الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} (5)

{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } فيه وجهان أحدهما . أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره . هذه الحال كحال إخراجك . يعني أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب . والثاني : أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدّر في قوله : { الانفال لِلَّهِ والرسول } [ الأنفال : 1 ] أي الأنفال استقرت لله والرسول ، وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون . و { مِن بَيْتِكَ } يريد بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها ، لأنها مهاجره ومسكنه ، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه { بالحق } أي إخراجاً ملتبساً بالحكمة والصواب الذي لا محيد عنه { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ } في موضع الحال ، أي أخرجك في حال كراهتهم ، وذلك : أن عير قريش أقبلت من الشأم فيها تجارة عظيمة معها أربعون راكباً ، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام ، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين ، فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم ، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم ، فنادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول ، عيركم أموالكم ، إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً ، وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها : إني رأيت عجباً رأيت كأنّ ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة . فحدث بها العباس فقال أبو جهل : ما يرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأ نساؤهم ، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير . في المثل السائر : لا في العير ولا في النفير ، فقيل له : إنّ العير أخذت طريق الساحل ونجت ، فارجع بالناس إلى مكة ، فقال : لا والله لا يكون ذلك أبداً حتى ننحر الجزور ، ونشرب الخمور ، ونقيم القينات والمعازف ببدر ، فيتسامع جميع العرب بمخرجنا ، وإن محمداً لم يصب العير ، وإنا قد أعضضناه ، فمضى بهم إلى بدر - وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة - فنزل جبريل عليه السلام فقال : يا محمد ؛ إن الله وعدكم إحدى الطائفتين : إمّا العير ، وإمّا قريشاً ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال : ما تقولون ؛ إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول ، فالعير أحب إليكم أم النفير ؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم ردّد عليهم فقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا يا رسول الله ، عليك بالعير ودع العدوّ ، فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة فقال : انظر أمرك فامض .

فوالله لو سرت إلى عدن أبين . ما تخلف عنك رجل من الأنصار ، ثم قال المقداد بن عمرو يا رسول الله ، امض لما أمرك الله ، فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ، ولكن : إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، ما دامت عين منا تطرف ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أشيروا عليّ أيها الناس وهو يريد الأنصار ، لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا ، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن لا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة ، فقام سعد بن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل ، قال : قد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا إنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، ولعلّ الله يريك منا ما تقرّبه عينك ، فسر بنا على بركة الله ، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسطه قول سعد ، ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم . وروي : أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء ، فناداه العباس وهو في وثاقه : لا يصلح فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم ؟ قال : لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين . وقد أعطاك ما وعدك ، وكانت الكراهة من بعضهم لقوله : { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ } .