نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةٗۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (12)

ولما نهى عما يحزن من {[63360]}المقال والمقام{[63361]} ، وكان المنهي عنه من التناجي إنما هو لحفظ قلب الرسول صلى الله عليه وسلم عما يكدره فهو منصرف إلى مناجاتهم غيره ، وكان ذلك مفهماً أن مناجاتهم له صلى الله عليه وسلم لا حرج فيها ، وكان كثير منهم يناجيه ولا قصد له إلا الترفع بمناجاته فأكثروا في ذلك حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم ، وكان النافع للإنسان إنما هو كلام من يلائمه في الصفات ويشاكله في الأخلاق ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد الناس من الدنيا تقذراً لها لأجل بغض الله لها ، أمر من أراد أن يناجيه بالتصدق ليكون ذلك{[63362]} أمارة على {[63363]}الاجتهاد {[63364]}في التخلق{[63365]} بأخلاقه الطاهرة من الصروف عن {[63366]}الدنيا والإقبال على الله ، ومظهراً له عما سلف من الإقبال عليها{[63367]} فإن الصدقة برهان على الصدق في الإيمان ، وليخفف عنه صلى الله عليه وسلم ما كانوا قد أكثروا عليه من المناجاة ، فلا يناجيه إلا من قد خلص{[63368]} إيمانه فيصدق ، فيكون ذلك مقدمة لانتفاعه بتلك المناجاة كما أن الهدية تكون مهيئة للقبول كما ورد " نعم الهدية أمام الحاجة{[63369]} " فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } أي ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة أغنياء كانوا أو فقراء { إذا ناجيتم } أي أردتم أن تناجوا { الرسول } صلى الله عليه وسلم أي الذي لا أكمل منه في الرسلية{[63370]} ، فهو أكمل الخلق ووظيفته تقتضي أن يكون منه الكلام بما أرسله به الملك وتكون هيبته مانعة من ابتدائه بالكلام ، فلا يكون من المبلغين إلا الفعل بالامتثال لا غير { فقدموا } أي بسبب هذه الإرادة العالية{[63371]} على سبيل الوجوب ومثل النجوى كشخص{[63372]} له يدان يحتاج أن يطهر نفسه ليتأهل للقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم فقال{[63373]} : { بين يدي نجواكم } أي قبل سركم الذي تريدون أن ترتفعوا به { صدقة } تكون لكم{[63374]} برهاناً قاطعاً على إخلاصكم كما ورد أن الصدقة برهان ، فهي مصدقة لكم في دعوى الإيمان التي هي التصديق بالله تعالى ورسوله{[63375]} صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به عن الله تعالى ، ومعظمه الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، ولذلك{[63376]} استأنف{[63377]} قوله : { ذلك } أي الخلق العالي جداً من تقديم التصدق قبل المناجاة يا خير الخلق ، ولعله أفرده بالخطاب لأنه لا يعلم كل ما فيه من الأسرار غيره .

وعاد إلى الأول فقالك { خير لكم } أي في دينكم من الإمساك عن الصدقة { وأطهر } لأن الصدقة طهرة ونماء وزيادة في كل خير ، ولذلك{[63378]} سميت زكاة { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } والتعبير بأفعل لأنهم مطهرون قبله{[63379]} بالإيمان .

ولما أمر بذلك ، وكانت عادته أن لا يكلف بما فوق الوسع للتخفيف على عباده لا سيما هذه الأمة قال :{ فإن لم تجدوا } أي ما تقدمونه .

ولما كان المعنى الكافي في التخفيف : فليس عليكم شيء ، دل عليه بأحسن منه فقال :{ فإن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال ، وأكده لاستبعاد مثله فإن المعهود من الملك إذا ألزم رعيته{[63380]} بشيء أنه لا يسقطه{[63381]} أصلاً ورأساً ، ولا سيما إن كان يسيراً ، ودل على أنه سبحانه لن يكلف بما فوق الطاقة بقوله :{ غفور رحيم * } أي له صفتا{[63382]} الستر للمساوئ والإكرام بإظهار المحاسن ثابتتان{[63383]} على الدوام فهو يغفر ويرحم تارة بعدم العقاب للعاصي{[63384]} ، وتارة للتوسعة للضيق بأن ينسخ ما يشق إلى ما يخف{[63385]} ، وهذه الآية قيل : إنها نسخت قبل العمل بها ، وقال علي رضي الله عنه{[63386]} : ما عمل بها أحد غيري ، أردت المناجاة ولي دينار فصرفته بعشرة دراهم وناجيته عشر مرات أتصدق في كل مرة بدرهم ، ثم ظهرت مشقة ذلك على الناس ، فنزلت الرخصة في ترك الصدقة ، " وروى النسائي في الكبرى والترمذي{[63387]} وقال : حسن غريب وابن حبان وأبو يعلى والبزار{[63388]} عن علي رضي الله عنه أنه قال : لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مرهم أن يتصدقوا " . قلت : بكم يا رسول الله ؟ قال : " بدينار " ، قلت : لا يطيقون . قال : " فنصف دينار " ، قلت : لا يطيقون ، قال : " فبكم ؟ " قلت{[63389]} : بشعيرة : قال{[63390]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك لزهيد " ، فأنزل الله تعالى { أأشفقتم } الآية . وكان علي رضي الله عنه يقول : بي خفف الله عن هذه الأمة . وعدم عمل غيره لا يقدح فيه لاحتمال أن يكون لم يجد عند{[63391]} المناجاة شيئاً أو أن لا{[63392]} يكون احتاج إلى المناجاة .


[63360]:- من م، وفي الأصل وظ: المقام والمقال.
[63361]:- من م، وفي الأصل وظ: المقام والمقال.
[63362]:- من ظ م، وفي الأصل: إشارة إلى.
[63363]:- من ظ م، وفي الأصل: إشارة إلى.
[63364]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالتخلق.
[63365]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالتخلق.
[63366]:- من ظ وم، وفي الأصل: إلى.
[63367]:- زيد من ظ و م.
[63368]:- سقط من ظ وم.
[63369]:- من ظ وم، وفي الأصل: إلى.
[63370]:- من ظ وم، وفي الأصل: الرسالة.
[63371]:- من ظ وم، وفي الأصل: الغالبة.
[63372]:- في ظ: شخص.
[63373]:- زيد من ظ و م.
[63374]:- من م، وفي الأصل و ظ: له.
[63375]:- من ظ و م، وفي الأصل: برسول الله.
[63376]:- من ظ و م، وفي الأصل: شبيه ذلك.
[63377]:- زيد في الأصل: ذلك، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63378]:- من ظ وم، وفي الأصل: كذلك.
[63379]:-زيد من ظ وم.
[63380]:- من ظ وم، وفي الأصل: رغبته.
[63381]:- من ظ و م، وفي الأصل: لا يسقط.
[63382]:- من ظ وم، وفي الأصل: صفات.
[63383]:- من ظ وم، وفي الأصل: ثابتان.
[63384]:- من ظ وم، وفي الأصل: للمعاصي.
[63385]:- زيد من ظ وم.
[63386]:راجع معالم التنزيل بهامش اللباب 7/ 44.
[63387]:راجع الجامع 2/ 163.
[63388]:- راجع مجمع الزوائد 7/ 122.
[63389]:- في ظ وم: قال.
[63390]:- زيد في ظ وم: له.
[63391]:- من ظ وم، وفي الأصل: عنه.
[63392]:- زيد من م.