قوله تعالى : { إني أريد أن تبوء } ترجع ، وقيل : تحتمل .
قوله تعالى : { بإثمي وإثمك } ، أي : بإثم قتلي إلى إثمك ، أي إثم مصاعيك التي علمت من قبل ، هذا قول أكثر المفسرين . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : معناه إني أريد أن يكون عليك خطيئتي التي عملتها أنا إذا قتلتني ، وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعاً ، وقيل معناه : أن ترجع بإثم قتلي وإثم معصيتك التي لم يتقبل لأجلها قربانك ، أو إثم حسدك . فإن قيل : كيف قال : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، وإرادة القتل والمعصية لا تجوز ؟ قيل : ذلك ليس بحقيقة إرادة ، ولكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ، وطن نفسه على الاستسلام طلباً للثواب ، فكأنه صار مريداً لقتله مجازاً ، وإن لم يكن مريداً حقيقة ، وقيل معناه : إني أريد أن تبوء بعقاب قتلي ، فتكون إرادة صحيحة لأنها موافقة لحكم الله عز وجل ، فلا يكون هذا إرادة للقتل ، بل لموجب القتل من الإثم و العقاب .
وقوله : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسُّدِّي ، في قوله : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أي : بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك .
قال ابن جرير : وقال آخرون : يعني ذلك أني أريد أن تبوء بخطيئتي ، فتتحمل وزرها ، وإثمك في قتلك إياي . وهذا قول وجدته عن مجاهد ، وأخشى أن يكون غلطًا ؛ لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه . يعني : ما رواه سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي } قال : بقتلك إياي ، { وَإِثْمِكَ } قال : بما كان منك قبل ذلك .
وكذا روى{[9645]} عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثْله ، وروى شِبْل عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يقول : إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي ، فتبوء بهما جميعًا .
قلت : وقد يتوهم{[9646]} كثير من الناس هذا القول ، ويذكرون في ذلك حديثا لا أصل له : ما ترك القاتل على المقتول من ذنب .
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثًا يشبه هذا ، ولكن ليس به ، فقال : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني ، حدثنَا يعقوب بن عبد الله ، حدثنا عتبة{[9647]} بن سعيد ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قتل الصَّبْر لا يمر بذنب إلا محاه " .
وهذا بهذا لا يصح{[9648]} ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه ، فأما أن تحمل على القاتل فلا . ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص ، وهو الغالب ، فإن المقتول يطالب القاتل في العَرَصات فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته ، فإن نفدت{[9649]} ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطُرِحَت{[9650]} على القاتل ، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل . وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها ، والقتل من أعظمها وأشدها ، والله أعلم .
وأما ابن جرير فقال{[9651]} : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن تأويله : إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي - وذلك هو معنى قوله : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي } وأما معنى { وَإِثْمِكَ } فهو إثمه بغير{[9652]} قتله ، وذلك معصيته الله ، عز وجل ، في أعمال سواه .
وإنما قلنا هو الصواب ، لإجماع أهل التأويل عليه ، وأن الله ، عز وجل ، أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه{[9653]} وإذا كان هذا{[9654]} حكمه في خلقه ، فغير جائز أن تكون{[9655]} آثام المقتول مأخوذًا بهذا القاتل ، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله .
هذا لفظه ثم أورد سؤالا حاصله : كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله ، وإثم نفسه ، مع أن قتله له محرم ؟ وأجاب بما حاصله{[9656]} أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله ، بل يكف يده عنه ، طالبًا - إنْ وقع قتل - أن يكون من أخيه لا منه .
قلت : وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ ، وزجرًا له لو انزجر ؛ ولهذا قال : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أي : تتحمل إثمي وإثمك { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ }
{ إِنّيَ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظّالِمِينَ } . .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : إني أريد أن تبوء بإثمي من قتلك إياي وإثمك في معصيتك الله بغير ذلك من معاصيك . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في حديثه عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس . وعن مرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّى أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول : إثم قتلي إلى إثمك الذي في عنقك فَتَكُونَ مِنْ أصَحابِ النّارِ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّى أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول بقتلك إياي ، وإثمك قبل ذلك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : إنّى أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ قال : بإثم قتلي وإثمك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إنّى أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول : إني أريد أن يكون عليك خطيئتك ودمي ، تبوء بهما جميعا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول : إني أريد أن تبوء بقتلك إياي . وإثْمِكَ قال : بما كان منك قبل ذلك .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : ثني عبيد بن سليم ، عن الضحاك ، قوله : إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ قال : أما إثمك ، فهو الإثم الذي عمل قبل قتل النفس ، يعني أخاه . وأما إثمه : فقتله أخاه .
وكأن قائلي هذه المقالة وجهوا تأويل قوله : إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ : أي إني أريد أن تبوء بإثم قتلي ، فحذف القتل واكتفى بذكر الإثم ، إذ كان مفهوما معناه عند المخاطبين به .
وقال آخرون : معنى ذلك : إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي . وهذا قول وجدته عن مجاهد ، وأخشى أن يكون غلطا ، لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول : إني أريد أن تكون عليك خطيئتي ودمي ، فتبوء بهما جميعا .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن تأويله : إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي ، وذلك هو معنى قوله : إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي . وأما معنى وإثْمِكَ : فهو إثمه بغير قتله ، وذلك معصية الله جلّ ثناؤه في أعمال سواه .
وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع أهل التأويل عليه ، لأن الله عزّ ذكره قد أخبرنا أن كلّ عامل فجزاء عمله له أو عليه ، وإذا كان ذلك حكمه في خلقه فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذا بها القاتل وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرّم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله .
فإن قال قائل : أو ليس قتل المقتول من بين آدم كان معصية لله من القاتل ؟ قيل : بلى ، وأعْظِمْ بها معصية .
فإن قال : فإذا كان لله جلّ وعزّ معصية ، فكيف جاز أن يريد ذلك منه المقتول ويقول : إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وقد ذكرت أن تأويل ذلك : إني أريد أن تبوء بإثم قتلي ؟ فمعناه : إني أريد أن تبوء بإثم قتلي إن قتلتني لأني لا أقتلك ، فإن أنت قتلتني فإني مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله في قتلك إياي . وهو إذا قتله ، فهو لا محالة باء به في حكم الله ، فإرادته ذلك غير موجبة له الدخول في الخطأ .
ويعني بقوله : فَتَكُونَ مِنْ أصَحابِ النّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظّالِمينَ يقول : فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم ، ووقود النار المخلدين فيها . وذَلِكَ جَزَاءُ الظّالِمِينَ يقول : والنار ثواب التاركين طريق الحقّ الزائلين عن قصد السبيل ، المتعدين ما جعل لهم إلى ما لم يجعل لهم . وهذا يدلّ على أن الله عزّ ذكره قد كان أمر ونهى آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض ، ووعد وأوعد ، ولولا ذلك ما قال المقتول للقائل : فتكون من أصحاب النار بقتلك إياي ، ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين . فكان مجاهد يقول : علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار ، عليه في الصيف حظيرة من نار وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج .
حدثنا بذلك القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد ذلك . قال : وقال عبد الله بن عمرو : إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذابَ ، عليه شطرُ عذابهم .
وقد رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما رُوي عن عبد الله بن عمرو خبر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، وحدثنا سفيان ، قال : حدثنا جرير وأبو معاوية ( ح ) ، وحدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، ووكيع جميعا ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْما إلاّ كانَ على ابْنِ آدَمَ الأوّلِ كِفْلٌ مِنْها ، ذَلِكَ بأنه أَوّل مَنْ سَنّ القَتْلَ » .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ( ح ) . وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن جميعا ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن حسن بن صالح ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم النخعي ، قال : ما من مقتول يقتل ظلما ، إلا كان على ابن آدم الأوّل والشيطان كِفْلٌ منه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم ، أنه حدّث عن عبد الله بن عمرو ، أنه كان يقول : إن أشقي الناس رجلاً لابنُ آدم الذي قتل أخاه ، ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شيء ، وذلك أنه أوّل من سنّ القتل .
وبهذا الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين أن القول الذي قاله الحسن في ابني آدم اللذَين ذكرهما الله في هذا الموضع أنهما ليسا بابني آدم لصلبه ، ولكنهما رجلان من بني إسرائيل ، وأن القول الذي حكي عنه ، أن أوّل من مات آدم ، وأن القربان الذي كانت النار تأكله لم يكن إلا في بني إسرائيل خطأ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا القاتل الذي قتل أخاه أنه أوّل من سنّ القتل ، وقد كان لا شكّ القتل قبل إسرائيل ، فكيف قبل ذرّيته وخطأ من القول أن يقال : أوّل من سنّ القتل رجل من بني إسرائيل . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من قال : هو ابن آدم لصلبه ، لأنه أوّل من سنّ القتل ، فأوجب الله له من العقوبة ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني أن ترجع بإثمي بقتلك إياي، وإثمك الذي عملته قبل قتلي، {فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين}، يعني جزاء من قتل نفسا بغير جرم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: إني أريد أن تبوء بإثمي من قتلك إياي وإثمك في معصيتك الله بغير ذلك من معاصيك... وكأن قائلي هذه المقالة وجهوا تأويل قوله:"إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ": أي إني أريد أن تبوء بإثم قتلي، فحذف القتل واكتفى بذكر الإثم، إذ كان مفهوما معناه عند المخاطبين به.
وقال آخرون: معنى ذلك: إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي. وهذا قول وجدته عن مجاهد، وأخشى أن يكون غلطا، لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبل.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن تأويله: إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي، وذلك هو معنى قوله: "إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي". وأما معنى "وإثْمِكَ": فهو إثمه بغير قتله، وذلك معصية الله جلّ ثناؤه في أعمال سواه.
وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع أهل التأويل عليه، لأن الله عزّ ذكره قد أخبرنا أن كلّ عامل فجزاء عمله له أو عليه، وإذا كان ذلك حكمه في خلقه فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذا بها القاتل وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرّم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله.
فإن قال قائل: أو ليس قتل المقتول من بني آدم كان معصية لله من القاتل؟ قيل: بلى، وأعْظِمْ بها معصية.
فإن قال: فإذا كان لله جلّ وعزّ معصية، فكيف جاز أن يريد ذلك منه المقتول ويقول: إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وقد ذكرت أن تأويل ذلك: إني أريد أن تبوء بإثم قتلي؟ فمعناه: إني أريد أن تبوء بإثم قتلي إن قتلتني لأني لا أقتلك، فإن أنت قتلتني فإني مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله في قتلك إياي. وهو إذا قتله، فهو لا محالة باء به في حكم الله، فإرادته ذلك غير موجبة له الدخول في الخطأ.
"فَتَكُونَ مِنْ أصَحابِ النّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظّالِمينَ": فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم، ووقود النار المخلدين فيها. "وذَلِكَ جَزَاءُ الظّالِمِينَ "يقول: والنار ثواب التاركين طريق الحقّ الزائلين عن قصد السبيل، المتعدين ما جعل لهم إلى ما لم يجعل لهم. وهذا يدلّ على أن الله عزّ ذكره قد كان أمر ونهى آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض، ووعد وأوعد، ولولا ذلك ما قال المقتول للقائل: فتكون من أصحاب النار بقتلك إياي، ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، وحدثنا سفيان، قال: حدثنا جرير وأبو معاوية (ح)، وحدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية، ووكيع جميعا، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْما إلاّ كانَ على ابْنِ آدَمَ الأوّلِ كِفْلٌ مِنْها، ذَلِكَ بأنه أَوّل مَنْ سَنّ القَتْلَ».
وبهذا الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين أن القول الذي قاله الحسن في ابني آدم اللذَين ذكرهما الله في هذا الموضع أنهما ليسا بابني آدم لصلبه، ولكنهما رجلان من بني إسرائيل، وأن القول الذي حكي عنه، أن أوّل من مات آدم، وأن القربان الذي كانت النار تأكله لم يكن إلا في بني إسرائيل خطأ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا القاتل الذي قتل أخاه أنه أوّل من سنّ القتل، وقد كان لا شكّ القتل قبل إسرائيل، فكيف قبل ذرّيته وخطأ من القول أن يقال: أوّل من سنّ القتل رجل من بني إسرائيل. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من قال: هو ابن آدم لصلبه، لأنه أوّل من سنّ القتل، فأوجب الله له من العقوبة ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
..والمراد: إني أريد أن تبوء بعقاب إثمي وإثمك؛ لأنه لا يجوز أن يكون مراده حقيقة الإثم، إذ غير جائز لأحد إرادة معصية الله من نفسه ولا من غيره كما لا يجوز أن يأمره بها. ومعنى تبوء ترجع، يقال: باء، إذا رجع إلى المَبَاءَةِ وهي المنزل، وباؤوا بغضب الله: رجعوا، والبواء: الرجوع بالقود، وهم في هذه الأمر بَوَاءٌ أي سواء، لأنهم يرجعون فيه إلى معنى واحد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
..فإن قلت: فكيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه النار؟ قلت: كان ظالماً وجزاء الظالم حسن جائز أن يراد. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين} وإذا جاز أن يريده الله، جاز أن يريده العبد؛ لأنه لا يريد إلا ما هو حسن. والمراد بالإثم وبال القتل وما يجره من استحقاق العقاب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
..وقوله: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} الآية، ليست هذه بإرادة محبة وشهوة، وإنما هو تخير في شرين، كما تقول العرب في الشر خيار، فالمعنى إن قتلتني وسبق بذلك قدر فاختياري أن أكون مظلوماً سيستنصر الله لي في الآخرة. وتبوء معناه: تمضي متحملاً.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
..فإن قيل: كيف أراد هابيل وهو من المؤمنين أن يبوأ قابيل بالإثم وهو معصية، والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه ما أراد لأخيه الخطيئة، وإنما أراد: إن قتلتني أردت أن تبوأ بالإثم، وإلى هذا المعنى ذهب الزجاج. والثاني: أن في الكلام محذوفا، تقديره: إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك، فحذف "لا "كقوله: {وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِي أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان: 10] أي: أن لا تميد بكم. وهذا مذهب ثعلب. والثالث: أن المعنى: أريد زوال أن تبوأ بإثمي وإثمك، وبطلان أن تبوأ بإثمي وإثمك، فحذف ذلك، وقامت "أن" مقامه. كقوله: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93] أي: حب العجل، ذكره والذي قبله ابن الأنباري.
السؤال الثاني: كما لا يجوز للإنسان أن يريد من نفسه أن يعصي الله تعالى فكذلك لا يجوز أن يريد من غيره أن يعصي الله، فلم قال: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك}.
والجواب من وجوه: الأول: قد ذكرنا أن هذا الكلام إنما دار بينهما عندما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله، وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل به، وكأنه لما وعظه ونصحه قال له: وإن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلابد وأن تترصد قتلي في وقت أكون غافلا عنك وعاجزا عن دفعك، فحينئذ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلا إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان، وهذا مني كبيرة ومعصية، وإذا دار الأمر بين أن يكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن يكون أنت، فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي، ومن المعلوم أن إرادة صدور الذنب من الغير في هذه الحالة وعلى هذا الشرط لا يكون حراما، بل هو عين الطاعة ومحض الإخلاص.
والوجه الثاني في الجواب: أن المراد: إني أريد أن تبوء بعقوبة قتلي، ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله عقاب ظالمه، والثالث: روي أن الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم، فعلى هذا يجوز أن يقال: إني أريد أن تبوأ بإثمي في أنه يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني، وبإثمك في قتلك إياي، وهذا يصلح جوابا عن السؤال الأول، والله أعلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي إني أريد بما ذكرت من اتقاء مقابلة الجناية بمثلها أن ترجع أنت إن فعلتها متلبسا بإثمي وإثمك، أي إثم قتلك إياي، وإثمك الخاص بك الذي كان من شؤمه عدم قبول قربانك، وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس (رض) وفيه وجه آخر، وهو أنه مبني على كون القاتل يحمل في الآخرة إثم من قتله إن كان له آثام، لأن الذنوب والآثام التي فيها حقوق للعباد لا يغفر الله تعالى منها شيئا حتى يأخذ لكل ذي حق حقه، وإنما القصاص في الآخرة بالحسنات والسيئات، فيعطى المظلوم من حسنات الظالم ما يساوي حقه إن كان له حسنات توازي ذلك، أو يحمل الظالم من آثام المظلوم وأوزاره ما يوازي ذلك إن كان له آثام وأوزار، وما نقص من هذا أو ذاك، يستعاض عنه بما يوازيه من الجزاء أو النار. وفي ذكر المتكلم إثمه وإثم أخيه تواضع وهضم لنفسه بإضافة الإثم إليها على الوجه الثاني، وتذكير للمخاطب بأنه ليس له حسنات توازي هذا الظلم الذي عزم عليه، ولذلك رتب عليه قوله: {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ} أي تكون بما حملت من الإثمين من أهل النار في الآخرة لأنك تكون ظالما، والنار جزاء كل ظالم، فتكون من أهلها حتما. ترقى في صرفه عن عزمه من التبرؤ إليه من سبب حرمانه من قبول قربانه ببيان سبب التقبل عند الله تعالى وهو التقوى – إلى تنزيه نفسه من جزائه على جنايته بمثلها – إلى تذكيره بما يجب من خوف الله تعالى رب العالمين الذي لا يرضيه ممن وهبهم العقل والاختيار إلا أن يتحروا إقامة سننه في تربية العالم وإبلاغ كل حي يقبل الكمال إلى كماله – إلى تذكيره بان المعتدي يحمل إثم نفسه وإثم من اعتدى عليه بعدل الله تعالى في القصاص والجزاء – إلى تذكيره بعذاب النار، وكونها مثوى الظالمين الفخار. فماذا كان من تأثير هذه المواعظ، في نفس ذلك الحاسد الظالم؟ بين الله ذلك بقوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين).. إذا أنت مددت يدك إلي لتقتلني، فليس من شأني ولا من طبعي أن أفعل هذه الفعلة بالنسبة لك. فهذا الخاطر -خاطر القتل- لا يدور بنفسي أصلا، ولا يتجه اليه فكري إطلاقا.. خوفا من الله رب العالمين.. لا عجزا عن إتيانه.. وأنا تاركك تحمل إثم قتلي وتضيفه إلى إثمك الذي جعل الله لا يتقبل منك قربانك؛ فيكون إثمك مضاعفا، وعذابك مضاعفا.. (وذلك جزاء الظالمين).. وبذلك صور له إشفاقه هو من جريمة القتل، ليثنيه عما تراوده به نفسه، وليخجله من هذا الذي تحدثه به نفسه تجاه أخ مسالم وديع تقي. وعرض له وزر جريمة القتل لينفره منه، ويزين له الخلاص من الإثم المضاعف، بالخوف من الله رب العالمين؛ وبلغ من هذا وذلك أقصى ما يبلغه إنسان في صرف الشر ودوافعه عن قلب إنسان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {تبوء} ترجع، وهو رجوع مجازي، أي تكتسب ذلك من فعلك، فكأنّه خرج يسعى لنفسه فباء بإثمين. والأظهر في معنى قوله {بإثمي} مَا له من الآثام الفارطة في عمره، ومصدر {أن تبوء} هو مفعول {أريد}، أي أريد من الإمساك عن أن أقتلك إن أقدمت على قتلي أريد أن يقع إثمي عليك، فإثم مراد به الجنس، أي ما عسى أن يكون له من إثم. وقد أراد بهذا موعظة أخيه، ولذلك عطف عليه قوله: {وإثمك} تذكيراً له بفظاعة عاقبة فعلته، كقوله تعالى: {ليحملُوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الّذين يضلّونهم بغير علم} [النحل: 25]. فعطفُ قوله: {وإثمك} إدماج بذكر ما يحصل في نفس الأمر وليس هو ممّا يريده. وكذلك قوله: {فتكون من أصحاب النار} تذكيراً لأخيه بما عسى أن يكفّه عن الاعتداء. ومعنى {من أصحاب النّار} أي ممّن يطول عذابه في النّار، لأنّ أصحاب النّار هم ملازموهَا.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وأضاف هذا الأخ الصالح مخاطباً أخاه الذي أراد أن يقتله أنّه لا يريد أن يتحمل آثام الآخرين، قائلا له: (إِنّي أريد أن تبوأ بإِثمي وإِثمك) أي لأنّك إِن نفذت تهديدك فستتحمل ذنوبي السابقة أيضاً، لأنّك سلبت مني حق الحياة وعليك التعويض عن ذلك، ولما كنت لا تمتلك عملا صالحاً لتعوض به، فما عليك إِلاّ أن تتحمل إثمي أيضاً، وبديهي أنك لو قبلت هذه المسؤولية الخطيرة فستكون حتماً من أهل النار، لأنّ النار هي جزاء الظالمين كما تقول الآية: (فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين).
-إِن القرآن الكريم لم يذكر في هذه الآية ولا في آيات أُخرى أي اسم لأبناء آدم (عليه السلام).
- إِنّ المعروف عن «القربان» هو أنّه كل شيء يحصل به التقرب إلى الله، لكن القرآن الكريم لم يذكر شيئاً عن ماهية القربان الذي قدمه ولدا آدم،. 3 -لم يرد في القرآن أي توضيح عن الأسلوب الذي عرف به ابنا آدم قبول قربان أحدهما ورفض قربان الآخر عند الله كن بعض المفسّرين يعتقدون أنّ قبول ورفض القربانين إِنّما أعلنا عن طريق الوحي لآدم (عليه السلام). 4- يستنتج من هذه الآيات بصورة جلية أنّ مصدر أولى النزاعات والجرائم في العالم الإِنساني هو «الحسد» ويدلنا هذا الموضوع على خطورة هذه الرذيلة الأخلاقية وأثرها العجيب في الأحداث الاجتماعية.