قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } الآية .
قال ابن عباس في سبب النزول{[55745]} : إن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه فأنزل الله - تعالى - هذه الآية فكفَّ كثير من الناس .
وقال الحسن : إن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبي صلى الله عليه وسلم يناجونه ، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النَّجوى ، فشق ذلك عليهم ، فأمرهم الله - تعالى - بالصَّدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه{[55746]} .
وقال زيد بن أسلم : إن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : إنه أذُن يسمع كلَّ ما قيل له ، وكان لا يمنع أحداً مُناجاته ، فكان ذلك يشقّ على المسلمين ؛ لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله ، فأنزل الله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَة الرسول } الآية ، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل عن النجوى ؛ لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة ، وشقّ ذلك على أهل الإيمان ، وامتنعوا عن النجوى لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة ، فخفف الله - تعالى - عنهم بما بعد الآية{[55747]} .
قال ابن العربي{[55748]} : وهذا الخبر يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح{[55749]} ، فإن الله - تعالى - قال :{ ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } ثم نسخه مع أنه كونه خيراً وأطهر ، وهذا يرد على المعتزلة في التزام المصالح .
فصل فيمن اعتبر الصدقة واجبة أو مندوبة{[55750]} :
ظاهر الآية يدلّ على أن تقديم الصَّدقة كان واجباً ؛ لأن الأمر للوجوب ، ويؤكد ذلك بعده قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، وهذا لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه .
وقيل : كان مندوباً بقوله تعالى :{ ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الواجب ، ولأنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه لكلام متصل به وهو قوله تعالى :{ أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ }[ إلى آخر الآية ] {[55751]} .
وأجيب عن الأول : أن المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر ، فكذلك أيضاً يوصف به الواجب .
وعن الثاني : أنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متَّصلتين في النزول كما قيل في الآية الدَّالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشراً أنها ناسخة للاعتداد بحول ، وإن كان الناسخ متقدماً في التلاوة على المنسوخ . انتهى .
اختلفوا في مقدار تأخُّر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية{[55752]} ، فقال الكلبي رحمه الله : ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من النهار ثم نسخ{[55753]} .
وقال مقاتل بن حيان : بقي ذلك التكليف عشرة أيام ، ثم نسخ لما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إنَّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا عمل بها أحد بعدي كان لي دينار ، فاشتريت به عشرة دراهم ، وكلما ناجيت النبي صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً ، ثم نسخت فلم يعمل بها{[55754]} .
وروي عن ابن جريج ، والكلبي ، وعطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنَّهم نهوا عن المُناجاة حتى يتصدقوا ، فلم يُناج أحد إلاَّ عليٌّ تصدق بدينار ، ثم نزلت الرخصة{[55755]} .
وقال ابن عمر : لقد كانت لعلي - رضي الله عنه - ثلاثة ، لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليَّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة - رضي الله عنها - وإعطاؤه الرَّاية يوم «خيبر » ، وآية النجوى{[55756]} .
{ ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ } من إمساكها ، «وأطْهَرُ » لقلوبكم من المعاصي { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ } يعني : الفقراء { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
روى الترمذي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : «لما نزلت { يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا ترى دِيْنَاراً ؟ » قلت : لا يطيقونه ، قال : «نِصْف دِيْنَارٍ » ، قلت : لا يطيقونه ، قال : «فَكَمْ » ؟ قلت : شعيرة ، قال : «إنَّك لزَهِيدٌ » ، فنزلت { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } الآية{[55757]} .
ومعنى قوله : «شعيرة » من ذهب ، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : «إنَّك لزَهِيْدٌ » أي : لقليل المال فقدّرت على حسب حالك .
قال ابن العربي{[55758]} : «وهذا يدلّ على نسخ العبادة قبل فعلها ، وعلى النَّظر في المقدّرات بالقياس » .
قال القرطبي{[55759]} : «والظَّاهر أنَّ النسخ إنما وقع بعد فعل الصَّدقة كما تقدم » .
فصل فيمن استدل بالآية على عدم وقوع النسخ{[55760]} :
أنكر أبو مسلم وقوع النسخ ، وقال : إنَّ المنافقين كانوا يمتنعون عن بذل الصدقات ، وإن قوماً من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقيًّا ، فأراد الله أن يميزهم عن المنافقين ، فأمر بتقديم الصَّدقة على النَّجْوَى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا على من بقي على نفاقه الأصلي ، فلما كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت ، لا جرم يقدر هذا التكليف بذلك الوقت .
قال ابن الخطيب{[55761]} : وحاصل قول أبي مسلم : أن ذلك التكليف مقدر بغاية مخصوصة ، ووجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى تلك الغاية المخصوصة ، ولا يكون هذا نسخاً ، وهذا كلام حسن ، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله :{ أَأَشْفَقْتُمْ } ، وقيل : منسوخ بوجوب الزكاة .
قوله تعالى :{ أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } ، هذا استفهام معناه التقرير{[55762]} .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : «أأشفقتم » أي : أبخلتم بالصدقة{[55763]} ، وقيل : خفتم .
و«الإشفاق » : الخوف من المكروه ، أي : خفتم بالصدقة ، وشقّ عليكم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات .
قوله تعالى : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } . في «إذ » هذه ثلاثة أقوال{[55764]} :
أحدها : أنها على بابها من المعنى : أنكم تركتم ذلك فيما مضى ، فتداركوه بإقامة الصَّلاة . قاله أبو البقاء{[55765]} .
الثاني : أنها بمعنى «إذا » كقوله تعالى : { إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ } [ غافر : 71 ] وتقدم الكلام فيه{[55766]} .
الثالث : أنها بمعنى «إن » الشرطية ، وهو قريب مما قبله ؛ إلا أن الفرق بين «إن » ، و«إذا » معروف .
المعنى : فإن لم تفعلوا ما أمرتم به ، { وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } أي : ونسخ الله ذلك الحكم ، ورخص بكم في ألاَّ تفرطوا في الصَّلاة والزكاة ، وسائر الطاعات ، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ، وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل .
قال القرطبي{[55767]} : وما روي عن علي - رضي الله عنه - ضعيف ؛ لأن الله - تعالى - قال :{ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } وهذا يدلّ على أن أحداً لم يتصدق بشيء .
فصل في أنَّ الآية لا تدل على تقصير المؤمنين :
فإن قيل : ظاهر الآية يدل على تقصير المؤمنين في ذلك التكليف ، وبيانه من وجوه :
الأول : قوله تعالى :{ أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } يدل على تقصيرهم .
الثاني : قوله تعالى :{ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } .
الثالث : قوله عز وجل :{ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } .
فالجواب : قال ابن الخطيب{[55768]} : ليس الأمر كما قلتم ؛ لأن القوم لم يكلفوا بأن يقدموا على الصَّدقة ، ويشتغلوا بالمناجاة ، بل أمروا أنهم لو أرادوا المناجاة ، فلا بد من تقديم الصَّدقة فمن ترك المناجاة ، فلا يمكن أن يكون مقصراً ، فأما لو قيل بأنهم ناجوا من غير تقديم الصدقة ، فهذا أيضاً غير جائز ؛ لأن المناجاة لا تمكن إلا إذا مكن الرسول صلى الله عليه وسلم من المناجاة فإذا لم يمكنهم من ذلك لم يقدروا على المناجاة ، فعلمنا أن الآية لا تدل على صدور التقصير منهم .
فأما قوله تعالى :{ أَأَشْفَقْتُمْ } فلا يمنع من أنه - تعالى - علم ضيق صدور كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب . فقال هذا القول .
وأما قوله عز وجل :{ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } فليس في الآية أنه تاب عليهم من هذا التقصير ، بل يحتمل أنكم إن كنتم تائبين راجعين إلى الله تعالى ، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ، فقد [ كفاكم ]{[55769]} هذا التَّكليف .
قوله تعالى :{ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ، روي عن أبي{[55770]} عمرو : { خبير بِمَا يعْملُونَ } بالياء من تحت ، والمشهور عنه كالجماعة بتاء الخطاب .