قوله تعالى : { وإذ قتلتم نفساً } . هذا أول القصة وإن كان مؤخرة في التلاوة ، واسم القتيل عاميل .
قوله تعالى : { فادارأتم فيها } . أصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال وأدخلت الألف ، مثل قوله : ( اثاقلتم ) .
قوله تعالى : { والله مخرج } . أي يظهر .
قوله تعالى : { ما كنتم تكتمون } . فإن القاتل كان يكتم القتل .
قال البخاري : { فَادَّارَأْتُمْ } اختلفتم . وهكذا قال مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي حذيفة ، عن شبْل عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، أنه قال في قوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } اختلفتم .
وقال عطاء الخراساني ، والضحاك : اختصمتم فيها . وقال ابن جريج { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } قال : قال بعضهم أنتم قتلتموه .
وقال آخرون : بل أنتم قتلتموه . وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
{ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } قال مجاهد : ما تُغَيبُون . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن مسلم البصري ، حدثنا محمد بن الطفيل العبدي ، حدثنا صدقة بن رستم ، سمعت المسيب بن رافع يقول : ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وتصديق ذلك في كلام الله : { وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } .
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسا : واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفسا . والنفس التي قتلوها هي النفس التي ذكرنا قصتها في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً . وقوله : فادّارأتُمْ فِيها يعني فاختلفتم وتنازعتم ، وإنما هو «فتدارأتم فيها » على مثال تفاعلتم من الدرء ، والدرء : العوج ، ومنه قول أبي النجم العجلي :
خَشْيَةَ طغامٍ إذَا هَمّ حسَر *** يأكُلُ ذَا الدّرْءِ وَيُقْصِي منْ حَقَرْ
يعني ذا العوج والعُسْر . ومنه قول رؤبة بن العجاج :
أدْرَكْتُها قُدّام كلّ مِدْرَهِ *** بالدّفْعِ عَنّي دَرْءَ كلّ عُنْجُهِ
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، عن إسرائيل ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن مجاهد ، عن السائب ، قال : جاءني عثمان وزهير ابنا أمية ، فاستأذنا لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنا أعْلَمُ بِهِ مِنْكُمَا ، ألَمْ تَكُنْ شَرِيكي في الجاهِلِيّةِ ؟ » قلت : نعم بأبي أنت وأمي ، فنعم الشريك كنت لا تماري ولا تداري يعني بقوله : لا تداري : لا تخالف رفيقك وشريكك ولا تنازعه ولا تشارّه .
وإنما أصل فادّارأتُمْ فتدارأتم ، ولكن التاء قريبة من مخرج الدال ، وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الشفتين ، ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنيتين ، فأدغمت التاء في الدال فجعلت دالاً مشددة ، كما قال الشاعر :
تُولي الضّجيعَ إذَا ما اشْتاقَها خَصِرا *** عَذْبَ المذَاقِ إذَا ما اتّابَعَ القُبَلُ
يريد إذا ما تتابع القبل ، فأدغم إحدى التاءين في الأخرى . فلما أدغمت التاء في الدال فجعلت دالاً مثلها سكنت ، فجلبوا ألفا ليصلوا إلى الكلام بها ، وذلك إذا كان قبله شيء لأن الإدغام لا يكون إلا وقبله شيء ، ومنه قول الله جل ثناؤه : حَتّى إذَا ادّارَكُوا فِيهَا جَمِيعا إنما هو تداركوا ، ولكن التاء منها أدغمت في الدال فصارت دالاً مشددة ، وجعلت فيها ألف إذا وصلت بكلام قبلها ليسلم الإدغام . وإذا لم يكن قبل ذلك ما يواصله ، وابتدىء به ، قيل : تداركوا وتثاقلوا ، فأظهروا الإدغام . وقد قيل : يقال : ادّاركوا وادّارأوا .
وقد قيل إن معنى قوله : فادّارأتُمْ فِيها فتدافعتم فيها ، من قول القائل : درأت هذا الأمر عني ، ومن قول الله : وَيَدْرَأُ اعَنْها العَذَابَ بمعنى يدفع عنها العذاب . وهذا قول قريب المعنى من القول الأول لأن القوم إنما تدافعوا قتل قتيل ، فانتفى كل فريق منهم أن يكون قاتله ، كما قد بينا قبل فيما مضى من كتابنا هذا . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : فادّارأتُمْ فِيها قال أهل التأويل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : فادّارأتُم فِيها قال : اختلفتم فيها .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسا فَادّارأتُمْ فِيها قال بعضهم : أنتم قتلتموه ، وقال الاَخرون : أنتم قتلتموه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فادّارأتُمْ فِيها قال : اختلفتم ، وهو التنازع تنازعوا فيه . قال : قال هؤلاء : أنتم قتلتموه ، وقال هؤلاء : لا .
وكان تدارؤهم في النفس التي قتلوها . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل قتله رجل فألقاه على باب ناس آخرين ، فجاء أولياء المقتول فادعوا دمه عندهم فانتفوا أو انتفلوا منه شك أبو عاصم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله سواء ، إلا أنه قال : فادعوا دمه عندهم ، فانتفوا ولم يشكّ منه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قتيل كان في بني إسرائيل فقذف كل سبط منهم حتى تفاقم بينهم الشرّ حتى ترافعوا في ذلك إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فأوحى إلى موسى أن اذبح بقرة فاضربه ببعضها . فذكر لنا أن وليه الذي كان يطلب بدمه هو الذي قتله من أجل ميراث كان بينهم .
حدثني ابن سعد ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في شأن البقرة : وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على عهد موسى كان مكثرا من المال ، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم ، وكان الشيخ لا ولد له ، وكان بنو أخيه ورثته ، فقالوا : ليت عمنا قد مات فورثنا ماله . وأنه لما تطاول عليهم أن لا يموت عمهم أتاهم الشيطان ، فقال : هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله ، وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته ؟ وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في إحداهما ، فكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين ، قيس ما بين القتيل وما بين المدينتين ، فأيهما كانت أقرب إليه غرمت الدية . وإنهم لما سوّل لهم الشيطان ذلك وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم ، عمدوا إليه فقتلوه ، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها . فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشيخ ، فقالوا : عمنا قُتل على باب مدينتكم ، فوالله لتغرمنّ لنا دية عمنا قال أهل المدينة : نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا وإنهم عمدوا إلى موسى ، فلما أتوا قال بنو أخي الشيخ : عمنا وجدناه مقتولاً على باب مدينتهم ، وقال أهل المدينة : نقسم بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا . وإن جبريل جاء بأمر ربنا السميع العليم إلى موسى ، فقال : قل لهم : إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فتضربوه ببعضها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، وحجاج عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس ، دخل حديث بعضهم في حديث بعض ، قالوا : إن سبطا من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس ، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه ، وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وتشرّف فإذا لم ير شيئا فتح المدينة فكانوا مع الناس حتى يمسوا . وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير ، ولم يكن له وارث غير ابن أخيه ، فطال عليه حياته ، فقتله ليرثه . ثم حمله فوضعه على باب المدينة . ثم كمن في مكان هو وأصحابه ، قال : فتشرّف رئيس المدينة على باب المدينة فنظر فلم ير شيئا ، ففتح الباب ، فلما رأى القتيل ردّ الباب فناداه ابن أخي المقتول وأصحابه : هيهات قتلتموه ثم تردّون الباب وكان موسى لما رأى القتل كثيرا في أصحابه بني إسرائيل كان إذا رأى القتيل بين ظهري القوم آخذهم ، فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال حتى لبس الفريقان السلاح ، ثم كفّ بعضهم عن بعض ، فأتوا موسى فذكروا له شأنهم فقالوا : يا رسول الله إن هؤلاء قتلوا قتيلاً ثم ردوا الباب ، وقال أهل المدينة : يا رسول الله قد عرفت اعتزالنا الشرور وبنينا مدينة كما رأيت نعتزل شرور الناس ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً . فأوحى الله تعالى ذكره إليه أن يذبحوا بقرة ، فقال لهم موسى : إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، قال : كان في بني إسرائيل رجل عقيم وله مال كثير ، فقتله ابن أخ له فجرّه فألقاه على باب ناس آخرين . ثم أصبحوا فادعاه عليهم حتى تسلّح هؤلاء وهؤلاء ، فأرادوا أن يقتتلوا ، فقال ذوو النهي منهم : أتقتتلون وفيكم نبيّ الله فأمسكوا حتى أتوا موسى ، فقصوا عليه القصة ، فأمرهم أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها ، فقالوا : أتَتّخِذُنا هُزُوا قال أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قتيل من بني إسرائيل طرح في سبط من الأسباط ، فأتى أهل ذلك السبط إلى ذلك السبط ، فقالوا : أنتم والله قتلتم صاحبنا ، فقالوا : لا والله . فأتوا إلى موسى فقالوا : هذا قتيلنا بين أظهرهم ، وهم والله قتلوه ، فقالوا : لا والله يا نبي الله طرح علينا . فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم : إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً .
قال أبو جعفر : فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بينهم في أمر القتيل الذي ذكرنا أمره على ما روينا من علمائنا من أهل التأويل هو الدرء الذي قال الله جل ثناؤه لذرّيتهم وبقايا أولادهم : فادّارأتُمْ فِيها وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ .
ويعني بقوله : وَاللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ والله معلن ما كنتم تسرّونه من قتل القتيل الذي قتلتم ثم ادارأتم فيه . ومعنى الإخراج في هذا الموضع : الإظهار والإعلان لمن خفي ذلك عنه وإطلاعهم عليه ، كما قال الله تعالى ذكره : ألاّ يَسْجُدوا لِلّهِ الّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ يعني بذلك : يظهره ويطلعه من مخبئه بعد خفائه . والذي كانوا يكتمونه فأخرجه هو قتل القاتل القتيل ، كما كتم ذلك القاتل ومن علمه ممن شايعه على ذلك حتى أظهره الله وأخرجه ، فأعلن أمره لمن لا يعلم أمره . وعني جلّ ثناؤه بقوله : تَكْتُمُونَ تسرّون وتغيبون . كما :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قال : تغيبون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ما كنتم تغيبون .
{ وإذ قتلتم نفسا } خطابا للجميع لوجود القتل فيهم .
{ فادارأتم فيها } اختصمتم في شأنها ، إذ المتخاصمان يدفع بعضهما بعضا ، أو تدافعتم بأن طرح كل قتلها عن نفسه إلى صاحبه ، وأصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال واجتلبت لها همزة الوصل .
{ والله مخرج ما كنتم تكتمون } مظهره لا محالة ، وأعمل مخرج لأنه حكاية مستقبل كما أعمل { باسط ذراعيه } لأنه حكاية حال ماضية .