قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم } أمام مناجاتكم ، { صدقة } قال ابن عباس : وذلك أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثروا حتى شقوا عليه ، فأراد الله أن يخفف على نبيه ويثبطهم ويردعهم عن ذلك فأمرهم أن يقدموا صدقة على المناجاة مع النبي صلى الله عليه وسلم . وقال مقاتل بن حيان : نزلت في الأغنياء ، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس ، حتى كره النبي صلى الله عليه وسلم طول جلوسهم ومناجاتهم ، فلما رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئاً وأما أهل الميسرة فضنوا واشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الرخصة . قال مجاهد : نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا ، فلم يناجه إلا علي رضي الله عنه ، تصدق بدينار وناجاه ، ثم نزلت الرخصة فكان علي رضي الله عنه يقول : آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي وهي آية المناجاة . وروي عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما ترى ديناراً ؟ قلت : لا يطيقونه ، قال : فكم ؟ قلت : حبة أو شعيرة ، قال : إنك لزهيد ، فنزلت :{ أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } ، قال علي رضي الله تعالى عنه : فبي قد خفف الله عن هذه الأمة . { ذلك خير لكم } يعني : تقديم الصدقة على المناجاة ، { وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم } يعني الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به معفو عنهم .
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : يساره فيما بينه وبينه ، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام ؛ ولهذا قال :{ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ } {[28450]} ، ثم قال :{ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا } أي : إلا من عجز عن ذلك لفقده{ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فما أمر بها إلا من قدر عليها .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لّمْ تَجِدُواْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ياأيها الذين صدقوا الله ورسوله ، إذا ناجيتم رسول الله ، فقدّموا أمام نجواكم صدقة تتصدّقون بها على أهل المسكنة والحاجة ذَلكَ خَيْرٌ لَكُمْ يقول : وتقديمكم الصدقة أمام نجواكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خير لكم عند الله وأطْهَرُ لقلوبكم من المآثم ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثني محمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً }قال : نُهُوا عن مناجاة النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يتصدّقوا ، فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، قدّم دينارا فتصدّق به ، ثم أنزلت الرّخصة في ذلك .
حدثنا محمد بن عبيد بن محمد المحاربي ، قال : حدثنا المطلب بن زياد ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : قال عليّ رضي الله عنه : إن في كتاب الله عزّ وجلّ لاَية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة }قال : فُرضت ، ثم نُسخت .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شبل بن عباد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة }قال : نهوا عن مناجاة النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يتصدّقوا ، فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، قدّم دينارا صدقةً تصدّق به ، ثم أنزلت الرخصة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، قال : قال عليّ رضي الله عنه : آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم ، فنسخت فلم يعمل بها أحد قبلي { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً }قال : سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ، فوعظهم الله بهذه الآية . وكان الرجل تكون له الحاجة إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدّم بين يديه صدقة ، فاشتد ذلك عليهم ، فأنزل الله عزّ وجل الرخصة بعد ذلك { فإنْ لَمْ تَجِدُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً }قال : إنها منسوخة ما كانت إلا ساعة من نهار .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً . . . إلى فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }قال : كان المسلمون يقدّمُونَ بين يدي النجوى صدقة ، فلما نزلت الزكاة نُسخ هذا .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً }وذاك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن نبيه فلما قال ذلك صبر كثير من الناس ، وكفوا عن المسألة ، فأنزل الله بعد هذا { فإذَا لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فأَقِيمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ } فوسّع الله عليهم ، ولم يضيق .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عثمان بن أبي المغيرة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن عليّ بن علقمة الأنماريّ ، عن عليّ ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ما تَرَى ؟ دِينارٌ ؟ » قال : لا يطيقون ، قال : «نِصْفُ دِينارٍ ؟ » قال : «ما تَرَى ؟ » قال : شعيرة ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّكَ لَزَهِيدٌ » قال عليّ رضي الله عنه : فبي خفف الله عن هذه الأمة ، وقوله : { إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً }فنزلت { أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقاتٍ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } لئلا يناجي أهل الباطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيشُقّ ذلك على أهل الحقّ ، قالوا : يا رسول الله ما نستطيع ذلك ولا نطيقه ، فقال الله عزّ وجلّ : { أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقاتٍ فإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فأقِيمُوا الصّلاَةَ وآتُوا الزّكاةَ } وقال : { لا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ، إلاّ مَنْ أمَرَ بِصدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ } ، من جاء يناجيك في هذا فاقبل مناجاته ، ومن جاء يناجيك في غير هذا فاقطع أنت ذاك عنه لا تناجه . قال : وكان المنافقون ربما ناجوا فيما لا حاجة لهم فيه ، فقال الله عزّ وجلّ : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ نَهُوا عَنِ النّجْوَى ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بالإثْم والعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ }قال : لأن الخبيث يدخل في ذلك .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا : قال في المجادلة : { إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة ذلكَ خَيْرٌ لَكُمْ وأطْهَرُ فإنْ لَمْ تَجدُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }فنسختها الآية التي بعدها ، فقال : { أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقاتٍ فإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فأقِيمُوا الصّلاة وآتُوا الزّكاةَ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
وقوله : { فإنْ لَمْ تَجِدُوا }يقول تعالى ذكره : فإن لم تجدوا ما تتصدّقُون به أمام مناجاتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم { فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }يقول : فإن الله ذو عفو عن ذنوبكم إذا تبتم منها ، رحيم بكم أن يعاقبكم عليها بعد التوبة ، وغير مؤاخذكم بمناجاتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تقدّموا بين يدي نجواكم إياه صدقة .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } ، فتصدقوا قدامها مستعار ممن له يدان ، وفي هذا الأمر تعظيم الرسول وإنفاع الفقراء والنهي عن الإفراط في السؤال والميز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ، واختلف في أنه للندب أو للوجوب لكنه منسوخ بقوله :{ أأشفقتم } ، وهو إن اتصل به تلاوة لم يتصل به نزولا ، وعن علي كرم الله وجهه إن في كتاب الله آية ما عمل بها أحد غيري كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم وهو على القول بالوجوب لا يقدح في غيره فلعله لم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقائه ، إذ روي أنه لم يبق إلا عشرا وقيل إلا ساعة ، { ذلك }أي ذلك التصدق خير لكم { وأطهر }أي لأنفسكم من الريبة وحسب المال وهو يشعر بالندبية لكن قوله { فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم }أي لمن لم يجده حيث رخص له في المناجاة بلا تصدق أدل على الوجوب .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول } الآية . روي عن ابن عباس وقتادة في سببها أن قوماً من شباب المؤمنين وأغفالهم كثرت مناجاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمحاً لا يرد أحداً ، فنزلت هذه الآية مشددة عليهم أمر المناجاة ، وقال مقاتل : نزلت في الأغنياء لأنهم غلبوا الفقراء على مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم . وقال جماعة من الرواة : لم يعمل بهذه الآية بل نسخت قبل العمل لكن استقر حكمها بالعزم عليه كأمر إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه ، وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : ما عمل بها أحد غيري وأنا كنت سبب الرخصة والتخفيف عن المسلمين وذلك أني أردت مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر ضروري فصرفت ديناراً بعشرة دراهم ، ثم ناجيته عشر مرار أقدم في كل مرة درهماً ، وروي عنه أنه تصدق في كل مرة بدينار ، فقال علي ثم فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه العبادة قد شقت على الناس فقال لي يا علي : كم ترى أن يكون حد هذه الصدقة ، أتراه ديناراً ؟ ، قلت : لا ، قال نصف دينار ، قلت : لا ، قال فكم : قلت حبة من شعير قال إنك لزهيد ، فأنزل الله الرخصة .
قال القاضي أبو محمد : يريد للواجد وأما من لا يجد فالرخصة له ثابتة أولاً بقوله تعالى :{ فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم }{[11013]} . وقال مقاتل : بقي هذا الحكم عشرة أيام ، وقال قتادة : بقي ساعة من نهار ، وقرأ جمهور من الناس : «صدقة » بالإفراد ، وقرأ بعض القراء «صدقات » بالجمع .