البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ قَتَلۡتُمۡ نَفۡسٗا فَٱدَّـٰرَ ٰٔتُمۡ فِيهَاۖ وَٱللَّهُ مُخۡرِجٞ مَّا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ} (72)

الدّر : الدفع ، ويدرأ عنها العذاب .

وقال الشاعر :

فنكب عنهم درء الأعادي***

وادّار : تفاعل منه ، ولمصدره حكم يخالف مصادر الأفعال التي أوّلها همزة وصل ذكر في النحو .

{ وإذ قتلتم نفساً } : معطوف على قوله تعالى : { وإذ قال موسى لقومه } ويجوز أن يكون ترتيب وجودهما ونزولهما على حسب تلاوتهما ، فيكون الله تعالى قد أمرهم بذبح البقرة ، فذبحوها وهم لا يعلمون بما له تعالى فيها من السر ، ثم وقع بعد ذلك أمر القتيل ، فأظهر لهم ما كان أخفاه عنهم من الحكمة بقوله : اضربوه ببعضها ، ولا شيء يضطرنا إلى اعتقاد تقدم قتل القتيل .

ثم سألوا عن تعيين قاتله ، إذ كانوا قد اختلفوا في ذلك ، فأمرهم الله تعالى بذبح بقرة ، فيكون الأمر بالذبح متقدّماً في النزول ، والتلاوة متأخراً في الوجود ، ويكون قتل القتيل متأخراً في النزول ، والتلاوة متقدّماً في الوجود ، ولا إلى اعتقاد كون الأمر بالذبح وما بعده مؤخراً في النزول ، متقدّماً في التلاوة ، والإخبار عن قتلهم مقدّماً في النزول ، متأخراً في التلاوة ، دون تعرض لزمان وجود القصتين .

وإنما حمل من حمل على خلاف الظاهر ، اعتبار ما رووا من القصص الذي لا يصح ، إذ لم يرد به كتاب ولا سنة ، ومتى أمكن حمل الشيء على ظاهره كان أولى ، إذ العدول عن الظاهر إلى غير الظاهر ، إنما يكون لمرجح ، ولا مرجح ، بل تظهر الحكمة البالغة في تكليفهم أولاً ذبح بقرة .

هل يمتثلون ذلك أم لا ؟ وامتثال التكاليف التي لا يظهر فيها ببادىء الرأي حكمة أعظم من امتثال ما تظهر فيه حكمة ، لأنها طواعية صرف ، وعبودية محضة ، واستسلام خالص ، بخلاف ما تظهر له حكمة ، فإن في العقل داعية إلى امتثاله ، وحضاً على العمل به .

وقال صاحب المنتخب : إن وقوع ذلك القتيل لا بدّ أن يكون متقدّماً لأمره تعالى بالذبح ، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتيل ، وعن أنه لا بد أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة ، فلا يجب أن يكون متقدّماً على الإخبار عن قصة البقرة .

فقول من يقول : هذه القصة يجب أن تكون متقدمة على الأولى خطأ ، لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدّمة على الأولى في الوجود .

فأما التقديم في الذكر فغير واجب ، لأنه تارة يقدّم ذكر السبب على ذكر الحكم ، وأخرى على العكس من ذلك ، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم بذبح البقرة ، فلما ذبحوها قال : { وإذ قتلتم نفساً } من قبل واختلفتم فإني مظهر لكم القاتل الذي سترتموه ، بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة .

وتقدّمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل ، لأنه لو عكس ، لما كانت قصة واحدة ، ولذهب الغرض في تثنية التقريع .

انتهى كلامه ، وهو مبني على أن القتل وقع أولاً ، ثم أمروا بعد ذلك بذبح البقرة ، وليس له دليل على ذلك إلا نقل شيء من القصص التي لم تثبت في كتاب ولا سنة .

وقد بينا حمل الآيتين على أن الأمر بالذبح يكون متقدّماً وأن القتل تأخر ، كحالهما في التلاوة .

وقال بعض الناس : التقديم والتأخير حسن ، لأن ذلك موجود في القرآن ، في الجمل ، وفي الكلمات ، وفي كلام العرب .

وأورد من ذلك جملاً ، من ذلك : قصة نوح عليه السلام في إهلاك قومه ، وقوله : { وقال اركبوا فيها } وفي حكم من مات عنها زوجها بالتربص بالأربعة الأشهر وعشر ، وبمتاع إلى الحول ، إذ الناسخ مقدّم ، والمنسوخ متأخر .

وذكر من تقديم الكلمات في القرآن والشعر على زعمه كثيراً ، والتقديم والتأخير ، ذكر أصحابنا أنه من الضرائر ، فينبغي أن ينزه القرآن عنه .

ونسبة القتيل إلى جمع ، إما لأن القاتلين جمع ، وهم ورثة المقتول ، وقد نقل أنهم اجتمعوا على قتله ، أو لأن القاتل واحد ، ونسب ذلك إليهم لوجود ذلك فيهم ، على طريقة العرب في نسبة الأشياء إلى القبيلة ، إذا وجد من بعضها ما يذم به أو يمدح .

{ فادّارأتم فيها } قرأ الجمهور : بالإدغام وقرأ أبو حيوة ؛ فتدارأتم ، على وزن تفاعلتم ، وهو الأصل ، هكذا نقل بعض من جمع في التفسير .

وقال ابن عطية : قرأ أبو حيوة ، وأبو السوار الغنوي : { وإذ قتلتم نفساً فادّرأتم } ، وقرأت فرقة : فتدارأتم على الأصل .

انتهى كلامه .

ونقل من جمع في التفسير أن أبا السوار قرأ : فدرأتم ، بغير ألف قبل الراء .

ويحتمل هذا التدارؤ ، وهو التدافع ، أن يكون حقيقة ، وهو أن يدفع بعضهم بعضاً بالأيدي ، لشدة الاختصام .

ويحتمل المجاز ، بأن يكون بعضهم طرح قتله على بعض ، فدفع المطروح عليه ذلك إلى الطارح ، أو بأن دف بعضهم بعضاً بالتهمة والبراءة .

والضمير في : فيها عائد على النفس ، وهو ظاهر ، وقيل : على القتلة ، فيعود على المصدر المفهوم من الفعل ، وقيل : على التهمة ، فيعود على ما دل عليه معنى الكلام .

{ والله مخرج ما كنتم تكتمون } ، ما : منصوب باسم الفاعل ، وهو موصول معهود ، فلذلك أتى باسم الفاعل لأنه يدل على الثبوت ، ولم يأت بالفعل الذي هو دال على التجدد والتكرار ، ولا تكرار ، إذ لا تجدد فيه ، لأنها قصة واحدة معروفة ، فلذلك ، والله أعلم ، لم يأت الفعل .

وجاء اسم الفاعل معملاً ، ولم يضف ، وإن كان من حيث المعنى ماضياً ، لأنه حكى ما كان مستقبلاً وقت التدارؤ ، وذلك مثل ما حكى الحال في قوله تعالى : { وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد } ودخلت كان هنا ليدل على تقدم الكتمان ، والعائد على ما محذوف تقديره : ما كنتم تكتمونه .

والظاهر أن المعنى ما كنتم تكتمون من أمر القتيل وقاتله ، وعلى هذا ذهب الجمهور .

وقيل : يجوز أن يكون عاماً في القتيل وغيره ، فيكون القتيل من جملة أفراده ، وفي ذلك نظر ، إذ ليس كل ما كتموه عن الناس أظهره الله تعالى .

/خ74