الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ} (23)

{ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } فذكر الحالتين جميعاً : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } يعني : اللوح المحفوظ { مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } : من قبل أن نخلق الأرض والأنفس .

وقال ابن عباس : يعني المصيبة .

وقال أبو العالية : يعني النسَمَة { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } إن خلق ذلك وحفظه على الله هيّن .

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن مخلد قال : أخبرنا داود قال : حدّثنا عبيد قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا الربيع بن أبي صالح قال : دخلت على سعيد بن جبير في نفر فبكى رجل من القوم ، فقال : ما يبكيك ؟ قال : أبكي لما أرى بك ولما يذهب بك إليه . قال : فلا تبكِ ، فإنّه كان في علم الله سبحانه أن يكون ، ألم تسمع إلى قول الله عزّ وجلّ : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ } الآية .

{ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ } : تحزنوا { عَلَى مَا فَاتَكُمْ } من الدنيا ، { وَلاَ تَفْرَحُواْ } : تبطروا { بِمَآ آتَاكُمْ } . قراءة العامّة بمدّ الألف ، أي ( أعطاكم ) ، واختاره أبو حاتم .

وقرأ أبو عمرو بقصر الألف أي : ( جاءكم ) ، واختاره أبو عبيد ، قال : لقوله سبحانه : { فَاتَكُمْ } ولم يقل : ( أفاتكم ) فجعل له ، فكذلك ( أتاكم ) جعل الفعل له ليوافق الكلام بعضه بعضاً .

قال عكرمة : ما من أحد إلاّ وهو يفرح ويحزن فاجعلوا للفرح شكراً وللحزن صبراً .

{ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } : متكبّر بما أُوتي من الدنيا ، فخور به على الناس .

وقال ابن مسعود : لأن ألحسَ جمرة أحرقت ما أحرقت ، وأبقت ما أبقت ، أحبّ إليّ من أن أقول لشيء كان : ليته لم يكن ، أو لشيء لم يكن : ليته كان .

قال جعفر الصادق : " يا بن آدم ، مالك تأسّف على مفقود لا يردّه إليك الفوت ؟ ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت ؟ " .

وقيل لبزرجمهر : ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت ؟ فقال : لأنّ الفائت لا يتلافى بالعبرة ، والآتي لا يستدام بالحبرة .

وقال الفضيل في هذا المعنى : الدنيا مفيد ومبيد فما أباد فلا رجعة له ، وما أفاد فقد أذن بالرحيل .

وقال الحسين بن الفضل : حمل الله سبحانه بهذه الآية المؤمنين على مضض الصبر على الفائت ، وترك الفرح بالآتي ، والرضا بقضائه في الحالتين جميعاً .

وقال قتيبة بن سعيد : دخلت بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء من الأرض مملوء من الإبل الموتى والجيف بحيث لا أُحصي عددها ، فسألت عجوزاً : لمن كانت هذه الإبل ؟ فأشارت إلى شيخ على تلّ يغزل صوفاً ، فقلت له : يا شيخ ألك كانت هذه الإبل ؟ قال : كانت باسمي . قلت : فما أصابها ؟ قال : ارتجعها الذي أعطاها . قلت : وهل قلت في ذلك شيئاً ؟ قال : نعم :

لا والذي أخذ [ . . . ] من خلائقه *** والمرء في الدهر نصب الرزء والمحنِ

ما سرّني أنّ إبْلي في مباركها *** وما جرى في قضاء الله لم يكنِ

وقال سلم الخوّاص : من أراد أن يأكل الدارين فليدخل في مذهبنا عامين ؛ ليضع الله سبحانه الدنيا والآخرة بين يديه . قيل : وما مذهبكم ؟ قال : الرضا بالقضا ، ومخالفة الهوى . وأنشد :

لا تطل الحزن على فائت *** فقلّما يجدي عليك الحزنْ

سيّان محزون على ما مضى *** ومظهرٌ حزناً لما لم يكنْ