قوله : { مِن مُّصِيبَةٍ } فاعل «أصاب » ، و«من » مزيدة لوجود الشرطين ، وذكر فعلها ؛ لأن التأنيث مجازي .
قوله : { فِي الأرض } يجوز أن يتعلق ب «أصاب » ، وأن يتعلق بنفس «مصيبة » ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «مصيبة » ، وعلى هذا فيصلح أن يحكم على موضعه بالجر نظراً إلى لفظ موصوفه ، وبالرفع نظراً إلى محله ، إذ هو فاعل .
وقيل : المراد بها جميع الحوادث من خير وشر ، وعلى الأول يقال : لم ذكرت دون الخير ؟
وأجيب{[55433]} : بأنه إنما خصها بالذكر ؛ لأنها أهمّ على البشر .
قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } حال من «مصيبة » ، وجاز ذلك وإن كانت نكرة لتخصصها إما بالعمل ، أو بالصفة ، أي : إلا مكتوبة .
قوله : «مِنْ قَبْلِ » نعت ل «كتابٍ » ، ويجوز أن يتعلق به . قاله أبو البقاء{[55434]} . لأنه هنا اسم للمكتوب ، وليس بمصدر .
والضمير في «نَبْرأها » الظاهر عوده على المصيبة .
وقيل : على الأرض ، أي على جميع ذلك . قاله المهدوي ، وهو حسن .
قال الزجاج{[55435]} : إنه - تعالى - لما قال : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } وبين أن المؤدي إلى الجنة لا يكون إلا بقضاء الله تعالى وقدره ، فقال : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } .
والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله ، والمصيبة في الأرض قَحْط المطر ، وقلّة النبات ، ونقص الثِّمار ، وغلاء الأسعار ، وتتابع الجوائح .
وأما المصيبة في الأنفس فقيل{[55436]} : هي الأمراض ، والفقر ، وذهاب الأولاد ، وإقامة الحدود عليها .
وقيل : ضيق المعاش وقيل : الخير والشَّر أجمع ، لقوله بعد ذلك : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ } .
وقوله : { إلا في كتابٍ } يعني : مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ{[55437]} .
وقوله : { من قبل أن نَبْرَأها } .
قال ابن عباس : من قبل أن نخلق المصيبة{[55438]} .
وقال سعيد بن جبير : من قبل أن نخلق الأرض والنفس{[55439]} .
{ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } أي : خلق ذلك ، وحفظه على الله يسير أي : هيّن{[55440]} .
قال الربيع بن صالح : لما أُخذ سعيد بن جبيرٍ - رضي الله عنه - بَكَيْتُ ، قال : ما يبكيك ؟ قلت : أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه ، قال : فلا تَبْكِ ، فإنه كان في علم الله - تعالى - أن يكون ، ألم تسمع قوله تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } الآية{[55441]} .
قال ابن عباس : لما خلق الله القلم ، قال له : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة{[55442]} .
وقد ترك جماعة من السلف الدواء في أمراضهم ، فلم يستعملوه ثقةً بربهم وتوكلاً عليه ، وقالوا : قد علم الله أيام المرض وأيام الصِّحة ، فلم حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا ، قال الله تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } الآية ، ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام : «مَنْ عَرَفَ يُسْرَ اللَّهِ في القَدَر هَانَتْ عليْهِ المَصَائِبُ » .
فصل في اتصال الآية بسياق الآيات قبلها{[55443]}
قيل : إن هذه الآية نزلت متّصلة بما قبلها ، وهو أن الله - تعالى - هوَّن عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح ، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال ، وما يقع فيها من خسران ، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له ، وإنما على المرء امتثال الأمر ، ثم أدبهم فقال : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ } أي : حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق ، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم ييأسوا على ما فاتهم منه .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : «لاَ يَجِدُ أحَدكُمْ طَعْمَ الإيمانِ حتَّى يعْلمَ أنَّ ما أصابهُ لَمْ يَكُنْ ليُخْطِئَهُ ، ومَا أخطَأهُ لَمْ يَكُنْ ليُصِيبَهُ » ، ثمَّ قرأ : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ }{[55444]} أي من الدنيا . قاله ابن عباس رضي الله عنهما .
فصل في أن ما كان وما يكون مكتوب في اللوح المحفوظ
قال ابن الخطيب{[55445]} : هذه الآية تدلّ على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللَّوح المحفوظ .
قال المتكلمون : وإنما كتب ذلك لوجوه :
أحدها : ليستدلّ الملائكة بذلك المكتوب على كونه - تعالى - على علم بجميع الأشياء قبل وقوعها .
وثانيها : ليعرفوا حكمة الله ، فإنه - تعالى - مع علمه بأنهم يقدمون على المعاصي خلقهم ورزقهم .
وثالثها : ليحذروا من أمثال تلك المعاصي .
ورابعها : ليشكروا الله - تعالى - على توفيقه إياهم للطَّاعات ، وعصمته إياهم عن المعاصي .
قال ابن الخطيب{[55446]} : إن الحكماء قالوا : إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبِّرات أمراً ، والمقسمات أمراً ، إنما هي المبادئ لحدوث الحوادث في العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية ، والاتصالات الكوكبية ، وتغيراتها هي الأسباب لتلك المسببات ، وهذا هو المراد من قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } .
فصل في مصائب الأنفس{[55447]}
قوله تعالى : { وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } يتناول جميع مصائب الأنفس ، فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم ، فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبةٌ في اللوح المحفوظ مثبتة في علم الله تعالى ، فكان الامتناع من تلك الأعمال محال ؛ لأن علم الله بوجودها مُنَافٍ لعدمها والجمع بين المتنافيين محال ، وخصص مصائب الأرض والأنفس لتعلّقها بنا ، ولم يقل : جميع الحوادث لشمولها حركات أهل الجنة والنار ؛ لأنها غير متناهية ، فإثباتها في الكتاب محال .
قال ابن الخطيب : {[55448]} وفي الآية دليلٌ على أن الله - تعالى - يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافاً ل «هشام بن الحكم » .
قوله تعالى : { لِّكَيْلاَ } . هذه «اللام » متعلقة بقوله «ما أصَابَ » ، أي : أخبرناكم بذلك لكيلا يحصل لكم الحزن المقنط والمفرح المطغي فأما ما دون ذلك فالإنسان غير مؤاخذ به ، و«كي » هنا ناصبة بنفسها ، فهي مصدرية فقط لدخول لام الجر عليها{[55449]} .
وقرأ أبو عمرو{[55450]} : «بما أتاكم » مقصوراً من الإتيان ، أي : بما جاءكم .
قال أبو علي الفارسي{[55451]} : لأن «أتاكم » معادل لقوله «فَاتَكُم » ، فكما أنَّ الفعل للفائت في قوله : «فاتكم » ، فكذلك الفعل الثاني في قوله : «بما أتاكم » .
وقرأ باقي السبعة : «آتاكم » ممدوداً من «الإيتاء » ، أي : بما أعطاكم الله إياه .
والعائد إلى الموصول في الكلمتين في الذكر المرفوع بأنه فاعل ، و«الهاء » محذوفة من الصِّلة ، أي : بما آتاكموه .
وقرأ عبد الله{[55452]} : «بما أوتيتم » .
فصل في أن حزن المؤمن صبر وفرحه شكر{[55453]}
قال ابن عبَّاس : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً ، والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز{[55454]} .
وقال جعفر بن محمد : يا ابن آدم ما لك تأسف على مقدر{[55455]} لا يردّه عليك الفَوْت ، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت .
وقيل ل «بزرجمهر » : أيها الحكيم ، ما لك لا تحزن على ما فات ، ولا تفرح بما هو آتٍ ؟ قال : لأن الفائت لا يتلافى بالعبرةِ ، والآتي لا يستدام بالحَبْرةِ .
وقوله : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي : متكبر بما أوتي من الدنيا .
«فخور » به على النَّاس ، قيل : الفخور الذي ينظر الناس بعين الاحتقار .
فصل فيمن قالوا بالإرادة والجبر
قال ابن الخطيب{[55456]} : المعتزلة وإن نازعوا في القدرة والإرادة ، فهم مسلمون في العلم والجبر ، فيلزمهم الجبر باعتبارهما .
والفلاسفة مذهبهم الجَبْر ؛ لأن سبب الحوادث عندهم الاتصالات الفلكية .
والقدرية قالوا : بأن الحوادث اتفاقية ، فجميع فرق العقلاء يلزمهم الجبر ، سواء أقروا به أو أنكروه .
فصل في إرادة العبد الحزن والفرح
قالت المعتزلة{[55457]} : قوله : { لِّكَيْلاَ تَأْسَواْ } يدل على أنه إنما أخبرهم بكتبها ليحترزوا عن الحزن والفرح ، ولولا قدرتهم عليه لم يكن لذلك فائدة ، ويدل على أنه لا يريد أن يقع منهم الفرح والحزن ، وهو خلاف قول المجبرة ؛ لأنه قال : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } والمحبة هي الإرادة .
وأجيبوا بأن المحبة هي إرادة خاصة وهي إرادة الثواب ، ولا يلزم من نفيها نفي الإرادة .