البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنِّيٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثۡمِي وَإِثۡمِكَ فَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِۚ وَذَٰلِكَ جَزَـٰٓؤُاْ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (29)

{ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار } ذهب قوم إلى أنّ الإرادة هنا مجاز لا محبة إيثار شهوة ، وإنما هي تخيير في شرين كما تقول العرب : في الشر خيار ، والمعنى : إنْ قتلتني وسبق بذلك قدر ، فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي في الآخرة .

وذهب قوم إلى أنّ الإرادة هنا حقيقة لا مجاز ، لا يقال : كيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه بالنار ، لأن جزاء الظالم حسن أن يراد ، وإذا جاز أن يريده الله تعالى جاز أن يريده العبد لأنه لا يريد إلا ما هو حسن قاله الزمخشري ، وفيه دسيسة الاعتزال .

وقال ابن كيسان : إنما وقعت الإرادة بعد ما بسط يده للقتل وهو مستقبح ، فصار بذلك كافراً لأن من استحل ما حرم الله فقد كفر ، والكافر يريد أن يراد به الشر .

وقيل : المعنى أنه لما قال : لأقتلنك استوجب النار بما تقدم في علم الله ، وعلى المؤمن أن يريد ما أراد الله ، وظاهر الآية أنهما آثمان .

قال ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن وقتادة : تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي ، فحذف المضاف ، هذا قول عامة المفسرين .

وقال الزجاج : بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك ، وهو راجع في المعنى إلى ما قبله .

وقيل : المعنى بإثمي إنْ لو قاتلتك وقتلتك ، وإثم نفسك في قتالي وقتلي ، وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار » .

قيل : يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال : « إنه كان حريصاً على قتل صاحبه » فكأنّ هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك ، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي .

قال الزمخشري ( فإن قلت ) : كيف يحتمل إثم قتله له { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ( قلت ) : المراد بمثل إثمي على الاتساع في الكلام كما تقول : قرأت قراءة فلان ، وكتبت كتابته ، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره .

( فإن قلت ) : فحين كف هابيل عن قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظوراً في شريعته من الدفع ، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله ، فيجتمع عليه الإثمان ؟ ( قلت ) : هو مقدّر فهو يتحمل مثل الإثم المقدر ، كأنه قال : إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي انتهى .

وقيل : بإثمي ، الذي يختص بي فيما فرط لي ، أي : يؤخذ من سيئآتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي ، وتبوء بإثمك في قتلي .

ويعضد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : « يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه »

وتلخص من قوله بإثمي وإثمك وجهان : أحدهما : بإثمي اللاحق لي ، أي : بمثل إثمي اللاحق لي على تقدير وقوع قتلي لك ، وإثمك اللاحق لك بسبب قتلي .

الثاني : بإثمي اللاحق لك بسبب قتلي ، وأضافه إليه لما كان سبباً له ، وإثمك اللاحق لك قبل قتلي .

وهذان الوجهان على إثبات الإرادة المجازية والحقيقية .

وقيل المعنى على النفي ، التقدير : إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كقوله : { رواسي أن تميد بكم } أي أن لا تميد ، وأن تضلوا أي : لا تضلوا ، فحذف لا .

وهذا التأويل فرار من إثبات إرادة الشرّ لأخيه المؤمن ، وضعف القرطبي هذا الوجه بقول صلى الله عليه وسلم : « لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، لأنه أول من سن القتل » فثبت بهذا أنّ إثم القاتل حاصل انتهى .

ولا يضعف هذا القول بما ذكره القرطبي ، لأن قائل هذا لا يلزم من نفي إرادته القتل أن لا يقع القتل ، بل قد لا يريده ويقع .

ونصر تأويل النفي الماوردي وقال : إن القتل قبيح ، وإرادة القبيح قبيحة ، ومن الأنبياء أقبح .

ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ إني أريد ، أي كيف أريد ؟ ومعناه استبعاد الإرادة ولهذا قال ، بعض المفسرين : إنّ هذا الإستفهام على جهة الإنكار ، أي : أني ، فحذف الهمزة لدلالة المعنى عليه ، لأن إرادة القتل معصية حكاه القشيري انتهى .

وهذا كله خروج عن ظاهر اللفظ لغير ضرورة وقد تقدم إيضاح الإرادة ، وجواز ورودها هنا ، واستدل بقوله : فتكون من أصحاب النار ، على أنّ قابيل كان كافراً لأنّ هذا اللفظ إنما ورد في القرآن في الكفار ، وعلى هذا القول ففيه دليل على أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، ولا يقوي هذا الاستدلال لأنّه يكنى عن المقام في النار مدة بالصحبة .

{ وذلك جزاء الظالمين } أي وكينونتك من أصحاب النار جزاؤك ، لأنك ظالم في قتلي .

ونبه بقوله : الظالمين ، على السبب الموجب للقتل ، وأنه قتل بظلم لا بحق .

والظاهر أنه من كلام هابيل نبهه على العلة ليرتدع .

وقيل : هو من كلام الله تعالى ، لا حكاية كلام هابيل ، بل إخبار منه تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم .