فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنِّيٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثۡمِي وَإِثۡمِكَ فَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِۚ وَذَٰلِكَ جَزَـٰٓؤُاْ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (29)

{ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ( 29 ) فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ( 30 ) فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ( 31 ) }

{ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } هذا تعليل ثان لامتناعه من المقاتلة بعد التعليل الأول ، واختلف المفسرون في المعنى فقيل أراد هابيل أني أريد أن تبوء بالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك ، وبإثمك الذي تحملته بسبب قتلي ، وقيل المراد بإثمي الذي يختص بي بسبب سيئاتي فيطرح عليك بسبب ظلمك لي ، وتبوء بإثمك في قتلي .

وهذا يوافق معنى ما ثبت في صحيح مسلم في قوله صلى الله عليه وسلم : ( يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه ) {[622]} ، ومثله قوله تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } وقيل المعنى أني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى : { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم } أي أن لا تميد بكم ، وقوله : { يبين الله لكم أن تضلوا } أي لا تضلوا .

وقال أكثر العلماء : إن المعنى أني أريد أن تبوء بإثمي أي بإثم قتلك لي وإثمك الذي قد صار عليك بذنوبك من قبل قتلي ، قال الثعلبي هذا قول عامة المفسرين . وقيل المعنى أن تبوء بعقاب إثمي وإثمك فحذف المضاف ، وقيل هو على وجه الإنكار كقوله تعالى { وتلك النعمة } أي أو تلك نعمة ، قال القشيري ووجهه بأن إرادة القتل معصية .

وسئل أبو الحسن بن كيسان كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار فقال : وقعت الإرادة بعدما بسط يده إليه بالقتل ، وهذا بعيد جدا وكذلك الذي قبله ، وقال الزمخشري : ليس ذلك بحقيقة الإرادة لكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ووطن نفسه على الاستسلام للقتل طلبا للثواب فكأنه صار مريدا لقتله مجازا ، وإن لم يكن مريدا حقيقة إ ه وأصل باء رجع إلى المباءة وهي المنزل { وباءوا بغضب من الله } أي رجعوا{[623]} .

{ فتكون من أصحاب النار } أي الملازمين لها { وذلك جزاء الظالمين } أي جهنم جزاء من قتل أخاه ظلما .


[622]:الباب العاشر من كتاب المظالم في صحيح البخاري-الباب الثاني من كتاب القيامة في صحيح الترمذي.
[623]:قال القرطبي6/136: قال علماؤنا: وذلك مما يجوز التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعا، وفي وجوب ذلك عليه خلاف، والأصح وجوب ذلك، لما فيه من النهي عن المنكر. وفي الحشيوية قوم لا يجوزون للمصول عليه الدفع، واحتجوا بحديث أبي ذر، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة، وكف اليد عند الشبهة على ما بيناه في كتاب"التذكرة" قلت: حديث أبي ذر في"المسند"5/149، وأبي داود4/124 وابن ماجة2/1308 وفيه"أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا، يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أقعد في بيتك، وأغلق عليك بابك. قال: فإن لم أترك؟ قال: فأت من أنت منهم، قال: فآخذ سلاحي؟ قال: إذن تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف، فألق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك"وفي معناه أحاديث عن جماعة من الصحابة، أنظر"سنن أبي داود" كتاب الفتن.