قوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } .
أعلم أن وقوع ذلك القتل كان متقدماً على الأمر بالذبح ، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتل ، وعن ضرب القتيل ببعض البقرة ، فلا يجب أن يكون متقدماً في التلاوة في الأول ؛ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود ، فأما التقدم في الذكر فغير واجب ؛ لأنه تارة يتقدّم ذكر السبب على الحكم ، وتارة على العكس ، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله تعالى بذبح البقرة فلما ذبحوها قال : وإذ قتلتم نفساً من قبل ، واختلفتم وتنازعتم ، فإني أظهر لكم القاتل الذي [ سترتموه ] بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة .
وذلك مستقيم والواو لا تقتضي الترتيب .
قال القرطبي : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } [ هود : 40 ] إلى قوله : " إِلاّ قَلِيْلٌ " فذكر إهلاك من هلك منهم ، ثم عطف عليه بقول : { وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [ هود : 41 ] فذكر الركوب متأخراً ، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك ، ومثله في القرآن كثير ، قال تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً } [ الكهف : 1 ، 2 ] أي : أنزل على عبده الكتاب قَيِّماً ولم يجعل له عوجاً فإن قيل [ هب أنه ] لا خلل في هذا النظم [ ولكن النظم ] الآخر كان مستحسناً ، فما الفائدة في ترجيح هذا النظم ؟
قلنا : إنما قدمت قصة الأمر بالذبح على ذلك القتل ؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ، ولو كانت قصة واحدة لذهب الغرض من تثنية التفريع .
" فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا " فعل وفاعل ، والفاء للسببية ؛ لأن التَّدَارُؤَ كان مسبباً عن القتل ، ونَسَبَ القتل إلى الجميع ، وإن لم يصدر إلا من واحد أو اثنين كما قيل ؛ لأنه وُجِد فيهم وهو مجاز شائع .
وأصل " ادّارأتم " : تدارأتم تَفَاعلتم من الدَّرْء هو الدّفع ، فاجتمعت " التاء " مع " الدال " وهي مُقارِبتها ، فأريد الإدغام فقلبت التاء دالاً ، وسكنت لأجل الإدغام ، ولا يمكن الابتداء بساكن ، فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بها فبقي " ادارأتم " ، والأصل ادْدَارأتم فأدغم ، وهذا مطرد في كل فعل على " تفاعل " أو " تفعّل " فاؤه دال نحو : " تَدَايَنَ وادَّايَنَ ، وتَدَيَّنَ وادَّيَنَ " أو طاء ، أو ظاء ، أو صاداً ، أو ضاداً نحو : " تطاير واطَّايَر " وتطير واطّير [ وتظاهر واظَّاهر ، وتطهر واطَّهَّر ، والمصدر على التفاعل أو التفعّل نحو : تَدَارُؤ وتَطَهُّر ] نظراً إلى الأصل .
وهذا أصل نافع في جميع الأبواب .
معنى " ادارأتم " : اختلفتم واختصمتم في شأنها .
وقيل : [ تدافعتم ] أي كل واحد ينفي القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره .
والكناية في قوله : " فيها " للنفس .
وقال القفال : ويحتمل إلى القتلة ؛ لأن قوله : " قتلتم " يدل على المصدر .
قوله : { وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } الله رفع بالابتداء و " مخرج " خبره ، و " ما " موصولة منصوبة المحل باسم الفاعل .
فإن قيل : اسم الفاعل لا يعمل بمعنى الماضي إلا محلّى بالألف واللام .
فالجواب : أن هذه حكاية حال ماضية ، واسم الفاعل فيها غير ماض وهذا كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ } [ الكهف : 18 ] .
والكسائي يُعْمِله مطلقاً ، ويستدل بهذا ونحوه . و " ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية ، فلا بد من عائد ، تقديره : مخرج الذي كنتم تكتمونه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، والمصدر واقع موقع المفعول به ، أي : مخرج مكتومكم وهذه الجملة لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهما : " فَادَّارَأْتُمْ " وقوله : " فَقُلْنَا : اضْرِبُوهُ " قاله الزمخشري .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.