اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ} (23)

قوله : { مِن مُّصِيبَةٍ } فاعل «أصاب » ، و«من » مزيدة لوجود الشرطين ، وذكر فعلها ؛ لأن التأنيث مجازي .

قوله : { فِي الأرض } يجوز أن يتعلق ب «أصاب » ، وأن يتعلق بنفس «مصيبة » ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «مصيبة » ، وعلى هذا فيصلح أن يحكم على موضعه بالجر نظراً إلى لفظ موصوفه ، وبالرفع نظراً إلى محله ، إذ هو فاعل .

والمصيبة غلبت في الشَّر .

وقيل : المراد بها جميع الحوادث من خير وشر ، وعلى الأول يقال : لم ذكرت دون الخير ؟

وأجيب{[55433]} : بأنه إنما خصها بالذكر ؛ لأنها أهمّ على البشر .

قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } حال من «مصيبة » ، وجاز ذلك وإن كانت نكرة لتخصصها إما بالعمل ، أو بالصفة ، أي : إلا مكتوبة .

قوله : «مِنْ قَبْلِ » نعت ل «كتابٍ » ، ويجوز أن يتعلق به . قاله أبو البقاء{[55434]} . لأنه هنا اسم للمكتوب ، وليس بمصدر .

والضمير في «نَبْرأها » الظاهر عوده على المصيبة .

وقيل : على الأنفس .

وقيل : على الأرض ، أي على جميع ذلك . قاله المهدوي ، وهو حسن .

فصل في مناسبة الآية لما قبلها

قال الزجاج{[55435]} : إنه - تعالى - لما قال : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } وبين أن المؤدي إلى الجنة لا يكون إلا بقضاء الله تعالى وقدره ، فقال : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } .

والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله ، والمصيبة في الأرض قَحْط المطر ، وقلّة النبات ، ونقص الثِّمار ، وغلاء الأسعار ، وتتابع الجوائح .

وأما المصيبة في الأنفس فقيل{[55436]} : هي الأمراض ، والفقر ، وذهاب الأولاد ، وإقامة الحدود عليها .

وقيل : ضيق المعاش وقيل : الخير والشَّر أجمع ، لقوله بعد ذلك : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ } .

وقوله : { إلا في كتابٍ } يعني : مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ{[55437]} .

وقوله : { من قبل أن نَبْرَأها } .

قال ابن عباس : من قبل أن نخلق المصيبة{[55438]} .

وقال سعيد بن جبير : من قبل أن نخلق الأرض والنفس{[55439]} .

{ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } أي : خلق ذلك ، وحفظه على الله يسير أي : هيّن{[55440]} .

قال الربيع بن صالح : لما أُخذ سعيد بن جبيرٍ - رضي الله عنه - بَكَيْتُ ، قال : ما يبكيك ؟ قلت : أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه ، قال : فلا تَبْكِ ، فإنه كان في علم الله - تعالى - أن يكون ، ألم تسمع قوله تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } الآية{[55441]} .

قال ابن عباس : لما خلق الله القلم ، قال له : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة{[55442]} .

وقد ترك جماعة من السلف الدواء في أمراضهم ، فلم يستعملوه ثقةً بربهم وتوكلاً عليه ، وقالوا : قد علم الله أيام المرض وأيام الصِّحة ، فلم حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا ، قال الله تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } الآية ، ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام : «مَنْ عَرَفَ يُسْرَ اللَّهِ في القَدَر هَانَتْ عليْهِ المَصَائِبُ » .

فصل في اتصال الآية بسياق الآيات قبلها{[55443]}

قيل : إن هذه الآية نزلت متّصلة بما قبلها ، وهو أن الله - تعالى - هوَّن عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح ، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال ، وما يقع فيها من خسران ، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له ، وإنما على المرء امتثال الأمر ، ثم أدبهم فقال : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ } أي : حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق ، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم ييأسوا على ما فاتهم منه .

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : «لاَ يَجِدُ أحَدكُمْ طَعْمَ الإيمانِ حتَّى يعْلمَ أنَّ ما أصابهُ لَمْ يَكُنْ ليُخْطِئَهُ ، ومَا أخطَأهُ لَمْ يَكُنْ ليُصِيبَهُ » ، ثمَّ قرأ : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ }{[55444]} أي من الدنيا . قاله ابن عباس رضي الله عنهما .

فصل في أن ما كان وما يكون مكتوب في اللوح المحفوظ

قال ابن الخطيب{[55445]} : هذه الآية تدلّ على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللَّوح المحفوظ .

قال المتكلمون : وإنما كتب ذلك لوجوه :

أحدها : ليستدلّ الملائكة بذلك المكتوب على كونه - تعالى - على علم بجميع الأشياء قبل وقوعها .

وثانيها : ليعرفوا حكمة الله ، فإنه - تعالى - مع علمه بأنهم يقدمون على المعاصي خلقهم ورزقهم .

وثالثها : ليحذروا من أمثال تلك المعاصي .

ورابعها : ليشكروا الله - تعالى - على توفيقه إياهم للطَّاعات ، وعصمته إياهم عن المعاصي .

فصل في كيفية حدوث الأحداث

قال ابن الخطيب{[55446]} : إن الحكماء قالوا : إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبِّرات أمراً ، والمقسمات أمراً ، إنما هي المبادئ لحدوث الحوادث في العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية ، والاتصالات الكوكبية ، وتغيراتها هي الأسباب لتلك المسببات ، وهذا هو المراد من قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } .

فصل في مصائب الأنفس{[55447]}

قوله تعالى : { وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } يتناول جميع مصائب الأنفس ، فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم ، فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبةٌ في اللوح المحفوظ مثبتة في علم الله تعالى ، فكان الامتناع من تلك الأعمال محال ؛ لأن علم الله بوجودها مُنَافٍ لعدمها والجمع بين المتنافيين محال ، وخصص مصائب الأرض والأنفس لتعلّقها بنا ، ولم يقل : جميع الحوادث لشمولها حركات أهل الجنة والنار ؛ لأنها غير متناهية ، فإثباتها في الكتاب محال .

قال ابن الخطيب : {[55448]} وفي الآية دليلٌ على أن الله - تعالى - يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافاً ل «هشام بن الحكم » .

قوله تعالى : { لِّكَيْلاَ } . هذه «اللام » متعلقة بقوله «ما أصَابَ » ، أي : أخبرناكم بذلك لكيلا يحصل لكم الحزن المقنط والمفرح المطغي فأما ما دون ذلك فالإنسان غير مؤاخذ به ، و«كي » هنا ناصبة بنفسها ، فهي مصدرية فقط لدخول لام الجر عليها{[55449]} .

وقرأ أبو عمرو{[55450]} : «بما أتاكم » مقصوراً من الإتيان ، أي : بما جاءكم .

قال أبو علي الفارسي{[55451]} : لأن «أتاكم » معادل لقوله «فَاتَكُم » ، فكما أنَّ الفعل للفائت في قوله : «فاتكم » ، فكذلك الفعل الثاني في قوله : «بما أتاكم » .

وقرأ باقي السبعة : «آتاكم » ممدوداً من «الإيتاء » ، أي : بما أعطاكم الله إياه .

والعائد إلى الموصول في الكلمتين في الذكر المرفوع بأنه فاعل ، و«الهاء » محذوفة من الصِّلة ، أي : بما آتاكموه .

وقرأ عبد الله{[55452]} : «بما أوتيتم » .

فصل في أن حزن المؤمن صبر وفرحه شكر{[55453]}

قال ابن عبَّاس : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً ، والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز{[55454]} .

وقال جعفر بن محمد : يا ابن آدم ما لك تأسف على مقدر{[55455]} لا يردّه عليك الفَوْت ، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت .

وقيل ل «بزرجمهر » : أيها الحكيم ، ما لك لا تحزن على ما فات ، ولا تفرح بما هو آتٍ ؟ قال : لأن الفائت لا يتلافى بالعبرةِ ، والآتي لا يستدام بالحَبْرةِ .

وقوله : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي : متكبر بما أوتي من الدنيا .

«فخور » به على النَّاس ، قيل : الفخور الذي ينظر الناس بعين الاحتقار .

فصل فيمن قالوا بالإرادة والجبر

قال ابن الخطيب{[55456]} : المعتزلة وإن نازعوا في القدرة والإرادة ، فهم مسلمون في العلم والجبر ، فيلزمهم الجبر باعتبارهما .

والفلاسفة مذهبهم الجَبْر ؛ لأن سبب الحوادث عندهم الاتصالات الفلكية .

والقدرية قالوا : بأن الحوادث اتفاقية ، فجميع فرق العقلاء يلزمهم الجبر ، سواء أقروا به أو أنكروه .

فصل في إرادة العبد الحزن والفرح

قالت المعتزلة{[55457]} : قوله : { لِّكَيْلاَ تَأْسَواْ } يدل على أنه إنما أخبرهم بكتبها ليحترزوا عن الحزن والفرح ، ولولا قدرتهم عليه لم يكن لذلك فائدة ، ويدل على أنه لا يريد أن يقع منهم الفرح والحزن ، وهو خلاف قول المجبرة ؛ لأنه قال : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } والمحبة هي الإرادة .

وأجيبوا بأن المحبة هي إرادة خاصة وهي إرادة الثواب ، ولا يلزم من نفيها نفي الإرادة .


[55433]:ينظر: الدر المصون 6/279.
[55434]:ينظر: الإملاء 2/1210.
[55435]:ينظر: معاني القرآن للفراء وإعرابه 5/128، والفخر الرازي 29/206.
[55436]:ينظر: الفخر الرازي 29/206.
[55437]:القرطبي 17/167.
[55438]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/299) والقرطبي (17/167).
[55439]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/167) عن سعيد بن جبير.
[55440]:ينظر: القرطبي (17/167).
[55441]:ينظر: القرطبي في "تفسيره" (17/167) عن سعيد بن جبير.
[55442]:تقدم تخريجه.
[55443]:ينظر: القرطبي (17/167).
[55444]:أخرجه أحمد (6/441) وابن أبي عاصم في "السنة" (1/110) رقم (246) من حديث أبي الدرداء. وأخرجه ابن أبي عاصم (1/110) رقم (247) من حديث أنس. وذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (629) عن أنس وعزاه إلى ابن أبي عاصم.
[55445]:ينظر: التفسير الكبير للفخر الرازي 29/206.
[55446]:السابق نفسه
[55447]:السابق 29/207.
[55448]:التفسير الكبير 29/207.
[55449]:ينظر: الدر المصون 6/280.
[55450]:ينظر: السبعة 626، والحجة 6/275، وإعراب القراءات 2/352، والعنوان 186، وحجة القراءات 701، وشرح شعلة 599، وشرح الطيبة 6/41، وإتحاف 2/523.
[55451]:ينظر: الحجة 6/275.
[55452]:ينظر: الكشاف 4/480، والمحرر الوجيز 5/268، والبحر المحيط 8/224، والدر المصون 6/280.
[55453]:ينظر: القرطبي 17/167.
[55454]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/687) والحاكم (2/479) والبيهقي في "شعب الإيمان" (7/141) رقم (9771) من طريق سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/257) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
[55455]:في ب: مفقود.
[55456]:ينظر: التفسير الكبير للرازي 29/208.
[55457]:ينظر: السابق.