قوله تعالى : { وأذان } عطف على قوله براءة أي إعلام ، ومنه الأذان بالصلاة ، يقال : آذنته فأذن ، أي : أعلمته فعلم ، وأصله من الأذان ، أي : أوقعته في أذنه .
قوله تعالى : { من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } . اختلفوا في يوم الحج الأكبر ، روى عكرمة عن ابن عباس أنه يوم عرفة ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب ، وابن الزبير ، وهو قول عطاء و طاوس و مجاهد و سعيد بن المسيب ، وقال جماعة : هو يوم النحر ، روي عن يحيى بن الجزار قال : خرج علي رضي الله عنه يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة ، فجاءه رجل ، وأخذ بلجام دابته ، وسأله عن يوم الحج الأكبر فقال : يومك هذا خل سبيلها . ويروى ذلك عن عبد الله بن أبي أوفى ، والمغيرة بن شعبة ، وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والسدي . وروى ابن جريج عن مجاهد : يوم الحج الأكبر حين الحج أيام منى كلها ، وكان سفيان الثوري يقول : يوم الحج الأكبر أيام منى كلها ، مثل : يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث ، يراد به : الحين والزمان ، لأن هذه الحروب دامت أياما كثيرة ، وقال عبد الله بن الحارث بن نوفل : يوم الحج الأكبر اليوم الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قول ابن سيرين ، لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى ، والمشركين ، ولم يجتمع قبله ولا بعده . واختلفوا في الحج الأكبر ، فقال مجاهد : الحج الأكبر القران ، والحج الأصغر إفراد الحج ، وقال الزهري والشعبي وعطاء : الحج الأكبر : الحج ، والحج الأصغر : العمرة ، قيل لها الأصغر لنقصان أعمالها .
قوله تعالى : { أن الله بريء من المشركين ورسوله } . أي ورسوله أيضا برئ من المشركين ، وقرأ يعقوب : بنصب اللام أي ، أن الله ورسوله بريء .
قوله تعالى : { فإن تبتم } : رجعتم من كفركم وأخلصتم التوحيد .
قوله تعالى : { فهو خير لكم وإن توليتم } . أعرضتم عن الإيمان .
قوله تعالى : { فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم* إلا الذين عاهدتم من المشركين } .
بعد ذلك يبين الموعد الذي تعلن فيه هذه البراءة وتبلغ إلى المشركين لينذروا بها وبالموعد المضروب فيها :
{ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر : أن الله بريء من المشركين ورسوله . فإن تبتم فهو خير لكم ، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله ، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } . .
ويوم الحج الأكبر اختلفت الروايات في تحديده : أهو يوم عرفة أم يوم النحر . والأصح أنه يوم النحر : والأذان البلاغ ؛ وقد وقع للناس في الموسم ؛ وأعلنت براءة الله ورسوله من المشركين كافة - من ناحية المبدأ - وجاء الاستثناء في الإبقاء على العهد إلى مدته في الآية التالية . . والحكمة واضحة في تقرير المبدأ العام ابتداء في صورة الشمول ؛ لأنه هو الذي يمثل طبيعة العلاقات النهائية . أما الاستثناء فهو خاص بحالات تنتهي بانتهاء الأجل المضروب . وهذا الفهم هو الذي توحي به النظرة الواسعة لطبيعة العلاقات الحتمية بين المعسكر الذي يجعل الناس عبيداً لله وحده ، والمعسكرات التي تجعل الناس عبيداً للشركاء ، كما أسلفنا في التقديم للسورة والتقديم لهذا المقطع منها كذلك .
ومع إعلان البراءة المطلقة يجيء الترغيب في الهداية والترهيب من الضلالة :
{ فإن تبتم فهو خير لكم ، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله ، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } . .
وهذا الترهيب وذلك الترغيب في آية البراءة ؛ يشيران إلى طبيعة المنهج الإسلامي . إنه منهج هداية قبل كل شيء . فهو يتيح للمشركين هذه المهلة لا لمجرد أنه لا يحب أن يباغتهم ويفتك بهم متى قدر - كما كان الشأن في العلاقات الدولية ولا يزال ! - ولكنه كذلك يمهلهم هذه المهلة للتروي والتدبر ، واختيار الطريق الأقوم ؛ ويرغبهم في التوبة عن الشرك والرجوع إلى الله ، ويرهبهم من التولي ، وييئسهم من جدواه ، وينذرهم بالعذاب الأليم في الآخرة فوق الخزي في الدنيا . ويوقع في قلوبهم الزلزلة التي ترجها رجاً لعل الركام الذي ران على الفطرة أن ينفض عنها ، فتسمع وتستجيب !
ثم . . هو طمأنة للصف المسلم ، ولكل ما في قلوب بعضه من مخاوف ومن تردد وتهيب ؛ ومن تحرج وتوقع .
فالأمر قد صار فيه من الله قضاء . والمصير قد تقرر من قبل الابتداء !
وقوله تعالى : { وأذان من الله ورسوله إلى الناس } الآية ، { وأذان } معناه إعلام وإشهار ، و { الناس } ها هنا عام في جميع الخلق ، و { يومَ } منصوب على الظرف والعامل فيه { آذان } وإن كان قد وصف فإن رائحة الفعل باقية ، وهي عاملة في الظروف ، وقيل لا يجوز ذلك إذ قد وصف المصدر فزالت عنه قوة الفعل ، ويصح أن يعمل فيه فعل مضمر تقتضيه الألفاظ ، وقيل العامل في صفة الأذان وقيل العامل فيه { مخزي } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، و { يوم الحج الأكبر } قال عمر وابن عمر وابن المسيب وغيرهم : هو يوم عرفة ، وقال به علي ، وروي عنه أيضاً أنه يوم النحر ، وروي ذلك عن أبي هريرة وجماعة غيرهم ، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال منذر بن سعيد وغيره : كان الناس يوم عرفة مفترقين إذ كانت الحمس تقف بالمزدلفة وكان الجمع يوم النحر بمنى ، فلذلك كانوا يسمونه الحج الأكبر أي من الأصغر الذي هم فيه مفترقون .
قال القاضي أبو محمد : وهذا زال في حجة أبي بكر لأنه لم يقف بالمزدلفة ، وقد ذكر المهدوي أن الحمس ومن اتبعها وقفوا بالمزدلفة في حجة أبي بكر ، والذي تظاهرت به الأحاديث في هذا المعنى أن علياً رضي الله عنه أذن بتلك الآية يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر ، ثم رأى أنه لم يعلم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر ، وفي ذلك اليوم بعث معه أبو بكر من يعينه بالأذان بها كأبي هريرة وغيره ، وتتبعوا بها أيضاً أسواق العرب كذي المجاز وغيره ، فمن هنا يترجح قول سفيان إن { يوم } في هذه الآية بمعنى أيام ، بسبب ذلك قالت طائفة { يوم الحج الأكبر } عرفة حيث وقع أول الأذان وقالت طائفة أخرى : هو يوم النحر حيث وقع إكمال الأذان ، واحتجوا أيضاً بأنه من فاته الوقوف يوم عرفة فإنه يجزيه الوقوف ليلة النحر ، فليس يوم عرفة على هذا يوم الحج الأكبر .
قال القاضي أبو محمد : ولا حجة في هذا ، وقال سفيان بن عيينة : المراد أيام الحج كلها كما تقول يوم صفين ويوم الجمل يريد جميع أيامه ، وقال مجاهد { يوم الحج الأكبر } أيام منى كلها ، ومجامع المشركين حيث كانوا بذي المجاز وعكاظ حين نودي فيهم ألا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كما قال عثمان لعمر حين عرض عليه زواج حفصة : إني قد رأيت ألا أتزوج يومي هذا ، وكما ذكر سيبويه : تقول لرجل : وما شغلك اليوم ؟ وأنت تريد في أيامك هذه ، واختلف لم وصف بالأكبر ؟ فقال الحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن الحارث بن نوفل لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون وصادف أيضاً عيد اليهود والنصارى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف أن يصفه الله في كتابه بالكبر لهذا ، وقال الحسن أيضاً : إنما سمي أكبر لأنه حج فيه أبو بكر ونبذت فيه العهود .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو القول الذي يشبه نظر الحسن ، وبيانه أن ذلك اليوم كان المفتتح بالحق وإمارة الإسلام بتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبذت فيه العهود وعز فيه الدين وذل الشرك ، ولم يكن ذلك في عام ثمان حين ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج عتاب بن أسيد{[5505]} كان أمر العرب على أوله ، فكل حج بعد حج أبي بكر فمتركب عليه فحقه لهذا أن يسمى أكبر ، وقال عطاء بن أبي رباح وغيره : الحج أكبر بالإضافة إلى الحج الأصغر وهي العمرة ، وقال الشعبي : بالإضافة إلى العمرة في رمضان فإنها الحج الأصغر ، وقال مجاهد : الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد ، وهذا ليس من هذه الآية في شيء ، وقد تقدم ما ذكره منذر بن سعيد ويتجه أن يوصف بالأكبر على جهة المدح لا بإضافة إلى أصغر معين ، بل يكون المعنى الأكبر من سائر الأيام فتأمله ، واختصار ما تحتاج إليه هذه الآية على ما ذكر مجاهد وغيره من صورة تلك الحال ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح مكة سنة ثمان ، فاستعمل عليها عتاب بن أسيد وقضى أمر حنين والطائف وانصرف إلى المدينة فأقام بها حتى خرج إلى تبوك ، ثم انصرف من تبوك في رمضان سنة تسع فأراد الحج ثم نظر في أن المشركين يحجون في تلك السنة ويطوفون عراة فقال لا أريد أن أرى ذلك ، فأمر أبا بكر على الحج بالناس وأنفذه ، ثم أتبعه علي بن أبي طالب على ناقته العضباء ، وأمره أن يؤذن في الناس بأربعة أشياء ، وهي :( لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، وفي بعض الروايات ولا يدخل الجنة كافر ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته ){[5506]} ، وفي بعض الروايات ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله أربعة أشهر يسيح فيها ، فإذا انقضت ف { إن الله بريء من المشركين ورسوله } .
قال القاضي أبو محمد : وأقول : إنهم كانوا ينادون بهذا كله ، فهذا للذين لهم عهد وتحسس منهم نقضه ، والإبقاء إلى المدة لمن لم يخبر منه نقض ، وذكر الطبري أن العرب قالت يومئذ : نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب ، فلام بعضهم بعضاً وقالوا ما تصنعون وقد أسلمت قريش ؟ فأسلموا كلهم ولم يسح أحد .
قال القاضي أبو محمد : وحينئذ دخل الناس في دين الله أفواجا ً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر علياً أن يقرأ على الناس الأربعين آية صدر سورة براءة قبل ثلاثين ، وقيل عشرين ، وفي بعض الروايات عشر آيات ، وفي بعضها تسع آيات ، ذكرها النقاش{[5507]} ، وقال سليمان بن موسى الشامي ثمان وعشرون آية ، فلحق أبا بكر في الطريق فقال له أبو بكر : أمير أو مأمور ، فقال بل مأمور فنهضا حتى بلغا الموسم ، فلما خطب أبو بكر بعرفة : قال : قم يا علي ، فأدِّ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام علي ففعل ، قال ثم وقع في نفسي أن جميع الناس لم يشاهدوا خطبة أبي بكر ، فجعلت أتتبع الفساطيط يوم النحر ، وقرأ جمهور الناس «أن الله بريء » بفتح الألف على تقدير بأن الله ، وقرأ الحسم والأعرج : «إن الله » بكسر الألف على القطع ، إذ الأذان في معنى القول ، وقرأ جمهور الناس «ورسولُه » بالرفع على الابتداء وحذف الخبر «ورسوله بريء منهم » ، هذا هو عند شيخنا الفقيه الأستاذ أبي الحسن بن الباذش{[5508]} رحمه الله معنى العطف على الموضع ، أي تؤنس بالجملة الأولى التي هي من ابتداء وخبر فعطفت عليها هذه الجملة ، وقيل : هو معطوف على موضع المكتوبة قبل دخول «أن » التي لا تغير معنى الابتداء بل تؤكده وإذ قد قرئت بالكسر{[5509]} لأنه لا يعطف على موضع «أن » بالفتح ، وانظره فإنه مختلف في جوازه ، لأن حكم «أن » رفع حكم الابتداء إلا في هذا الموضع وما أشبهه ، وهذا قول أبي العباس وأبي علي رحمهما الله ، ومذهب الأستاذ{[5510]} على مقتضى كلام سيبويه أن لا موضع لما دخلت عليه «أن » إذ هو معرب قد ظهر فيه عمل العامل ولأنه لا فرق بين «أن » وبين ليت ولعل ، والإجماع أن لا موضع لما دخلت عليه هذه{[5511]} ، وقيل : عطف على الضمير المرفوع الذي في «بريء » ، وحسن ذلك أن المجرور قام مقام التوكيد ، كما قامت «لا » في وقوله تعالى :{ ما أشركنا ولا آباؤنا }{[5512]} وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر «رسولَه » بالنصب عطفاً على لفظ المكتوبة ، وبهذه الآية امتحن معاوية أبا الأسود حتى وضع النحو إذ جعل قارئاً يقرأ بخفض «ورسولِه » ، والمعنى في هذه الآية بريء من عهودهم وأديانهم براءة عامة تقتضي المحارجة وإعمال السيف ، وقوله { فإن تبتم } أي عن الكفر ووعدهم مع شرط التوبة وتوعدهم مع شرط التولي ، وجاز أن تدخل البشارة في المكروه لما جاء مصرحاً به مرفوع الأشكال .