الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنِّيٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثۡمِي وَإِثۡمِكَ فَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِۚ وَذَٰلِكَ جَزَـٰٓؤُاْ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (29)

الثانية : قوله تعالى : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " قيل : معناه معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : ( إنه كان حريصا على قتل صاحبه ) وكأن هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك ، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت ، حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي . وقيل : المعنى " بإثمي " الذي يختص بي فيما فرطت{[5466]} ؛ أي يؤخذ في سيئاتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي ، وتبوء بإثمك في قتلك ، وهذا يعضده قوله عليه الصلاة والسلام : ( يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه ) . أخرجه مسلم بمعناه ، وقد تقدم ويعضده قوله تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم }{[5467]} وهذا بين لا إشكال فيه . وقيل : المعنى إني أريد ألا تبوء بإثمي وإثمك كما قال تعالى : " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم{[5468]} " [ النحل : 15 ] أي لئلا تميد بكم . وقوله تعالى : " يبين الله لكم أن تضلوا{[5469]} " [ النساء : 176 ] أي لئلا تضلوا فحذف " لا " .

قلت : وهذا ضعيف ؛ لقوله عليه السلام : ( لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ) ، فثبت بهذا أن إثم القتل حاصل ؛ ولهذا قال أكثر العلماء : إن المعنى : ترجع بإثم قتلي وإثمك الذي عملته قبل قتلي . قال الثعلبي : هذا قول عامة أكثر المفسرين . وقيل : هو استفهام ، أي أو إني أريد ؟ على جهة الإنكار ، كقوله تعالى : " وتلك نعمة{[5470]} " أي أو تلك نعمة ؟ وهذا لأن إرادة القتل معصية . حكاه القشيري{[5471]} ، وسئل أبو الحسن بن كيسان : كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار ؟ فقال : إنما وقعت الإرادة بعد ما بسط يده إليه بالقتل ، والمعنى : لئن بسطت إلى يدك لتقتلني لأمتنعن من ذلك مريدا للثواب ، فقيل له : فكيف قال : بإثمي وإثمك ؛ وأي إثم له إذا قتل ؟ فقال : فيه ثلاثة أجوبة ، أحدها : أن تبوء بإثم قتلي وإثم ذنبك الذي من أجله لم يتقبل قربانك ، ويروى هذا القول عن مجاهد . والوجه الآخر : أن تبوء بإثم قتلي وإثم اعتدائك علي ؛ لأنه قد يأثم بالاعتداء وإن لم يقتل . والوجه الثالث : أنه لو بسط يده إليه أثم ، فرأى أنه إذا أمسك عن ذلك فإثمه يرجع على صاحبه . فصار هذا مثل قولك : المال به وبين زيد ، أي المال بينهما ، فالمعنى أن تبوء بإثمنا . وأصل باء رجع إلى المباءة ، وهي المنزل . " وباؤوا بغضب من الله " [ البقرة : 61 ] أي رجعوا . وقد مضى في " البقرة " {[5472]} مستوفى . وقال الشاعر{[5473]} :

ألا تنتهي عنا مُلُوكٌ وتُبْقِي *** محارمَنَا لا يبُؤِ{[5474]} الدَّمُ بالدَّمِ

أي لا يرجع الدم بالدم في القود . " فتكون من أصحاب النار " دليل على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد . وقد استدل بقول هابيل لأخيه قابيل : " فتكون من أصحاب النار " على أنه كان كافرا ؛ لأن لفظ أصحاب النار إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن . وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية . ومعنى " من أصحاب النار " مدة كونك فيها . والله أعلم .


[5466]:في ج و ي: فرط لي.
[5467]:راجع ج 13 ص 330.
[5468]:راجع ج 10 ص 90.
[5469]:راجع ص 29 من هذا الجزء.
[5470]:راجع ج 13 ص 93.
[5471]:من ج و ي و ك و ز و هـ.
[5472]:راجع ج 1 ص 430.
[5473]:هو جابر بن جبير التغلبي.
[5474]:هكذا روى في كتاب سيبويه، وساقه شاهدا على جزم "يبؤ" في جواب الاستفهام، وقال في شواهده: التقديرانته عنا لا يبؤ الدم بالدم – أي- إن انتهيت عنا ولم تقتل منا لم يقتل واحد بآخر. وروى في "اللسان" بغير هذا.