السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} (5)

وقوله تعالى :

{ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج واختلفوا في تقدير ذلك ، فقال المبرد : تقديره الأنفال لله والرسول وإن كرهوا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق إلى القتال وإن كانوا كارهين له .

قال الرازي : وهذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة في هذا الموضع ، وقال عكرمة : تقديره فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، فإنّ ذلك خير لكم كما أنّ إخراج محمد من بيته خير لكم ، وإن كرهه فريق منكم ، وقال الكسائيّ : الكاف متعلق بما بعده ، وهو قوله : { يجادلونك في الحق } ، والتقدير كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه ، وقيل : الكاف بمعنى على تقديره امض على الذي أخرجك ربك ، وقيل : الكاف بمعنى إذ تقديره واذكر إذ أخرجك ربك من بيتك بالحق { وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون } الخروج والجملة حال من كاف أخرجك ، وقيل : كما خبر مبتدأ محذوف أي : هذه الحالة في كراهتهم لها مثل إخراجك في حال كراهتهم ، وقد كان خيراً لهم ، فكذلك هذه أيضاً ، وذلك أنّ أبا سفيان قدم بعير من الشام في أربعين راكباً منهم عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل الزهريّ ، وفيها تجارة كثيرة ، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم لقيّ العير لكثرة المال وقلة العدوّ ، فلما سمع أبو سفيان بمسير النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه استأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ وبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أنّ محمداً وأصحابه قد خرجوا لعيرهم ، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكة ، وكانت عاتكة أخت العباس بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رأت رؤيا فقالت لأخيها العباس : إني رأيت عجباً رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، فأرى الناس قد اجتمعوا عليه ، ورأيت كأنّ ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها ورمى أي : رمى بها إلى فوق فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة ، فقال العباس : اكتميها فلا تذكريها لأحد ، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وكان صديقاً له ، فذكرها له واستكتمه فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش ، قال العباس : فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة ، فلما رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل علينا قال : فلما فرغت من طوافي أقبلت حتى جلست معهم فقال أبو جهل : يا بني عبد المطلب متى حدثت هذه الفتنة فيكم ؟ قلت : وما ذاك ، قال : الرؤيا التي رأت عاتكة ، قلت : وما رأت ؟ قال : يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث فنتربص بكم الثلاث فإن بك ما قالت حقاً فسيكون وإن تمض الثلاث ، ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب ، قال العباس : فوالله ما كان مني إليه كبير أمر إلا أني جحدت ذلك وأنكرته أن لا تكون عاتكة رأت شيئاً ، ثم تفرقنا ، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، ثم تناول النساء وأنت تسمع ، ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت ، قال : قلت : والله ما كان مني إليه من شيء وايم الله تعالى لأتعرّضن له فإن عاد لأكفينكنه ، قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة ، وأنا حديد مغضب أرى أنّ قد فاتني منه أمر أحبّ أن أدركه منه قال : فدخلت المسجد ، فرأيته قال : فوالله إني لأمشي نحوه لأتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به ، وكان أبو جهل رجلاً خفيفاً حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر إذ خرج نحو باب المسجد يشتدّ قال : قلت : ماله لعنه الله أكان هذا فرقاً مني أن أشاتمه قال : فإذا هو سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره ، وقد حوّل رحله وشق قميصه ، وهو يقول : يا معشر قريش هذه أموالكم مع أبي سفيان ، وقد عرض لها محمد وأصحابه ، فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء ، وهو بالمدّ : الإسراع منصوب على الإغراء أي : الزموا الإسراع على كل صعب وذلول أي : أسرعوا مجتمعين ولا تقفنّ لأن تختاروا للركوب ذلولاً دون صعب عيركم أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً ، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير في المثل لا في العير ولا في النفير فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس ، فقال : والله لا يكون ذلك أبداً حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ونقيم القينات والمعازف ببدر فيتسامع جميع العرب بمخرجنا وأن محمداً لم يصب العير فإنا قد أعضضناه فمضى بهم إلى بدر ، وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة ، ونزل جبريل عليه السلام وقال : يا محمد إنّ الله وعدكم إحدى الطائفتين إمّا العير وإمّا قريشاً ، فاستشار النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه ، وقال : ما تقولون ؟ إنّ القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول ، فالعير أحبّ إليكم أم النفير ؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ردّد عليهم ، وقال : إنّ العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدّو فقام عند غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا الكلام وأمالاه إلى المضيّ إلى العدوّ ، ثم قام سعد بن عبادة ، فقال : انظر أمرك فاقض فوالله لو سرت إلى عدن أبين ، وهي مدينة معروفة باليمن ، وأبين بوزن أبيض اسم رجل من حمير عدن بها أي : أقام ، ما تخلف عنك رجل من الأنصار .

ثم قال المقداد بن عمرو : يا رسول الله امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : ( أشيروا عليّ أيها الناس ) وهو يريد الأنصار ؛ لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلى ديارنا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن تكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة فقام سعد بن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : «أجل » ، قال : قد آمنا بك وصدّقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فوالله الذي بعثك بالحق نبياً لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقي بنا عدوّنا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، ولعلّ الله تعالى يريك منا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة الله ، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسطه قول سعد رضي الله عنه ، قال : سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا ، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدّثه عن أهل بدر قال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول : ( هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى ، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى ) قال عمر فوالذي بعثه بالحق نبياً ما أخطأ الحدود التي حدّها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال : ( يا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقاً فإني وجدت ما وعدني الله حقاً ) فقال عمر : كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها ، فقال : ( ما أنتم أسمع لما أقول لهم منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئاً ) .

وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء ، فناداه العباس وهو في وثاقه أي : قيده وكان العباس حينئذ مأسوراً مقيداً لا يصلح ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ؟ قال : لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك فكانت الكراهة من بعضهم لقوله تعالى : { وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون } .