قوله تعالى : { أولئك الذين هدى الله } ، أي : هداهم الله .
قوله تعالى : { فبهداهم } ، فبسنتهم وسيرتهم .
قوله تعالى : { اقتده } ، الهاء فيها هاء الوقف ، وحذف حمزة والكسائي ويعقوب الهاء في الوصل ، والباقون بإثباتها وصلاً ووقفاً ، وقرأ ابن عامر : ( اقتده ) بإشباع الهاء كسراً .
قوله تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو } ، ما هو .
( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده . قل : لا أسألكم عليه أجرا . إن هو إلا ذكرى للعالمين )
وهو التقرير الثالث . . فهؤلاء الرهط الكرام الذين يقودون موكب الإيمان ، هم الذين هداهم الله . وهداهم الذي جاءهم من الله فيه القدوة لرسول الله [ ص ] ومن آمن به . فهذا الهدى وحده هو الذي يسير عليه . وهذا الهدى وحده هو الذي يحتكم إليه ، وهذا الهدى وحده هو الذي يدعو إليه ويبشر به . . قائلا لمن يدعوهم :
( لا أسألكم عليه أجرًا ) . . ( إن هو إلا ذكرى للعالمين ) . . للعالمين . . لا يختص به قوم ولا جنس ولا قريب ولا بعيد . . إنه هدى الله لتذكير البشر كافة . ومن ثم فلا أجر عليه يتقاضاه . وإنما أجره على الله !
وقوله تعالى : { أولئك الذين هدى الله } الآية ، الظاهر في الإشارة ب { أولئك } أنها إلى المذكورين قبل من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين المهديين ، ومعنى الاقتداء : اتباع الأثر في القول والفعل والسيرة ، وإنما يصح اقتداؤه بجميعهم في العقود والإيمان والتوحيد الذي ليس بينهم فيه اختلاف ، وأما أعمال الشرائع فمختلفة ، وقد قال عز وجل : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً }{[5001]} ويحتمل أن تكون الإشارة ب { أولئك } إلى قوله { قوماً } .
قال القاضي أبو محمد : وذلك يترتب على بعض التأويلات في المراد بالقوم ويقلق بعضها ، قال القاضي ابن الباقلاني : واختلف الناس هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه متعبداً بشرع من كان قبله ، فقالت طائفة كان متعبداً ، واختلف بشرع من ؟ فقالت فرقة بشرع إبراهيم ، وفرقة بشرع موسى ، وفرقة بشرع عيسى ، وقالت طائفة بالوقف في ذلك ، وقالت طائفة لم يكن متعبداً بشرع من كان قبله وهو الذي يترجح .
قال القاضي أبو محمد : ولا يحمل كلام القاضي على أنه لم يكن متعبداً بشرع من كان قبله في توحيد ولا معتقد لأنَّا نجد شرعنا ينبىء أن الكفار الذين كانوا قبل النبي عليه السلام كأبويه وغيرهما في النار ولا يدخل الله تعالى أحداً النار إلا بترك ما كلف ، وذلك في قوله تعالى :{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً }{[5002]} وغير ذلك وقاعدة المتكلمين أن العقل لا يوجب ولا يكلف وإنما يوجب الشرع ، فالوجه في هذا أن يقال إن آدم عليه السلام فمن بعده دعا إلى توحيد الله دعاء عاماً واستمر ذلك على العالم ، فواجب على الآدمي البالغ أن يبحث على الشرع الآمر بتوحيد الله تعالى وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك بحسب إيجاب الشرع النظر فيها ، ويؤمن ولا يعبد غير الله ، فمن فرضناه لم يجد سبيلاً إلى العلم بشرع آمر بتوحيد الله وهو مع ذلك لم يكفر ولا عبد صنماً بل تخلى فأولئك أهل الفترات الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة وهم بمنزلة الأطفال والمجانين ، ومن قصر في النظر والبحث فعبد صنماً وكفر فهذا تارك للواجب عليه مستوجب العقاب بالنار ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث ومن كان معه من الناس وقبله مخاطبون على ألسنة الأنبياء قبل بتوحيد الله عز وجل ، وغير مخاطبين بفروع شرائعهم إذ هي مختلفة وإذ لم يدعهم إليها نبي ، وأما بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فهل هو وأمته مخاطبون بشرع من تقدم ؟ فقالت فرقة : لسنا مخاطبين بشيء من ذلك ، وقالت فرقة : نحن مخاطبون بشرع من قبلنا .
قال القاضي أبو محمد : ومن قال من هذه الطائفة إن محمداً عليه السلام وأمته مخاطبون بكل شرائع من تقدم على الإطلاق فقد أحال ، لأن أحكام الشرائع تأتي مختلفة وإنما يتحدق قول من قال منها إنَّا متعبدون بما صح نقله من شرائع من قبلنا ولم تختلف فيه الشرائع وبالآخر مما اختلفت فيه لأنه الناسخ المتقدم{[5003]} ويرتكن في صحة نقل ذلك إلى ما وقع في القرآن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من حكاية أحكام سالفة كقوله تعالى : { وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به }{[5004]} وكقوله : { أقم الصلاة لذكري }{[5005]} وكحكاية تزويج شعيب ابنته بموسى عليهما السلام ، وكحديث النبي عليه السلام في قضية سليمان بين المرأتين في الولد ونحو ذلك ، ولا يقتضي قولهم أكثر من جواز أن يتعبد بذلك وأما وجوب أن يتعبد فغير لازم ، ولا يتعلق عندي أشبه في ذلك من أن يقال إن النبي عليه السلام شرع لأمته أن يصلي الناس صلاته إذا ذكرها ، ثم مثل في ذلك لا على طريق التعليل بقوله عز وجل لموسى { وأقم الصلاة لذكري }{[5006]} فننقل نحن هذا إلى غير ذلك من النوازل ونقول إنه كما شرع عندنا المثال في نسيان الصلاة كذلك نشرع هذه الأمثلة كلها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قياس ضعيف ، ولو ذكر النبي عليه السلام قوله تعالى :{ وأقم الصلاة لذكري } [ طه : 14 ] على جهة التعليل لكانت الحجة به قوية ، ولا يصح أن يقال يصح عندنا نقل ما في الشرائع من جهة من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وغيره صحة ننقلها ، وكذلك ما شرعه الحواريون لا سبيل إلى صحة شرع عيسى عليه السلام له{[5007]} ، وقرأ ابن كثير وأهل مكة ونافع وأبو عمرو وأهل المدينة وعاصم «اقتده » بهاء السكت ثابتة في الوقف والوصل ، وقرأ حمزة والكسائي «اقتد » قال بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف ، وهذا هو القياس ، وهي تشبه ألف الوصل في أنها تقطع في الابتداء وتوصل غير مبتدأ بها ، فكذلك هذه تثبت في الوقف وتحذف في الوصل ، وقرأ ابن عامر «اقتدهِ » بكسر الهاء دون بلوغ الياء ، قال ابن مجاهد وهذا غلط لأنها هاء وقف لا تعرب على حال ، قال أبو علي ووجه ذلك أن تكون ضمير المصدر كأنه قال اقتد الاقتداء ، وقرأ ابن ذكوان على هذه «اقتدهِ » بإشباع الياء بعد الهاء ، وقالت فرقة إن كسر الهاء إنما هو في هاء السكت كما قد تسكن هاء الضمير أحياناً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، ولا تجوز عليه القراءة بإشباع الياء ، وقوله تعالى : { قل لا أسألكم } الآية ، المعنى قل يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين لا أسألكم على دعائي إياكم بالقرآن إلى عبادة الله وتوحيده أستكثر بها وأختص بدنياها ، إن القرآن إلا موعظة ، وذكرى ودعاء لجميع العالمين .