من أهل العلم أنه من فعل الله تعالى ، فالفائت من الدنيا من فاته منها شيء ، والمدرك منها ما أدرك عن تقدّم الله عزّ وجلّ وقضائه ، وقد بين ذلك جلّ ثناؤه لمن عقل عنه بقوله : ما أصَابَ مِنْ مُصيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أنْفُسِكُم إلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرَأَها فأخبر أن الفائت منها بإفاتته إياهم فاتهم ، والمدرك منها بإعطائه إياهم أدركوا ، وأن ذلك محفوظ لهم في كتاب من قبل أن يخلقهم .
وقوله : واللّهَ لا يُحِبّ كُلّ مُختالٍ فَخورٍ يقول : والله لا يحبّ كلّ متكبر بما أوتي من الدنيا ، فخور به على الناس .
وقوله تعالى : { لكي لا تأسوا } معناه : فعل الله ذلك كله وأعلمكم به ليكون سبب تسليمكم وقلة اكتراثكم بأمر الدنيا ، فلا تحزنوا على ما فات ، ولا تفرحوا الفرح المبطر بما آتاكم منها . قال ابن عباس : ليس أحد إلا يفرح ويحزن ، ولكن من أصابته مصيبة يجعلها صبراً ، من أصاب خيراً يجعله شكراً .
وقرأ أبو عمرو وحده : «أتاكم » على وزن مضى ، وهذا ملائم لقوله : { فاتكم } . وقرأ الباقون من السبعة : «آتاكم » ، على وزن أعطاكم ، بمعنى آتاكم الله تعالى ، وهي قراءة الحسن والأعرج وأهل مكة . وقرأ ابن مسعود : «أوتيتم » ، وهي تؤيد قراءة الجمهور .
وقوله تعالى : { والله لا يحب كل مختال فخور } يدل على أن الفرح المنهي عنه إنما هو ما أدى إلى الاختيال ، والفخر بنعم الله المقترن بالشكر والتواضع فأمر لا يستطيع أحد دفعه عن نفسه ولا حرج فيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.