{ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار } ذهب قوم إلى أنّ الإرادة هنا مجاز لا محبة إيثار شهوة ، وإنما هي تخيير في شرين كما تقول العرب : في الشر خيار ، والمعنى : إنْ قتلتني وسبق بذلك قدر ، فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي في الآخرة .
وذهب قوم إلى أنّ الإرادة هنا حقيقة لا مجاز ، لا يقال : كيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه بالنار ، لأن جزاء الظالم حسن أن يراد ، وإذا جاز أن يريده الله تعالى جاز أن يريده العبد لأنه لا يريد إلا ما هو حسن قاله الزمخشري ، وفيه دسيسة الاعتزال .
وقال ابن كيسان : إنما وقعت الإرادة بعد ما بسط يده للقتل وهو مستقبح ، فصار بذلك كافراً لأن من استحل ما حرم الله فقد كفر ، والكافر يريد أن يراد به الشر .
وقيل : المعنى أنه لما قال : لأقتلنك استوجب النار بما تقدم في علم الله ، وعلى المؤمن أن يريد ما أراد الله ، وظاهر الآية أنهما آثمان .
قال ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن وقتادة : تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي ، فحذف المضاف ، هذا قول عامة المفسرين .
وقال الزجاج : بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك ، وهو راجع في المعنى إلى ما قبله .
وقيل : المعنى بإثمي إنْ لو قاتلتك وقتلتك ، وإثم نفسك في قتالي وقتلي ، وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار » .
قيل : يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال : « إنه كان حريصاً على قتل صاحبه » فكأنّ هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك ، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي .
قال الزمخشري ( فإن قلت ) : كيف يحتمل إثم قتله له { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ( قلت ) : المراد بمثل إثمي على الاتساع في الكلام كما تقول : قرأت قراءة فلان ، وكتبت كتابته ، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره .
( فإن قلت ) : فحين كف هابيل عن قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظوراً في شريعته من الدفع ، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله ، فيجتمع عليه الإثمان ؟ ( قلت ) : هو مقدّر فهو يتحمل مثل الإثم المقدر ، كأنه قال : إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي انتهى .
وقيل : بإثمي ، الذي يختص بي فيما فرط لي ، أي : يؤخذ من سيئآتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي ، وتبوء بإثمك في قتلي .
ويعضد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : « يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه »
وتلخص من قوله بإثمي وإثمك وجهان : أحدهما : بإثمي اللاحق لي ، أي : بمثل إثمي اللاحق لي على تقدير وقوع قتلي لك ، وإثمك اللاحق لك بسبب قتلي .
الثاني : بإثمي اللاحق لك بسبب قتلي ، وأضافه إليه لما كان سبباً له ، وإثمك اللاحق لك قبل قتلي .
وهذان الوجهان على إثبات الإرادة المجازية والحقيقية .
وقيل المعنى على النفي ، التقدير : إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كقوله : { رواسي أن تميد بكم } أي أن لا تميد ، وأن تضلوا أي : لا تضلوا ، فحذف لا .
وهذا التأويل فرار من إثبات إرادة الشرّ لأخيه المؤمن ، وضعف القرطبي هذا الوجه بقول صلى الله عليه وسلم : « لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، لأنه أول من سن القتل » فثبت بهذا أنّ إثم القاتل حاصل انتهى .
ولا يضعف هذا القول بما ذكره القرطبي ، لأن قائل هذا لا يلزم من نفي إرادته القتل أن لا يقع القتل ، بل قد لا يريده ويقع .
ونصر تأويل النفي الماوردي وقال : إن القتل قبيح ، وإرادة القبيح قبيحة ، ومن الأنبياء أقبح .
ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ إني أريد ، أي كيف أريد ؟ ومعناه استبعاد الإرادة ولهذا قال ، بعض المفسرين : إنّ هذا الإستفهام على جهة الإنكار ، أي : أني ، فحذف الهمزة لدلالة المعنى عليه ، لأن إرادة القتل معصية حكاه القشيري انتهى .
وهذا كله خروج عن ظاهر اللفظ لغير ضرورة وقد تقدم إيضاح الإرادة ، وجواز ورودها هنا ، واستدل بقوله : فتكون من أصحاب النار ، على أنّ قابيل كان كافراً لأنّ هذا اللفظ إنما ورد في القرآن في الكفار ، وعلى هذا القول ففيه دليل على أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، ولا يقوي هذا الاستدلال لأنّه يكنى عن المقام في النار مدة بالصحبة .
{ وذلك جزاء الظالمين } أي وكينونتك من أصحاب النار جزاؤك ، لأنك ظالم في قتلي .
ونبه بقوله : الظالمين ، على السبب الموجب للقتل ، وأنه قتل بظلم لا بحق .
والظاهر أنه من كلام هابيل نبهه على العلة ليرتدع .
وقيل : هو من كلام الله تعالى ، لا حكاية كلام هابيل ، بل إخبار منه تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.