قوله : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } " أولئك " مفعول مُقدَّمٌ ل " هدى الله " ويَضْعُفُ جعله مبتدأ على حذف العائد ، أي : هداهم الله كقوله : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } [ المائدة :50 ] برفع " حُكْمُ " [ والإشارة ب " أولئك " إلى الأنبياء المتقدم ذكرهم ]{[14435]} .
قوله : { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } قرأ{[14436]} الأخوان بحذف الهاء في الوَصْلِ والباقون أثبتوها{[14437]} وَصْلاً وَوَقْفاً ، إلا أن ابن عامر بكسرها ، ونقل ابن ذكوان عنه{[14438]} وجهين :
أحدهما : الكَسْر من غير وَصْلٍ بمدة ، والباقون{[14439]} بسكونها . أما في الوقف فإن القراء اتَّفَقُوا على إثباتها سَاكِنةً واختلفوا في " مَالِيَه " و " سُلْطَانِيَه " في " الحاقَّة " وفي " مَاهِيَهْ " في " القارعة " بالنسبة إلى الحذف والإثبات ، واتفقوا على إثباتها في " كِتَابِيَهْ " و " حِسَابِيِهْ " فأما قراءة الأخوين{[14440]} ، فالهاء عندهما للسَّكْتِ ، فلذلك حَذَفَاهَا وصْلاً ؛ إذ محلها الوَقْفُ ، وأثبتاها وقفاً إتْبَاعاً لِرَسْمِ المصحف ، وأما من أثبتها ساكنة ، فيحتمل عنده وجهين :
أحدهما : هي هاء سَكْتٍ ، ولكنها ثبتت وَصْلاً إجْرَاءً للوصْلِ مجرى الوَقْفِ ، كقوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ } [ البقرة :259 ] في أحد الأقوال كما تقدم .
والثاني : أنها ضمير المصدر سُكّنت وصلا إجراء للوصل مجرى الوقف ، نحو : { نؤته } [ آل عمران : 145 ] و{ فألقه } [ النمل : 288 ] و{ أرجه } [ الأعراف : 111 ] ، و{ نولّه } [ النساء : 115 ] { ونصله } [ النساء : 115 ] .
واختلف في المصدر الذي تعود عليه هذه " الهاء " فقيل : الهدى ، أي اقتدى الهدى ، والمعنى اقتد اقتداء الهدى ، ويجوز أن يكون الهدى مفعولا لأجله ؛ أي : فبهداهم اقتد لأجل الهدى .
وقيل : الاقتداء ؛ أي : اقتد الاقتداء ، ومن إضمار المصدر قول الشاعر : [ البسيط ]
هذا سُراقة للقرآن يدرسُه *** والمرء عند الرُّشا إن يلقها ذيبُ{[14441]}
أي : يدرس الدرس ، ولا يجوز أن تكون " الهاء " ضمير القرآن ؛ لأن الفعل قد تعدّى له ، وإنما زيدت " اللام " تقوية له ، حيث تقدم معموله ، وكذلك جعل النحاة نصب " زيدا " من " زيدا ضربته " بفعل مقدر ، خلافا للفراء{[14442]} .
قال ابن الأنباريّ : " إنها ضمير المصدر المؤكد النائب عن الفعل ، وإن الأصل : اقتد اقتد ، ثم جعل المصدر بدلا من الفعل الثاني ، ثم أضمر فاتصل بالأول " .
وأما قراءة ابن عامر{[14443]} فالظاهر فيها أنها ضمير ، وحركت بالكسر من غير وصل وهو الذي يسميه القراء الاختلاس تارة ، وبالصلة وهو المسمى إشباعا أخرى كما قرئ : { أرجه } [ الأعراف : 111 ] ونحوه .
وإذا تقرر هذا فقول ابن مجاهد عن ابن عامر " يُشمّ الهاء من غير بلوغ ياء " وهذا غلط ؛ لأن هذه " الهاء " هاء وقف لا تعرب في حال من الأحوال ، أي : لا تحرك وإنما تدخل ليتبيّن بها حركة ما قبلها ليس بجيّدٍ لما تقرر من أنها ضمير المصدر ، وقد ردّ الفارسي{[14444]} قول ابن مجاهد بما تقدم .
والوجه الثاني : أنها هاء سكت أجريت مجرى الضمير ، كما أجريت هاء الضمير مجراها في السكون ، وهذا ليس بجيد ، ويروى قول المتنبي : [ البسيط ] .
واحرّ قلباه ممن قلبه شيم *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[14445]}
بضم " الهاء " وكسرها على أنها " هاء " السكت ، شُبّهت بهاء الضمير فحركت ، والأحسن أن تجعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبهها بالضمير ؛ لأن " هاء " الضمير لا تكسر بعد الألف ، فكيف بما يشبهها ؟
والاقتداء في الأصل طلب الموافقة قاله الليث . ويقال : قدوة وقدو وأصله من القدو وهو أصل البناء الذي يتشعب منه تصريف الاقتداء .
قال الواحدي{[14446]} : الاقتداء في اللغة : الإتيان بمثل فعل الأول لأجل أنه فعله و " بهداهم " متعلق ب " اقتداه " . وجعل الزمخشري تقديمه مفيدا للاختصاص على قاعدته .
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم واختلفوا في الشيء الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم فيه .
فقيل : المراد أن يقتدى بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه ، وهو التوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق بالباري سبحانه وتعالى في الذات والصفات والأفعال .
وقيل : المراد بالاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصّه الدليل على هذا ، فالآية دليل على أن شرع من قبلنا{[14447]} يلزمنا وقيل : المراد به إقامة الدلالة على إبطال الشرك ، وإقامة التوحيد ؛ لأنه ختم الآية بقوله : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام :88 ] ثم أكد إصْرَارَهُمْ على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله : { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } ثم قال : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } أي : اقْتَدِ بهم في نَفْيِ الشرك ، وإثبات التوحيد ، وتَحَمُّلِ سَفَاهَاتِ الجُهَّال .
وقال آخرون : اللفظ مُطْلَقٌ فيحمل على الكل إلاَّ ما خَصَّهُ الدَّليل المُنْفَصِلُ .
قال القاضي{[14448]} يبعد حَمْلُ هذه الآية على أمْرٍ الرَّسُولِ بِمُتَابَعَةِ الأنبياء المُتقدِّمين في شَرَائِعِهمْ لوجوه :
أحدها : أن شرائعهم مختلفة مُتناقِضَةٌ فلا يَصِحُّ مع تَنَاقُضِهَا أن يكون مأموراً بالاقتداء بهم في تلك الأحْكَامِ{[14449]} المُتناقِضَةِ .
وثانيها : أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العملِ ، وإذا ثبت هذا ، فنقولُ : دليل ثباتِ شَرْعِهِمْ كان مخصوصاً بتلك الأوْقَاتِ فقط ، فكيف يُسْتَدَلُّ بذلك على اتِّبَاعِهِمْ في شرائعهم في كل الأوقات .
وثالثها : أن كونه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مُتَّبعاً لهم في شرائعهم يوجب أن يكون مَنْصِبُهُ أقَلَّ من مَنْصِبِهِمْ ، وذلك بَاطِلٌ بالإجماع ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حَمْلُ الآية على وُجُوبِ الاقتداء بهم في شَرَائِعِهمْ .
والجواب عن الأول ، أن قوله : " فَبهُداهمُ اقْتَدِه " يتناول الكل فأما ما ذكرتم من كون بعض تلك الأحْكَامِ مُتَنَاقِضَةً بحسب شرائعهم ، فنقول : العام يجب تخصيصه في هذه الصُّورة ، ويبقى فيما عداها حُجَّة .
وعن الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام - لو كان مأموراً بأن يَسْتَدِلَّ بالدليل الذي اسْتَدَلَّ به الأنبياءُ المتقدِّمُون لم يكن ذلك مُتَابَعَةً ؛ لأن المسلمين لما اسْتَدَلُّوا بحدوث العالم على وجود الصانع لا يقال : إنهم مُتَّبِعُونَ لليهود والنَّصارى في هذا الباب ؛ لأن المستدلَّ بالدليل يكون أصلاً في ذلك الحكم ، ولا تعلُّق له بمن قبله ألْبَتَّةَ ، والاقتداء والاتِّبَاعُ لا يحصل إلا إذا كان فعل الأوَّل سَبَباً لوجوب الفِعْلِ عن الثاني .
وعن الثالث : أنه أمر الرَّسُولَ بالاقتداء بجميعهم في جميع الصِّفَاتِ الحميدة ، والأخلاق الشريفة ، وذلك لا يوجب كونه أقَلَّ مرتبة من الكُلِّ على ما يأتي في الفَصْلِ الذي بعده .
فصل في أفضلية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
احْتَجَّ العملاء بهذه الآية على أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلام ؛ لأن خِصَالَ الكمالِ وصفاتِ الشَّرفِ كانت مفرّقة فيهم ف " داود " و " سليمان " كانا من أصحاب الشكر على النعمة ، و " أيُّوب " كان من أصحاب الصَّبْرِ على البلاءِ ، و " يوسف " كان جَامِعاً لِهَاتيْنِ الحالتين ، و " موسى " عليه الصلاة والسلام كان صاحب الشريعةِ القويَّةِ القاهرة ، والمعجزات الظاهرة و " زكريا " و " يحيى " و " عيسى " و " إلياس " كانوا أصحاب الزُّهْدِ ، و " إسماعيل " كان صاحب الصِّدْق و " يونس " كان صاحب التَّضَرُّعِ .
وثبت أنه -تعالى- إنما ذكر كُلُّ واحد من هؤلاء الأنبياء ؛ لأن الغالب عليه خَصْلةٌ مُعيَّنةٌ من خِصال المَدْح والشرف ، ثم إنه تعالى لما ذكر الكلّ أمر محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - بأن يقتدي بهم بأسْرِهمْ ، فكان التقدير كأنه -تعالى- أمر محمداً أن يجمع من خِصالِ العُبُوديَّة والطاعة كُل الصفات التي كانت مُتفرِّقَةً فيهم بأجمعهم ، ولما أمره الله -تبارك وتعالى- بذلك امْتَنَعَ أن يقال : إنه قَصَّر في تحصيلها ، فثبت أنه حَصَّلَهَا ، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يقال : إنه أفْضَلُهُمْ بكليتهم{[14450]} .
قوله : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } لما أمره بالاقتداء بهدى الأنبياء المتقدمين ، وكان من جُمْلَةِ هدايتِهِمْ تَرْكُ طلب الأجْرِ في إيصال الدينِ ، وإبلاغ الشريعة لا جَرَم اقتدى بهم في ذلك فقال : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } [ و " الهاء " في " عليه " ]{[14451]} تعود على القرآن والتبليغ أضمرا وإن لم يَجْرِ لهما ذِكْرٌ لدلالة السِّياق عليهما ، و " أن " نافية ولا عمل لها على المَشْهُور ، ولو كانت عَامِلةً لبطل عملها ب " إلاَّ " في قوله : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى } أن يذكره ويعظه . " وللعالمين " متعلق ب " ذكرى " و " اللام " معدية أي : إن القرآن العظيم إلاَّ تذكير للعالمين ، ويجوز أن تكون متعلِّقَةً بمحذوف على أنها صِفَةٌ للذِّكْرَى ، وهذه الآية تَدُلُّ على أنه صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثٌ إلى كل أهْلِ الدنيا لا إلى قَوْمِ دون قَوْمٍ .