الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ قُل لَّآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًاۖ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡعَٰلَمِينَ} (90)

قوله سبحانه : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده }[ الأنعام :90 ] .

الظاهر في الإشارة ب { أولئك } إلى المذكورين قبلُ من الأنبياء ومَنْ معهم من المؤمنين المهديين ، ومعنى الاقتداء : اتباع الأثر في القول والفعل والسِّيرة ، وإنما يصحُّ اقتداؤه صلى الله عليه وسلم بجميعهم في العقودِ ، والإيمان ، والتوحيدِ الذي ليْسَ بينهم فيه اختلاف ، وأما أعمالُ الشرائع فمختلفةٌ ، وقد قال عزَّ وجلَّ : { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا } [ المائدة : 48 ] ، واعلم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو وغيره مخاطَبٌ بشَرْع مَنْ قبله في العقود والإيمانِ والتوحيدِ ، لأنا نجد شرعنا ينبئ أنَّ الكفار الذين كانوا قبل النبيِّ صلى الله عليه وسلم كَأَبَوَيْهِ وغيرهما في النَّار ، ولا يُدْخِلُ اللَّهُ تعالى أحداً النار إلا بتَرْك ما كُلِّفَ ، وذلك في قوله سبحانه : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، وغير ذلك ، وقاعدةُ المتكلِّمين : أن العقل لا يوجِبُ ولا يكلِّف ، وإنما يوجب الشرْعُ ، فالوجه في هذا أنْ يقال : إنَّ آدم عليه السلام فَمَنْ بعده ، دعا إلى توحيد اللَّه ( عزَّ وجلَّ ) دعاءً عامًّا ، واستمر ذلك على العالَمِ ، فواجبٌ على الآدميِّ أنْ يبحث عن الشرْعِ الآمِرِ بتوحيدِ اللَّهِ تعالى ، وينظر في الأَدلَّة المنصوبة على ذلك ، بحسب إيجاب الشرعِ النَّظَرَ فيها ، ويؤمنَ ولا يَعْبُدَ غير اللَّه ، فمَنْ فَرَضْناه لم يجدْ سبيلاً إلى العلْمِ بشرعٍ آمِرٍ بتوحيد اللَّهِ ، وهو مع ذلك لم يَكْفُرْ ، ولا عَبَدَ صنماً ، بل تخلى ، فأولئك أَهْلُ الفَتراتِ الذين أَطْلَقَ عليهم أهل العلْمِ أنهم في الجَنَّة ، وهم بمنزلةِ الأطفالِ والمجانينِ ، ومَنْ قَصَّرَ في النظر والبَحْث ، فعبد صنماً أو غيره ، وكَفَرَ ، فهو تاركٌ للواجب عليه ، مستوجِبٌ للعقاب بالنَّار ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مبعثِهِ ومَنْ كان معه مِنَ النَّاس وقَبْلَه مخاطَبُونَ على أَلْسِنَةِ الأنبياء قَبْلُ بالتوحيد ، وغيرُ مخاطبين بفُرُوعِ شرائعهم ، إذ هي مختلفةٌ ، وإذ لم يدعهم إليها نبيٌّ . قال الفَخْر : واحتجَّ العلماءُ بهذه الآية على أن محمداً صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ من جميع الأنبياءِ عليهم السلام ، وتقريره : أنا بيَّنَّا أنَّ خصال الكمالِ وصفاتِ الشَّرَفِ كانَتْ مفرَّقة فيهم ، ثم إنه تعالى ، لمَّا ذكر الكل ، أمر محمداً صلى الله عليه وسلم أنْ يجمع من خصال الطاعة والعبوديَّة والأخلاقِ الحميدة كُلَّ الصفاتِ التي كانَتْ مفرَّقة فيهم بأجمعهم ، ولمَّا أمره اللَّه تعالى بذلك ، امتنع أنْ يقال : إنه قصَّر في تحصيلها ، فثبت أنه حَصَّلها ، ومتى كان الأمر كذلك ، ثبت أنه اجتمع فيه مِنْ خصال الخَيْر ما كان فيهم مفرَّقاً بأسرهم ، ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أنْ يقال : إنه أفضلهم بكلِّيَّتهم ، واللَّه أعلم ، انتهى .

وقرأ حمزة والكسائيُّ : ( فَبِهُدَاهُمُ اقتد ) بحذف الهاءِ في الوَصْل ، وإثباتها في الوَقْف ، وهذا هو القياسُ شبيهة بألفِ الوَصْل في أنها تُقْطَعُ في الابتداء ، وتَسْقُط في الوَصْل .

وقوله سبحانه : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً }[ الأنعام :90 ] أي : قل لهؤلاء الكفرة المعاندين : لا أسألكم على دعائي إياكم بالقُرآن إلى عبادة اللَّه تعالى أُجْرَةً ، إن هو إلا موعظةٌ وذكرى ، ودعاءٌ لجميع العالمين .