اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ قَتَلۡتُمۡ نَفۡسٗا فَٱدَّـٰرَ ٰٔتُمۡ فِيهَاۖ وَٱللَّهُ مُخۡرِجٞ مَّا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ} (72)

قوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } .

أعلم أن وقوع ذلك القتل كان متقدماً على الأمر بالذبح ، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتل ، وعن ضرب القتيل ببعض البقرة ، فلا يجب أن يكون متقدماً في التلاوة في الأول ؛ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود ، فأما التقدم في الذكر فغير واجب ؛ لأنه تارة يتقدّم ذكر السبب على الحكم ، وتارة على العكس ، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله تعالى بذبح البقرة فلما ذبحوها قال : وإذ قتلتم نفساً من قبل ، واختلفتم وتنازعتم ، فإني أظهر لكم القاتل الذي [ سترتموه ] بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة .

وذلك مستقيم والواو لا تقتضي الترتيب .

قال القرطبي : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } [ هود : 40 ] إلى قوله : " إِلاّ قَلِيْلٌ " فذكر إهلاك من هلك منهم ، ثم عطف عليه بقول : { وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [ هود : 41 ] فذكر الركوب متأخراً ، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك ، ومثله في القرآن كثير ، قال تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً } [ الكهف : 1 ، 2 ] أي : أنزل على عبده الكتاب قَيِّماً ولم يجعل له عوجاً فإن قيل [ هب أنه ] لا خلل في هذا النظم [ ولكن النظم ] الآخر كان مستحسناً ، فما الفائدة في ترجيح هذا النظم ؟

قلنا : إنما قدمت قصة الأمر بالذبح على ذلك القتل ؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ، ولو كانت قصة واحدة لذهب الغرض من تثنية التفريع .

فصل في نسبة القتل إلى جميعهم

" فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا " فعل وفاعل ، والفاء للسببية ؛ لأن التَّدَارُؤَ كان مسبباً عن القتل ، ونَسَبَ القتل إلى الجميع ، وإن لم يصدر إلا من واحد أو اثنين كما قيل ؛ لأنه وُجِد فيهم وهو مجاز شائع .

وأصل " ادّارأتم " : تدارأتم تَفَاعلتم من الدَّرْء هو الدّفع ، فاجتمعت " التاء " مع " الدال " وهي مُقارِبتها ، فأريد الإدغام فقلبت التاء دالاً ، وسكنت لأجل الإدغام ، ولا يمكن الابتداء بساكن ، فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بها فبقي " ادارأتم " ، والأصل ادْدَارأتم فأدغم ، وهذا مطرد في كل فعل على " تفاعل " أو " تفعّل " فاؤه دال نحو : " تَدَايَنَ وادَّايَنَ ، وتَدَيَّنَ وادَّيَنَ " أو طاء ، أو ظاء ، أو صاداً ، أو ضاداً نحو : " تطاير واطَّايَر " وتطير واطّير [ وتظاهر واظَّاهر ، وتطهر واطَّهَّر ، والمصدر على التفاعل أو التفعّل نحو : تَدَارُؤ وتَطَهُّر ] نظراً إلى الأصل .

وهذا أصل نافع في جميع الأبواب .

معنى " ادارأتم " : اختلفتم واختصمتم في شأنها .

وقيل : [ تدافعتم ] أي كل واحد ينفي القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره .

والكناية في قوله : " فيها " للنفس .

وقال القفال : ويحتمل إلى القتلة ؛ لأن قوله : " قتلتم " يدل على المصدر .

قوله : { وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } الله رفع بالابتداء و " مخرج " خبره ، و " ما " موصولة منصوبة المحل باسم الفاعل .

فإن قيل : اسم الفاعل لا يعمل بمعنى الماضي إلا محلّى بالألف واللام .

فالجواب : أن هذه حكاية حال ماضية ، واسم الفاعل فيها غير ماض وهذا كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ } [ الكهف : 18 ] .

والكسائي يُعْمِله مطلقاً ، ويستدل بهذا ونحوه . و " ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية ، فلا بد من عائد ، تقديره : مخرج الذي كنتم تكتمونه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، والمصدر واقع موقع المفعول به ، أي : مخرج مكتومكم وهذه الجملة لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهما : " فَادَّارَأْتُمْ " وقوله : " فَقُلْنَا : اضْرِبُوهُ " قاله الزمخشري .