قوله تعالى : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } ، يعني : أهلك القرون الماضية وأورثكم الأرض يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم من بعدهم ، فجعلكم خلائف منهم فيها تخلفونهم فيها ، وتعمرونها بعدهم ، والخلائف جمع خليفة كالوصائف جمع وصيفة ، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة لأنه يخلفه .
قوله تعالى : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } ، أي : خالف بين أحوالكم فجعل بعضكم فوق بعض في الخلق والرزق والمعاش والقوة والفضل .
قوله تعالى : { ليبلوكم في ما آتاكم } ، ليختبركم فيما رزقكم ، يعني : يبتلي الغني والفقير ، والشريف والوضيع ، والحر والعبد ، ليظهر منكم ما يكون عليه من الثواب والعقاب . قوله تعالى : { إن ربك سريع العقاب } ، لأن ما هو آت فهو سريع قريب ، قيل : هو الهلاك في الدنيا .
قوله تعالى : { وإنه لغفور رحيم } ، قال عطاء : سريع العقاب لأعدائه ، غفور لأوليائه رحيم بهم .
( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )
ولا نحتاج أن نكرر ما قلناه مراراً من دلالة هذه المثاني التي تردد في المطالع والختام . فهي صور متنوعةللحقيقة الواحدة . . الحقيقة التي تبدو مرة في صورة عقيدة في الضمير . وتبدو مرة في صورة منهج للحياة . . وكلتا الصورتين تعنيان حقيقة واحدة في مفهوم هذا الدين . .
ولكننا نتلفت الآن - وقد انتهى سياق السورة - على المدى المتطاول ، والمساحة الشاسعة ، والأغوار البعيدة . . تلك التي تتراءى فيها أبعاد السورة - ما سبق منها في الجزء السابع وما نواجهه منها في هذا الجزء - فإذا هو شيء هائل هائل . . وننظر إلى حجم السورة ، فإذا هي كذا صفحة ، وكذا آية ، وكذا عبارة . . ولو كان هذا في كلام البشر ما اتسعت هذه الرقعة لعشر معشار هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والمؤثرات والموحيات ؛ في مثل هذه المساحة المحدودة ! . . وذلك فضلاً على المستوى المعجز الذي تبلغه هذه الحقائق بذاتها ، والذي يبلغه التعبير عنها كذلك . .
ألا إنها رحلة شاسعة الآماد ، عميقة الأغوار ، هائلة الأبعاد هذه التي قطعناها مع السورة . . رحلة مع حقائق الوجود الكبيرة . . رحلة تكفي وحدها لتحصيل " مقومات التصور الإسلامي " !
حقيقة الألوهية بروعتها وبهائها وجلالها وجمالها . .
وحقيقة الكون والحياة وما وراء الكون والحياة من غيب مكنون ، ومن قدر مجهول ، ومن مشيئة تمحو وتثبت ، وتنشئ وتعدم ، وتحيي وتميت ، وتحرك الكون والأحياء والناس كما تشاء .
وحقيقة النفس الإنسانية ، بأغوارها وأعماقها ، ودروبها ومنحنياتها ، وظاهرها وخافيها ، وأهوائها وشهواتها ، وهداها وضلالها ، وما يوسوس لها من شياطين الإنس والجن . وما يقود خطواتها من هدى أو ضلال . .
ومشاهد قيامة ، ومواقف حشر ، ولحظات كربة وضيق ، ولحظات أمل واستبشار . ولقطات من تاريخ الإنسان في الأرض ؛ ولقطات من تاريخ الكون والحياة .
وحشود وحشود من هذه المجالي التي لا نملك تلخيصها في هذه العجالة . والتي لا تعبر عنها إلا السورة نفسها ، في سياقها الفريد ، وفي أدائها العجيب .
إنه الكتاب " المبارك " . . وهذه - بلا شك - واحدة من بركاته الكثيرة . . والحمد لله رب العالمين . .
و { خلائف } جمع خليفة أي يخلف بعضكم بعضاً{[5185]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يتصور في جميع الأمم وسائر أصناف الناس ، لأن من أتى خليفة لمن مضى ولكنه يحسن في أمة محمد عليه السلام أن يسمى أهلها بجملتهم خلائف للأمم ، وليس لهم من يخلفهم إذ هم آخر الأمم وعليهم قيام الساعة .
وروى الحسن بن أبي الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله » ، ويروى أنتم آخرها وأكرمها على الله : وقوله { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } لفظ عام في المال والقوة والجاه وجودة النفوس والأذهان وغير ذلك ، وكل ذلك إنما هو ليختبر الله تعالى الخلق فيرى المحسن من المسيء ، ولما أخبر عز وجل بهذا ففسح للناس ميدان العمل وحضهم على الاستباق إلى الخير توعّد ووعد تخويفاً منه وترجية ، فقال { إن ربك سريع العقاب } وسرعة عقابه إما بأخذاته في الدنيا ، وإما بعقاب الآخرة ، وحسن أن يوصف عقاب الآخرة ب { سريع } لما كان متحققاً مضمون الإتيان والوقوع ، فكل آت يحكم عليه بالقرب ويوصف به{[5186]} { وإنه لغفور رحيم } ترجية لمن أذنب وأراد التوبة ، وهذا في كتاب الله كثير اقتران الوعيد بالوعد لطفاً من الله تعالى بعباده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.