مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} (5)

الكاف في { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } في محل النصب على أنه صفة لمصدر الفعل المقدر ، والتقدير : قل الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون { مِن بَيْتِكَ } يريد بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها لأنها مهاجرة ومسكنة فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه { بالحق } إخراجاً متلبساً بالحكمة والصواب { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ } في موضع الحال أي أخرجك في حال كراهتهم . وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان ، فأخبر جبريل النبي عليه السلام فأخبر أصحابه فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم ، فلما خرجوا علمت قريش بذلك فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهو النفير في المثل السائر : لا في العير ولا في النفير . فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت ، فأبى وسار بمن معه إلى بدر وهو ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة ونزل جبريل عليه السلام فقال : يا محمد ، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين ، إما العير وإما قريشاً . فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال : « العير أحب إليكم أم النفير » قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدو . فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّد عليهم فقال : « إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل » فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو . فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة فقال انظر أمرك فامض ، فوالله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار .

ثم قال المقداد بن عمرو : امض لما أمرك الله فإنا معك حيث أحببت ، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : { اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون . ما دامت عين منا تطرف ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال سعد بن معاذ : امض يا رسول الله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، فسر بنا على بركة الله . ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشطه قول سعد ثم قال : «سيروا على بركة الله أبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم » وكانت الكراهة من بعضهم لقوله { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ } قال الشيخ أبومنصور رحمه الله : يحتمل أنهم منافقون كرهوا ذلك اعتقاداً ، ويحتمل أن يكونوا مخلصين ، وأن يكون ذلك كراهة طبع لأنهم غير متأهبين له .