قوله تعالى : { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } ، محل ( الذين ) نصب عطف على الذين الأول ، وقيل : خفض عطفاً على قوله : { وأعتدنا للكافرين } نزلت في اليهود وقال السدي : في المنافقين ، وقيل : مشركي مكة المتفقين على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم . قوله تعالى : { ومن يكن الشيطان له قريناً } ، صاحباً وخليلاً .
قوله تعالى : { فساء قريناً } ، أي : فبئس الشيطان قريناً ، وهو نصب على التفسير ، وقيل : على القطع بإلغاء الألف واللام كما تقول : نعم رجلاً عبد الله ، وكما قال تعالى : { بئس للظالمين بدلاً } [ الكهف :50 ] و{ ساء مثلاً } [ الأعراف : 177 ] .
ويعقب على الأمر بالإحسان ، بتقبيح الاختيال والفخر ، والبخل والتبخيل ، وكتمان نعمة الله وفضله ، والرياء في الإنفاق ؛ والكشف عن سبب هذا كله ، وهو عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ، واتباع الشيطان وصحبته :
( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله . وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا . والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ! ) . .
وهكذا تتضح مرة أخرى تلك اللمسة الأساسية في المنهج الإسلامي . وهي ربط كل مظاهر السلوك ، وكل دوافع الشعور ، وكل علاقات المجتمع بالعقيدة . فإفراد الله - سبحانه - بالعبادة والتلقي ، يتبعه الإحسان إلى البشر ، ابتغاء وجه الله ورضاه ، والتعلق بثوابه في الآخرة ؛ في أدب ورفق ومعرفة بأن العبد لا ينفق إلا من رزق الله . فهو لا يخلق رزقه ، ولا ينال إلا من عطاء الله . . والكفر بالله وباليوم الآخر يصاحبه الاختيال والفخر ، والبخل والأمر بالبخل ، وكتمان فضل الله ونعمته بحيث لا تظهر آثارها في إحسان أو عطاء ؛ أو الإنفاق رياء وتظاهرا طلبا للمفخرة عند الناس ؛ إذ لا إيمان بجزاء آخر غير الفخر والخيلاء بين العباد !
وهكذا تتحدد " الأخلاق " . . أخلاق الإيمان . وأخلاق الكفر . . فالباعث على العمل الطيب ، والخلق الطيب ، هو الإيمان بالله واليوم الآخر ، والتطلع إلى رضاء الله . . وجزاء الآخرة . فهو باعث رفيع لا ينتظر صاحبة جزاء من الناس ، ولا يتلقاه ابتداء من عرف الناس ! فاذا لم يكن هناك إيمان باله يبتغي وجهه ، وتتحدد بواعث العمل بالرغبة في رضاه . وإذا لم يكن هناك اعتقاد بيوم آخر يتم فيه الجزاء . . اتجه هم الناس إلى نيل القيم الأرضية المستمدة من عرف الناس . وهذه لا ضابط لها في جيل واحد في رقعة واحدة ، فضلا عن أن يكون لها ضابط ثابت في كل زمان وفي كل مكان ! وكانت هذه هي بواعثهم للعمل . وكان هناك التأرجح المستمر كتأرجح أهواء الناس وقيمهم التي لا تثبت على حال ! وكان معها تلك الصفات الذميمة من الفخر والخيلاء ، والبخل والتبخيل ، ومراءاة الناس لا التجرد والإخلاص !
والتعبير القرآني يقول : إن الله " لا يحب هؤلاء . . والله - سبحانه - لا ينفعل انفعال الكره والحب . إنما المقصود ما يصاحب هذا الانفعال في مألوف البشر من الطرد والأذى وسوء الجزاء : " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " . . والإهانة هي الجزاء المقابل للفخر والخيلاء . ولكن التعبير القرآني يلقي ظلاله - إلى جوار المعنى المقصود - وهي ظلال مقصودة ؛ تثير في النفوس الكره لهذه الصفات ، ولهذه التصرفات ؛ كما تثير الاحتقار والاشمئزاز . وبخاصة حين يضم إليها أن الشيطان هو قرينهم : " ومن يكن الشيطان له قرينًا فساء قرينًا ! "
وقد ورد أن هذه النصوص نزلت في جماعة من يهود المدينة . . وهي صفات تنطبق على اليهود ، كما تنطبق على المنافقين . . وكلاهما كان موجودا في المجتمع المسلم في ذلك الحين . . وقد تكون الإشارة إلى كتمانهم ما آتاهم الله من فضله ، تعني كذلك كتمانهم للحقائق التي يعرفونها في كتبهم عن هذا الدين ، وعن رسوله الأمين . . ولكن النص عام ، والسياق بصدد الإحسان بالمال وبالمعاملة . فأولى أن نترك مفهومه عاما . لأنه الأقرب إلى طبيعة السياق .
وقوله تعالى : { والذين ينفقون } الآية - قال الطبري : { الذين } في موضع خفض عطف على الكافرين ، ويصح أن يكون في موضع رفع عطفاً على { الذين يبخلون } على تأويل : من رآه مقطوعاً ورأى الخبر محذوفاً ، وقال : إنها نزلت في اليهود ، ويصح أن يكون في موضع رفع على العطف وحذف الخبر ، وتقديره : بعد اليوم الآخر معذبون ، وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في اليهود ، قال الطبري : وهذا ضعيف ، لأنه نفى عن هذه الصفة الإيمان بالله واليوم الآخر ، واليهود ليسوا كذلك .
قال القاضي أبو محمد : وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام ، إذ إيمانهم باليوم الآخر كلا إيمان من حيث لا ينفعهم ، وقال الجمهور : نزلت في المنافقين ، وهذا هو الصحيح ، وإنفاقهم : هو ما كانوا يعطون من زكاة ، وينفقون في السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «رياء » ودفعاً عن أنفسهم ، لا إيماناً بالله ، ولا حباً في دينه { ورثاء } نصب على الحال من الضمير في { ينفقون } والعامل { ينفقون } ويكون قوله : { ولا يؤمنون } في الصلة ، لأن الحال لا تفرق إذا كانت مما هو في الصلة ، وحكى المهدوي : أن الحال تصح أن تكون من { الذين } فعلى هذا يكون { ولا يؤمنون } مقطوعاً ليس من الصلة ، والأول أصح ، وما حكى المهدوي ضعيف ، ويحتمل أن يكون { ولا يؤمنون } في موضع الحال ، أي : غير مؤمنين ، فتكون الواو واو الحال .
و «القرين » : فعيل بمعنى فاعل ، من المقارنة وهي الملازمة والاصطحاب{[4032]} ، وهي هاهنا مقارنة مع خلطة وتواد ، والإنسان كله يقارنه الشيطان ، لكن الموفق عاص له ، ومنه قيل لما يلزمان الإبل والبقر قرينان ، وقيل للحبل الذي يشدان به : قرن ، قال الشاعر : [ البسيط ]
كَمُدْخِلٍ رأَسَهُ لَمْ يُدْنِهِ أَحَدٌ *** بَيْنَ القَرِينَيْنِ حَتّى لزَّهُ الْقَرَنُ{[4033]}
فالمعنى : ومن يكن الشيطان له مصاحباً وملازماً ، أو شك أن يطيعه فتسوء عاقبته ، و { قريناً } نصب على التمييز ، والفاعل ل «ساء » مضمر ، تقديره ساء القرين قريناً ، على حد بئس ، وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى : { بئس للظالمين بدلاً }{[4034]} وذلك مردود ، لأن { بدلاً } حال ، وفي هذا نظر{[4035]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.