قوله تعالى : { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } ، اختلفوا في الجالب لهذه الكاف التي في قوله { كما أخرجك ربك } قال المبرد : تقديره ، الأنفال لله وللرسول وإن كرهوا ، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن كرهوا ، وقيل : تقديره امض لأمر الله في الأنفال وإن كرهوا كما أمضيت لأمر الله في الخروج من البيت لطلب العير وهم كارهون . وقال عكرمة : معناه فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن ذلك خير لكم ، كما أن إخراج محمد صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق خير لكم ، وإن كرهه فريق منكم . وقال مجاهد : معناه كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره فريق منهم ، كذلك يكرهون القتال ويجادلون فيه . وقيل : هو راجع إلى قوله : { لهم درجات عند ربه } ، تقديره : وعد الدرجات لهم حق ينجزه الله عز وجل كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، فأنجز الوعد بالنصر والظفر . وقيل : الكاف بمعنى على ، تقديره : امض على الذي أخرجك ربك . وقال أبو عبيده : هي بمعنى القسم ، مجازها : والذي أخرجك ، لأن ( ما ) في موضع الذي ، وجوابه ( يجادلونك ) ، وعليه يقع القسم ، تقديره : يجادلونك والله الذي أخرجك ربك من بيتك بالحق . وقيل : الكاف بمعنى إذ ، تقديره : واذكر إذ أخرجك ربك . وقيل : المراد بهذا الإخراج هو إخراجه من مكة إلى المدينة ، والأكثرون على أن المراد منه إخراجه من المدينة إلى بدر ، أي : كما أمرك ربك بالخروج من بيتك إلى المدينة { بالحق } قيل : بالوحي لطلب المشركين .
( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ؛ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) . .
إن رد الأنفال لله والرسول ، وقسمتها بينهم على السواء ، وكراهة بعض المؤمنين لهذه التسوية . . ومن قبل كراهة بعضهم لاختصاص بعض الشباب بالنصيب الأوفر منها . . إنها شأن يشبه شأن إخراج الله لك من بيتك - بالحق - لمقاتلة الفرقة ذات الشوكة ؛ وكراهة بعض المؤمنين للقتال . . وبين أيديهم العاقبة التي أنتجت هذه الأنفال . .
ولقد سبق لنا في استعراض وقائع الغزوة - من كتب السيرة - أن أبا بكر وعمر قاما فأحسنا حين استشار رسول الله [ ص ] الناس معه في أمر القتال ، بعدما أفلتت القافلة ، وتبين أن قريشاً قد جاءت بشوكتها وقوتها . وأن المقداد بن عمرو قام فقال : يا رسول الله ، امض لأمر الله ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون . . . الخ " . وأن هذا كان كلام المهاجرين . فلما كرر رسول الله [ ص ] القول على الناس فهم الأنصار أنه إنما يعنيهم ، فقام سعد بن معاذ فقال كلاماً طويلاً قاطعاً مطمئناً . .
ولكن هذا الذي قاله أبو بكر وعمر ، والذي قاله المقداد ، والذي قاله سعد بن معاذ - رضي الله عنهم - لم يكن هو مقالة جميع الذين خرجوا من المدينة مع رسول الله [ ص ] فلقد كره بعضهم القتال ، وعارض فيه ، لأنهم لم يستعدوا لقتال ، إنما خرجوا لملاقاة الفئة الضعيفة التي تحرس العير ؛ فلما أن علموا أن قريشاً قد نفرت بخيلها ورجلها ، وشجعانها وفرسانها ، كرهوا لقاءها كراهية شديدة ، هي هذه الكراهية التي يرسم التعبير القرآني صورتها بطريقة القرآن الفريدة :
( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون ، يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) !
روى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره - بإسناده - عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله [ ص ] ونحن بالمدينة : " إني أخبرت عن عير أبي سفيان بأنها مقبلة ، فهل لكم أن نخرج قِبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها ? " فقلنا : نعم . فخرج وخرجنا . فلما سرنا يوماً أو يومين قال لنا : " ما ترون في قتال القوم ? إنهم قد أخبروا بخروجكم ! " فقلنا : لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ، ولكنا أردنا العير ! ثم قال : " ما ترون في قتال القوم ? " فقلنا مثل ذلك : فقال المقداد بن عمرو : إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى : ذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . . . فتمنينا - معشر الأنصار - أن لو قلنا كما قال المقداد بن عمرو أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ! قال : فأنزل الله على رسوله [ ص ] : ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون ) .
تشبيهُ حال بحال ، وهو متصل بما قبله : إما بتقدير مبتدأ محذوف ، هو اسم إشارة لما ذكر قبله ، تقديرُه : هذا الحال كحال ما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، ووجه الشبه هو كراهية المؤمنين في بادىء الأمر لما هو خير لهم في الواقع وإما بتقدير مصدر لفعل الاستقرار الذي يقتضيه الخبر بالمجرور في قوله { الأنفال لله وللرسول } [ الأنفال : 1 ] إذ التقدير : استقرت لله والرسول استقراراً كما أخرجك ربك ، أي فيما يلوح إلى الكراهية والامتعاض في بادىء الأمر ، ثم نوالهم النصرَ والغنيمةَ في نهاية الأمر ، فالتشبيه تمثيلي وليس مراعى فيه تشبيهُ بعض أجزاء الهيئة المشبهة ببعض أجزاء الهيئة المشبّه بها ، أي أن ما كرهتموه من قسمة الأنفال على خلاف مشتهاكم سيكون فيه خير عظيم لكم ، حسب عادة الله تعالى بهم في أمره ونهيه ، وقد دل على ما في الكلام من معنى مخالفة مشتهاهم قولُه { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم صادقين } [ الأنفال : 1 ] كما تقدم ، مع قوله في هذه الجملة { وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون } .
فجملة : { وإن فريقاً } في موضع الحال والعامل فيها { أخرجك ربك } هذا وجه اتصال كاف التشبيه بما قبلها على ما الأظهر ، وللمفسرين وجوه كثيرة بلغت العشرين قد استقصاها ابن عادل ، وهي لا تخلو من تكلف ، وبعضها متحد المعنى وبعضها مختلفُه ، وأحسن الوجوه ما ذكره ابن عطية ومعناه قريب مما ذكرنا وتقديره بعيد منه .
والمقصود من هذا الأسلوب : الانتقالُ إلى تذكيرهم بالخروج إلى بدر وما ظهر فيه من دلائِل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين .
و { ما } مصدرية . والإخراج : إما مراد به الأمر بالخروج للغزو ، وإما تقديرُ الخروج لهم وتيسيره .
والخروج مفارقة المنزل والبلدِ إلى حيننِ الرجوع إلى المكان الذي خرج منه ، أو إلى حيننِ البلوغ إلى الموضع المنتقل إليه .
والإخراج من البيت : هو الإخراج المعيّن الذي خرج به النبي صلى الله عليه وسلم غازياً إلى بدر .
والباء في { بالحق } للمصاحبة أي إخراجاً مصاحباً للحق ، والحق هنا الصواب ، لما تقدم آنفاً من أن اسم الحق جامع لمعنى كمال كل شيء في محامد نوعه .
والمعنى أن الله أمره بالخروج إلى المشركين ببدر أمراً موافقاً للمصلحة في حال كراهة فريق من المؤمنين ذلك الخروج .
وقد أشار هذا الكلام إلى السبب الذي خرج به المسلمون إلى بدر ، فكان بينهم وبين المشركين يوم بدر ، وذلك أنه كان في أوائل رمضان في السنة الثانية للهجرة إن قفلت عيرٌ لقريش فيها أموال وتجارة لهم من بلاد الشام ، راجعة إلى مكة ، وفيها أبو سفيان بن حرب في زهاء ثلاثين رجلاً من قريش ، فلما بلغ خبر هذه العير رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إليها فانتدب بعضهم وتثاقل بعضٌ ، وهم الذين كرهوا الخروج ، ولم ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تثاقلوا ومن لم يحْضر ظهرهم أي رواحلهم فسار وقد اجتمع من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر خرجوا يوم ثمانية من رمضان ، وكانوا يحسبون أنهم لا يلقون حرباً وأنهم يغيرون على العير ثم يرجعون ، وبلغ أبا سفيان خبر خروج المسلمين فأرسل صارخاً يستصرخ قريشاً لحماية العير ، فتجهز منهم جيش ، ولما بلغ المسلمون وادي ذفرَان بلغهم خروج قريش لتلقي العير ، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشاروا عليه بالمضي في سبيله وكانت العير يومئذ فاتتهم ، واطمأن أبو سفيان لذلك فأرسل إلى أهل مكة يقول إن الله نجى عيركم فارجعوا ، فقال أبو جهل لا نرجع حتى نَرِد بدراً ( وكان بدرٌ موضع ماء فيه سوق للعرب في كل عام ) فنقيم ثلاثاً ، فننحرَ الجُزر ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان ، وتتسامع العرب بنا وبمسيرنا فلا يزالوا يهابوننا ويعلموا أن محمداً لم يصب العير ، وأنا قد أعضضناه ، فسار المشركون إلى بدر وتنبكتْ عيرهم على طريق الساحل وأعلم الله النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأعلم المسلمين ، فاستشارهم وقال : العيرُ أحبُ إليكم أم النفير ، فقال أكثرهم العير أحب إلينا من لقاء العدو ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعاد استشارتهم فأشار أكثرهم قائلين : عليك بالعير فإنا خرجنا للعير فظهر الغضبُ على وجهه .
فتكلم أبو بكر ، وعمر ، والمقداد بنُ الأسود ، وسعدُ بن عبادةَ ، وأكثر الأنصار ، ففوضوا إلى رسول الله ما يرى أن يسير إليه صلى الله عليه وسلم فأمرهم حينئذ أن يسيروا إلى القوم ببدر فساروا . وكان النصر العظيم الذي هز به الإسلامُ رأسه .
فهذا ما أشار إليه قوله تعالى : { وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون } وذلك أنهم خرجوا على نية التعرض للعير ، وأن ليس دونَ العير قتال ، فلما أخبرهم عن تجمع قريش لقتالهم تكلم أبو بكر فأحسن ، وتكلم عمر فأحسن ، ثم قام المقداد بن الأسود فقال « يا رسول الله امضِ لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هَهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديكَ وخلفك ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى ( بَرْكِ الغماد ) ( بفتح باء برك وغين الغماد ومعجمة مكسورة موضع باليمن بعيد جداً عن مكة ) لجادلنا معك من دونه حتى تبلغه . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أشيروا عليّ أيها الناس " وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم حين بايعُوه بالعقبة قالوا يومئذ « إنا بُرءاء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فإنك في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا » فكان رسول الله يتخوف أن يكون الأنصار لا يرون نصرَه إلا ممّن دَهمه بالمدينة ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أشيروا عليّ قال له سعد بن معاذ « والله لكأنّك تريدنا يا رسول الله قال : أجلْ قال : فقد آمنّا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحرَ فخصته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد وما نَكْرَهُ أن تلقى بنا عدونا غداً إنا لصبرٌ في الحرب صدقٌ في اللقاء لعل الله يريك بنا ما تقرُّ به عينُك فسِرْ بنا على بركة الله » فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين أي ولم يخص وعد النصر ، بتلقي العير فقط فما كان بعد ذلك إلا أن زال من نفوس المؤمنين الكارهين للقتال ما كان في قلوبهم من الكراهية ، وقوله { وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون } في موضع الحال من الإخراج الذي أفادته ، ( ما ) المصدرية ، وهؤلاء هم الذين تثاقلوا وقت العزم على الخروج من المدينة ، والذين اختاروا العير دون النفيرِ حين استشارة وادي ذَفِرَان ، لأن ذلك كله مقترن بالخروج لأن الخروج كان ممتداً في الزمان ، فجملة الحال من قوله : { وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون } حال مقارنة لعاملها وهو { أخرجك } .
وتأكيد خبر كراهية فريق من المؤمنين بإن ولام الابتداء مستعمل في التعجيب من شأنهم بتنزيل السامع غير المنكر لوقوع الخبر منزلةَ المنكر لأن وقوع ذلك مما شأنه أن لا يقع ، إذ كان الشأن اتباع ما يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم أو التفويضَ إليه ، وما كان ينبغي لهم أن يكرهوا لقاء العدو . ويستلزم هذا التنزيلُ التعجيبَ من حال المخبر عنهم بهذه الكراهية فيكون تأكيد الخبر كناية عن التعجيب من المخبر عنهم .