قوله تعالى : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } ، أي : للوقت الذي ضربنا له أن نكلمه فيه ، قال أهل التفسير : إن موسى عليه السلام تطهر وطهر ثيابه لميعاد ربه لما أتى طور سيناء . وفي القصة : أن الله عز وجل وأنزل ظلمة على سبعة فراسخ ، وطرد عنه الشيطان ، وطرد عنه هوام الأرض ، ونحى عنه الملكين ، وكشط له السماء ، فرأى الملائكة قياماً في الهواء ، ورأى العرش بارزاً ، وكلمه الله وناجاه حتى أسمعه ، وكان جبريل عليه السلام معه فلم يسمع ما كلمة ربه ، وأدناه حتى سمع صرير القلم ، فاستحلى موسى عليه السلام كلام ربه ، واشتاق إلى رؤيته .
قوله تعالى : { قال رب أرني أنظر إليك } ، فقال الزجاج : فيه اختصار تقديره : أرني نفسك أنظر إليك ، قال ابن عباس : أعطني النظر إليك . فإن قيل : كيف سأل الرؤية وقد علم أن الله تعالى لا يرى في الدنيا ؟ قال الحسن : هاج به الشوق فسأل الرؤية . وقيل : سأل الرؤية ظناً منه أنه يجوز أن يرى في الدنيا .
قوله تعالى : { قال } الله تعالى .
قوله تعالى : { لن تراني } وليس لبشر أن يطيق النظر إليّ في الدنيا ، من نظر إلي في الدنيا مات ، فقال : إلهي سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ، ولأن أنظر إليك ثم أموت ، أحب إلي من أن أعيش ولا أراك . فقال الله عز وجل : { لم تراني ولكن انظر إلى الجبل } ، وهو أعظم جبل بمدين يقال له زبير . قال السدي : لما كلم الله موسى غاص الخبيث إبليس في الأرض حتى خرج بين قدمي موسى ، فوسوس إليه وقال : أن من كلمك شيطان ، فعند ذلك سأل موسى الرؤية ، فقال الله عز وجل : { لن تراني } ، وتعلقت نفاة الرؤية بظاهر هذه الآية ، وقالوا : قال الله تعالى : { لن تراني } ، ولن تكون للتأبيد ، ولا حجة لهم فيها ، ومعنى الآية : لن يراني في الدنيا أو في الحال ، لأنه كان يسأل الرؤية في الحال ، و( لن ) لا تكون للتأبيد ، كقوله تعالى { ولن يتمنوه أبداً } [ البقرة : 95 ] إخباراً عن اليهود ، ثم أخبر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرة ، كما قال الله تعالى : { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك } [ الزخرف : 77 ] ، و{ يا ليتها كانت القاضية } [ الحاقة : 27 ] ، والدليل عليه أنه لم ينسبه إلى الجهل بسؤال الرؤية ، ولم يقل إني لا أرى حتى تكون لهم حجة ، بل علق الرؤية على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل على التجلي غير مستحيل إذا جعل الله تعالى له تلك القوة ، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون مجالاً .
قوله تعالى : { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } ، قال وهب وابن إسحاق : لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل الله الضباب ، والصواعق ، والظلمة ، والرعد ، والبرق ، وأحاطت بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب ، وأمر الله ملائكة السموات أن يعترضوا على موسى ، فمرت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر ، تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ، ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى ، فاعترضوا عليه ، فهبطوا عليه أمثال الأسود ، لهم لجب بالتسبيح والتقديس ، ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى وسمع ، واقشعرت كل شعرة في رأسه وجسده ، ثم قال : لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء ؟ فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا موسى اصبر لما سألت ، فقليل من كثير ما رأيت . ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى ، فاعترضوا عليه ، فهبطوا أمثال النسور ، لهم قصف ورجف ولجب شديد ، وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس كجلب الجيش العظيم ، ألوانهم كلهب النار ، ففزع موسى واشتد فزعه ، وأيس من الحياة ، فقال له خير الملائكة : مكانك يا ابن عمران ، حتى ترى ما لا تصبر عليه ، ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى بن عمران فهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مروا من قبلهم ، ألوانهم كلهب النار ، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض ، أصواتهم عالية بالتقديس والتسبيح ، لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به من قبلهم ، فاصطكت ركبتاه ، وارتعد قلبه ، واشتد بكاؤه ، فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا ابن عمران ، اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت . ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الخامسة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى ، فهبطوا عليه ، لهم سبعة ألوان ، فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره ، لم ير مثلهم ، ولم يسمع مثل أصواتهم ، فامتلأ جوفه خوفاً ، واشتد حزنه ، وكثر بكاؤه ، فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا بن عمران مكانك حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه ، ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه ، فهبطوا عليه ، في يد كل ملك منهم مثل النخلة الطويلة نارا ، أشد ضوءاً من الشمس ، ولباسهم كلهب النار ، إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السموات ، كلهم يقولون بشدة أصواتهم : ( سبوح قدوس ، رب الملائكة والروح ، رب العزة أبداً لا يموت " في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه ، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا وهو يبكي ويقول : رب اذكرني ولا تنس عبدك ، لا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا ؟ إن خرجت احترقت ، وإن مكثت مت ، فقال له كبير الملائكة ورأسهم : قد أوشكت يا بن عمران أن يشتد خوفك ، وينخلع قلبك ، فاصبر للذي سألت . ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه في ملائكة السماء السابعة ، فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب جل جلاله ، ورفعت ملائكة السموات أصواتهم جميعاً يقولون : " سبحان الملك القدوس ، رب العزة أبداً لا يموت " بشدة أصواتهم ، فارتج الجبل ، واندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقاً ، على وجهه ليس معه روحه ، فأرسل الله برحمته الروح ، فتغشاه ، وقلب عليه الحجر الذي كان عليه موسى ، وجعله كهيئة القبة لئلا يحترق موسى ، فأقامه الروح مثل اللامة ، فقام موسى يسبح الله تعالى ويقول : آمنت بك ربي ، وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا ، من نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه ، فما أعظمك وأعظم ملائكتك ، أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، ولا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء ، رب تبت إليك الحمد لله لا شريك لك ما أعظمك وما أجلك رب العالمين ، فذلك قوله تعالى : { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً } ، قال ابن عباس : ظهر نور ربه للجبل ، جبل زبير . وقال الضحاك : أظهر الله من نور الحجب مثل منخر ثور . وقال عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار : ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط حتى صار دكاً . وقال السدي : ما تجلى إلا قدر الخنصر ، يدل عليه ما روى ثابت ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : هكذا ، ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل . وحكي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم ، فجعل الجبل دكاً ، أي : مستوياً بالأرض . قرأ حمزة والكسائي ( دكاء ) ممدوداً غير منون هاهنا وفي سورة الكهف ، ووافق عاصم في الكهف ، وقرأ الآخرون ( دكا ) مقصوراً منوناً ، فمن قصره فمعناه جعله مدقوقاً ، والدك والدق واحد ، وقيل : معناه دكه الله دكاً ، أي : فتقه ، كما قال : { إذا دكت الأرض دكاً دكاً } [ الفجر :21 ] ، ومن قرأ بالمد أي : جعله مستوياً أرضاً دكاء ، وقيل معناه : جعله مثل دكاء ، وهي الناقة التي لا سنام لها ، قال ابن عباس : جعله تراباً ، وقال سفيان : ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه . وقال عطية العوفي : صار رملاً هائلاً . وقال الكلبي : جعله دكاً أي كسراً جبالاً صغاراً . ووقع في بعض التفاسير : صارت لعظمته ستة أجبل ، وقعت ثلاثة بالمدينة : أحد ، وورقان ، ورضوى ، ووقعت ثلاثة بمكة : ثور ، وتبير ، وحراء . قوله تعالى : { وخر موسى صعقاً } . قال ابن عباس والحسن : مغشياً عليه . وقال قتادة : ميتاً . وقال الكلبي : خر موسى صعقاً يوم الخميس يوم عرفة ، وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر . قال الواقدي : لما خر موسى صعقاً قالت ملائكة السموات : ما لابن عمران وسؤال الرؤية ؟ وفي بعض الكتب أن ملائكة السموات أتوا موسى وهو مغشي عليه ، فجعلوا يركلونه بأرجلهم ويقولون : يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة ؟
قوله تعالى : { فلما أفاق } موسى من صعقته ، وثاب إليه عقله ، عرف أنه قد سأل أمراً عظيما لا ينبغي له .
قوله تعالى : { قال سبحانك تبت إليك } عن سؤال الرؤية .
قوله تعالى : { وأنا أول المؤمنين } بأنك لا ترى في الدنيا ، وقال مجاهد والسدي : وأنا أول من آمن بك من بني إسرائيل .
ثم يأتي السياق للمشهد التاسع . المشهد الفذ الذي اختص الله به نبيه موسى - عليه السلام - مشهد الخطاب المباشر بين الجليل - سبحانه - وعبد من عباده . المشهد الذي تتصل فيه الذرة المحدودة الفانية بالوجود الأزلي الأبدي بلا وساطة ؛ ويطيق الكائن البشري أن يتلقى عن الخالق الأبدي ، وهو بعد على هذه الأرض . . ولا ندري نحن كيف . . لا ندري كيف كان كلام الله - سبحانه - لعبده موسى . ولا ندري بأية حاسة أو جارحة أو أداة تلقى موسى كلمات الله . فتصوير هذا على وجه الحقيقة متعذر علينا نحن البشر المحكومين في تصوراتنا بنصيبنا المحدود من الطاقة المدركة ؛ وبرصيدنا المحدود من التجارب الواقعة . ولكننا نملك بالسر اللطيف المستمد من روح الله الذي في كياننا أن نستروح وأن نستشرف هذا الأفق السامق الوضيء . ثم نقف عند هذا الاستشراف لا نحاول أن نفسده بسؤالنا عن الكيفية ، نريد أن نتصورها بإدراكنا القريب المحدود !
( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ، قال : رب أرني أنظر إليك . قال : لن تراني ، ولكن انظر إلى الجبل ، فإن استقر مكانه فسوف تراني . فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ، وخر موسى صعقاً . فلما أفاق قال : سبحانك ! تبت إليك وأنا أول المؤمنين . قال : يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي . فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين . وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء ، فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها . سأريكم دار الفاسقين . سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين . والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ؟ )
إننا لفي حاجة إلى استحضار ذلك الموقف الفريد في خيالنا وفي أعصابنا وفي كياننا كله . . في حاجة إلى استحضاره لنستشرف ونحاول الاقتراب من تصوره ؛ ولنشعر بشيء من مشاعر موسى عليه السلام فيه . .
( ولما جاء موسى لميقاتنا ، وكلمه ربه ، قال : رب أرني أنظر إليك ) . .
إنها الوهلة المذهلة وموسى يتلقى كلمات ربه ؛ وروحه تتشوف وتستشرف وتشتاق إلى ما يشوق ! فينسى من هو ، وينسى ما هو ، ويطلب ما لا يكون لبشر في هذه الأرض ، وما لا يطيقه بشر في هذه الأرض . . يطلب الرؤية الكبرى وهو مدفوع في زحمة الشوق ودفعة الرجاء ولهفة الحب ورغبة الشهود . . حتى تنبهه الكلمة الحاسمة الجازمة :
ثم يترفق به الرب العظيم الجليل ، فيعلمه لماذا لن يراه . . إنه لا يطيق . .
( ولكن انظر إلى الجبل ، فإن استقر مكانه فسوف تراني ) . .
والجبل أمكن وأثبت . والجبل مع تمكنه وثباته أقل تأثراً واستجابة من الكيان البشري . . ومع ذلك فماذا ؟
( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ) . .
فكيف كان هذا التجلي ؟ نحن لا نملك أن نصفه ، ولا نملك أن ندركه . ولا نملك أن نستشرفه إلا بتلك اللطيفة التي تصلنا بالله ، حين تشف أرواحنا وتصفو ، وتتجه بكليتها إلى مصدرها . فأما الألفاظ المجردة فلا تملك أن تنقل شيئاً . . لذلك لا نحاول بالألفاظ أن نصور هذا التجلي . . ونحن أميل إلى اطراح كل الروايات التي وردت في تفسيره ؛ وليس منها رواية عن المعصوم [ ص ] والقرآن الكريم لم يقل عن ذلك شيئاً .
( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ) . .
وقد ساخت نتوءاته فبدا مسًّوى بالأرض مدكوكاً . . وأدركت موسى رهبة الموقف ، وسرت في كيانه البشري الضعيف :
مغشياً عليه ، غائباً عن وعيه .
وثاب إلى نفسه ، وأدرك مدى طاقته ، واستشعر أنه تجاوز المدى في سؤاله :
تنزهت وتعاليت عن أن ترى بالأبصار وتدرك .
والرسل دائماً هم أول المؤمنين بعظمة ربهم و جلاله ، وبما ينزله عليهم من كلماته . . وربهم يأمرهم أن يعلنوا هذا ، والقرآن الكريم يحكي عنهم هذا الإعلان في مواضع منه شتى .
جُعل مجيءُ موسى في الوقت المعين أمراً حاصلاً غير محتاج للإخبار عنه ، للعلم بأن موسى لا يتأخر ولا يترك ذلك ، وجُعل تكليمُ الله إياه في خلال ذلك الميقات أيضاً حاصلاً غير محتاج للإخبار عن حلوله ، لظهور أن المواعدة المتضمنة للملاقاة تتضمن الكلام ، لأن ملاقاة الله بالمعنى الحقيقي غير مُمكنة ، فليس يحصل من شؤون المواعدة إلاّ الكلام الصادر عن إرادة الله وقدرته ، فلذلك كله جُعل مجيء موسى للميقات وتكليم الله إياه شرطاً لحرف ( لمّا ) لأنه كالمعلوم ، وجعل الإخبار متعلقاً بما بعد ذلك ، وهو اعتبار بعظمة الله وجلاله ، فكان الكلام ضرباً من الإيجاز بحذف الخبر عن جملتين اسغناء عنهما بأنهما جعلتا شرطاً للمّا .
ويجوز أن تجعل الواو في قوله : { وَكلّمه ربه } زائدة في جواب { لمّا } كما قاله الأكثر في قول امرىء القيس :
فلمّا أجَزْنَا ساحةَ الحي وانتحى *** بنا بطْنُ خبت ذي حقاف عقنقل
أن جواب { لَما } هو قوله وانتحى ، وجوزوه في قوله تعالى : { فلمّا أسلما وتَلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم } [ الصافات : 103 ، 104 ] الآية ، أن يكون { وناديناه } هو جواب ( لَما ) فيصير التقدير : لما جاء موسى لميقاتنا كَلّمه ربه ، فيكون إيجازاً بحذف جملة واحدة ، ولا يستفاد من معنى إنشاء التكليم الطمع في الرؤية إلاّ من لازم المواعدة .
واللام في قوله : { لميقاتنا } صنفٌ من لام الاختصاص ، كما سماها في « الكشاف » ومثلها بقولهم : أتيته لعشر خلَون من الشهر ، يعني أنه اختصاص مّا ، وجعلها ابن هشام بمعنى عند ، وجعل ذلك من معاني اللام وهو أظهر ، والمعنى : فلما جاء موسى مجيئاً خاصاً بالميقات أي : حاصلاً عنده لا تأخير فيه ، كقوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] وفي الحديث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل فقال : " الصلاة لوقتها " أي عند وقتها ومنه { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] .
ويجوز جعل اللام للأجل والعلة ، أي جاء لأجل ميقاتنا ، وذلك لما قدمناه من تضمن الميقات معنى الملاقاة والمناجاة ، أي جاء لأجل مناجاتنا .
والمجيء : انتقاله من بين قومه إلى جبل سينا المعيّن فيه مكانُ المناجاة .
والتكليم حقيقته النطق بالألفاظ المفيدة معانيَ بحسب وضع مصطلح عليه ، وهذه الحقيقة مستحيلة على الله تعالى لأنها من أعراض الحوادث ، فتعين أن يكون إسناد التكليم إلى الله مجازاً مستعملاً في الدلالة على مُراد الله تعالى بألفاظ من لغة المخاطَب به بكيفية يوقن المخاطَب به أن ذلك الكلام من أثر قدرة الله على وَفْق الإرادة ووَفْقِ العلم ، وهو تعلق تنجيزي بطريق غير معتاد ، فيجوز أن يخلق الله الكلام في شيء حادث سمعه موسى كما رُوي أن الله خلق الكلام في الشجرة التي كان موسى حذوها ، وذلك أولُ كلام كلّمه الله موسى في أرض مَدين في جبل ( حوريب ) ، ويجوز أن يخلق الله الكلام من خِلال السحاب وذلك الكلام الواقع في طُور سينا ، وهو المراد هنا ، وهو المذكور في الإصحاح 19 من سفر الخروج .
والكلام بهذه الكيفية كان يسمعه موسى حين يكون بعيداً عن الناس في المناجاة أو نحوها ، وهو أحد الأحوال الثلاثة التي يكلم الله بها أنبياءه كما في قوله تعالى : { وما كان لِبَشَرٍ أن يكلمه الله إلاّ وحيا } الآية في سورة الشورى ( 51 ) ، وهو حادث لا محالة ونسبته إلى الله أنه صادر بكيفية غير معتادة لا تكون إلاّ بإرادة الله أن يخالف به المعتاد تشريفاً له ، وهو المعبر عنه بقوله : { أوْ منْ وراء حجاب } [ الشورى : 51 ] ، وقد كلم الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ، وأحسب الأحاديث القدسية كلها أو معظمها مما كلم الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأما إرسال الله جبريل بكلام إلى أحد أنبيائه ، فهي كيفية أخرى ، وذلك بإلقاء الكلام في نفس المَلَك الذي يبلغه إلى النبي ، والقرآنُ كله من هذا النوع ، وقد كان الوحي إلى موسى بواسطة الملَك في أحوال كثيرة وهو الذي يعبر عنه في التوراة بقولها : قال الله لموسى .
وقوله : { قال رب أرني } هو جواب { لَمّا } على الأظهر ، فإنْ قدرنا الواو في قوله : { وكلمهُ } زائدة في جواب لما كان قوله : { قال } واقعاً في طريق المحاورة فلذلك فُصل .
وسؤالُ موسى رؤية الله تعالى تطلّع إلى زيادة المعرفة بالجلال الإلهي ، لأنه لما كانت المواعدة تتضمن الملاقاة . وكانت الملاقاة تعتمد رؤية الذات وسماع الحديث ، وحصل لموسى أحد ركني الملاقاة وهو التكليم ، أطمعه ذلك في الركن الثاني وهو المشاهدة ، وممّا يؤذن بأن التكليم هو الذي أطمع موسى في حصول الرؤية جعْلُ جملة { وكلمه ربه } شرطاً لحرف ( لمّا ) لأن ( لمّا ) تدل على شدة الارتباط بين شرطها وجوابها ، فلذلك يكثر أن يكون علة في حصول جوابها كما تقدم في قوله تعالى : { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما } في هذه السورة ( 22 ) ، هذا على جعل { وكَلمه } عطفاً على شرط لمّا ، وليسَ جوابَ لما ، ولا نشك في أنه سأل رؤية تليق بذات الله تعالى ، وهي مثل الرؤية الموعود بها في الآخرة ، فكان موسى يحسب أن مثلِها ممكن في الدنيا حتى أعلمه الله بأن ذلك غير واقع في الدنيا ، ولا يمتنع على نبي عدمُ العلم بتفاصيل الشؤون الإلهية قبل أن يُعلمها الله إياه ، وقد قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وقُل رب زدني علماً } [ طه : 114 ] ، ولذلك كان أيمة أهل السنة محقين في الاستدلال بسؤال موسى رؤية الله على إمكانها بكيفية تليق بصفات الإلاهية لا نعلم كنهها وهو معنى قولهم : « بلا كيف » .
وكانَ المعتزلةُ غير محقين في استدلالهم بذلك على استحالتها بكل صفة .
وقد يؤول الخلاف بين الفريقين إلى اللفظ ، فإن الفريقين متفقان على استحالة إحاطة الإدراك بذات الله واستحالة التحَيز ، وأهل السنة قاطعون بأنها رؤية لا تنافي صفات الله تعالى ، وأما ما تبجح به الزمخشري في « الكشاف » فذلك من عُدوان تعصبه على مخالفيه على عادته ، وما كان ينبغي لعلماء طريقتنا التنازلُ لمهاجاته بمثل ما هاجاهم به ، ولكنه قال فأوْجَب .
وأعلم أن سؤال موسى رؤية الله تعالى طلبٌ على حقيقته كما يؤذن به سياق الآية وليس هو السؤالَ الذي سأله بنوا اسرائيل المحكي في سورة البقرة ( 55 ) بقوله : { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } وما تمحل به في « الكشاف » من أنه هو ذلك السؤال تكلفٌ لا داعي له .
ومفعول { أرني } محذوف لدلالة الضمير المجرور عليه في قوله : { إليك } .
وفصل قوله : { قالَ لنْ تراني } لأنه واقع في طريق المحاورة .
و { لَن } يستعمل لتأبيد النفي ولتأكيد النفي في المستقبل ، وهما متقاربان ، وإنما يتعلق ذلك كله بهذه الحياة المعبر عنها بالأبد ، فنفت ( لن ) رؤية موسى ربّه نفياً لا طمع بعده للسائِل في الإلحاح والمراجعة بحيث يَعلم أن طلبته متعذرة الحصول ، فلا دلالة في هذا النفي على استمراره في الدار الآخرة .
والاستدراك المستفاد من { لكن } لرفع توهم المخاطَب الاقتصارَ على نفي الرؤية بدون تعليل ولا إقناع ، أو أن يتوهم أن هذا المنع لغضب على السائِل ومنقصة فيه ، فلذلك يعلم من حرف الاستدراك أن بعض ما يتوهمه سيُرفع ، وذلك أنه أمره بالنظر إلى الجبل الذي هو فيه هل يثبت في مكانه ، وهذا يعلم منه أن الجبل سيتوجه إليه شيءٌ من شأن الجلال الإلهي ، وأن قوة الجبل لا تستقر عند ذلك التوجه العظيم ، فيعلم موسى أنه أحرى بتضاؤل قواه الفانية لو تجلى له شيء من سُبُحات الله تعالى .
وعلق الشرط بحرف ( إنْ ) لأن الغالب استعمالها في مقام ندرة وقوع الشرط أو التعريض بتعَذره ، ولما كان استقرار الجبل في مكانه معلوماً لله انتفاؤه ، صح تعليق الأمر المرادِ تعذُر وقوعُه عليه بقطع النظر عن دليل الانتفاء ، فلذلك لم يكن في هذا التعليق حجَة لأهل السنة على المعتزلة تقتضي أن رؤية الله تعالى جائزة عليه تعالى ، خلافاً لما اعتاد كثيرٌ من علمائنا من الاحتجاج بذلك .
وقوله : { فسوف تراني } ليس بوعد بالرؤية على الفرض لأن سُبق قوله : { لن تراني } أزال طماعية السائل الرؤية ، ولكنه إيذان بأن المقصود من نظرِه إلى الجبل أن يرى رأي اليقين عجزَ القوة البشرية عن رؤية الله تعالى بالأحرى ، من عدم ثبات قوة الجبل ، فصارت قوة الكلام : أن الجبل لا يستقر مكانه من التجلي الذي يحصل عليه فلست أنت بالذي تراني ، لأنك لا تستطيع ذلك ، فمنزلة الشرط هنا منزلة الشرط الامتناعي الحاصل بحرف ( لو ) بدلالة قرينة السابِق .
والتجلي حقيقة الظهور وإزالة الحجاب ، وهو هنا مجاز ، ولعله أريد به إزالة الحوائِل المعتادة التي جعلها الله حجاباً بين الموجودات الأرضية وبين قوى الجبروت التي استأثر الله تعالى بتصريفها على مقاديرَ مضبوطة ومتدرجة في عوالم مترتبة ترتيباً يعلمه الله .
وتقريبُه للإفهام شبيه بما اصطلح عليه الحكماء في ترتيب العقول العشرة ، وتلك القوى تنسب إلى الله تعالى لكونها آثاراً لقدرته بدون واسطة ، فإذا أزال الله الحجاب المعتاد بين شيء من الأجسام الأرضية وبين شيء من تلك القوى المؤثرة تأثيراً خارقاً للعادة اتصلت القوة بالجسم اتصالاً تظهرُ له آثار مناسبة لنوع تلك القوة ، فتلك الإزالة هي التي استعير لها التجلي المسندُ إلى الله تعالى تقريباً للإفهام ، فلما اتصلت قوة ربانية بالجبل تُماثل اتصال الرؤية اندّك الجبل ، ومما يقرب هذا المعنى ، ما رواه الترمذي وغيره ، من طرق عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى : { فلما تجلى ربه } فوضع إبهامه قريباً من طرف خنصره يُقلل مقدار التجلي .
وصَعِق موسى من اندكاك الجبل فعلم موسى أنه لو توجه ذلك التجلي إليه لانتثر جسمه فُضاضاً .
وقرأ الجمهور { دكّاً } بالتنوين والدك مصدر وهو والدق مترادفان ، وهو الهدّ وتفرق الأجزاء كقوله { وتَخِر الجبال هدّاً } [ مريم : 90 ] ، وقد أخبر عن الجبل بأنه جعل دَكاً للمبالغة ، والمراد أنه مدكوك أي : مدقوق مهدوم . وقرأ الكسائي ، وحمزة ، وخلف { دَكّاء } بمد بعد الكاف وتشديد الكاف والدكاء الناقة التي لا سنام لها ، فهو تشبيه بليغ أي كالدكاء أي ذهبت قُنته ، والظاهر أن ذلك الذي اندك منه لم يرجع ولعل آثار ذلك الدك ظاهرة فيه إلى الآن .
والصعق : وصف بمعنى المصعوق ، ومعناه المغشي عليه من صيحة ونحوها ، مشتق من اسم الصاعقة وهي القطعة النارية التي تبلغ إلى الأرض من كهرباء البرق ، فإذا أصابت جسماً أحرقته ، وإذا أصابت الحيوان من قريب أماتته ، أو من بعيد غُشي عليه من رائحتها ، وسُمي خويلدُ بن نُفيْل الصِعقَ عَلماً عليه بالغلبة ، وإنما رجحنا أن الوصف والمصدر مشتقان من اسم الصاعقة دون أن نجعل الصاعقة مشتقاً من الصعق ؛ لأن أيمة اللغة قالوا : إن الصعْق الغشيُ من صيحة ونحوها ، ولكن توسعوا في إطلاق هذا الوصف على من غشي عليه بسبب هدة أو رجَة ، وإن لم يكن ذلك من الصاعقة .
والإفاقة : رجوع الإدراك بعد زواله بغشْي ، أو نوم ، أو سُكر ، أو تخبط جنون .
و { سبحانك } مصدر جاء عوضاً عن فعله أي أسبحك ، وهو هنا إنشاء ثناء على الله وتنزيه عما لا يليق به ، لمناسبة سؤاله منه مَا تبين له أنه لا يليق به سؤالهُ دون استيذانه وتحقققِ إمكانه كما قال تعالى لنوح : { فلا تسألني ما ليس لك به علم } في سورة هود ( 46 ) .
وقوله : { تبت إليك } إنشاء لتوبة من العود إلى مثل ذلك دون إذن من الله ، وهذا كقول نوح عليه السلام : { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } [ هود : 47 ] وصيغة الماضي من قوله : { تُبت } مستعملة في الإنشاء فهي مستعملة في زمن الحال مثل صيغ العقود في قولهم بعْتُ وزَوّجْتُ . مبالغة في تحقق العقد .
وقوله : { وأنا أول المؤمنين } أطلق { الأول } على المُبادر إلى الإيمان ، وإطلاق الأول على المبادر مجاز شائع مساو للحقيقة ، والمرادُ به هنا وفي نظائره الكناية عن قوة إيمانه ، حتى أنه يبادر إليه حين تردد غيره فيه ، فهو للمبالغة ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { ولا تكونوا أولَ كافر به } في سورة البقرة ( 41 ) ، وقوله : { وأنا أول المسلمين } في سورة الأنعام ( 163 ) .
والمراد بالمؤمنين من كان الإيمان وصفهم ولقبَهم ، أي الإيمان بالله وصفاته كما يليق به فالإيمان مستعمل في معناه اللقبي ، ولذلك شُبه الوصف بأفعال السجايا فلم يذكر له متعلّق ، ومن ذهب من المفسرين يقدر له متعلّقاً فقد خرج عن نهج المعنى .