اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَذَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوۡمَ ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيٓءٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ وَرَسُولُهُۥۚ فَإِن تُبۡتُمۡ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (3)

وقوله : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر } جملة أخرى ثانية معطوفة على الجملة الأولى ، وهي عامة في حق جميع النَّاسِ ؛ لأنَّ ذلك يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك ، من حيثُ إنَّ الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعاً ، فيجبُ على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يباحُ فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه ، فأمره تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر ، وهو الجمع الأعظم ، ليصل ذلك الخبر إلى الكل ، فيشتهر . وفي هذا العطف الإشكال الذي ذكره أبو حيان في صدر الآية عند قوله { وَأَذَانٌ مِّنَ الله } .

فصل

اختلفوا في يوم الحجِّ الأكبر ، فقال ابن عباس في رواية عكرمة " إنَّه يومُ عرفةَ " وهو قول عُمر ، وسعيد بن المسيب ، وابن الزبير ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وإحدى الروايتين عن علي{[17561]} ، ورواية المسور بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيَّة عرفة ، فقال : " أمَّا بعدُ فإنَّ هذا يوم الحج الأكبر " لأنَّ معظم أفعال الحج فيه{[17562]} ، وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقف يوم النَّحر عند الجمرات ، وقال : " هذا يومُ الحج الأكبر " وقال عليه الصلاة والسلام " الحج عرفةُ{[17563]} " ولأنَّ أعظم أعمال الحج الوقوف بعرفة ؛ لأنَّ من أدركه ، فقد أدرك الحجَّ ، ومن فاته فقد فاته الحجُّ .

وقال ابنُ عبَّاسٍ في رواية عطاء يوم الحج الأكبر : يوم النحر{[17564]} ، وهو قول النخعيّ ، والشعبيّ ، والسديّ ، وإحدى الروايتين عن عليٍّ ، وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير .

وروى ابن جريج عن مجاهد أنه قال : يوم الحجِّ الأكبر أيَّام منى كلها{[17565]} ، وهو مذهب سفيان الثَّوريّ ، وكان يقول : يوم الحجِّ الأكبر : أيامه كلها ، كما يقال : يوم صفين ، ويوم الجمل ، ويراد به الحين والزمان .

وأما تسيمته بيوم الحج الأكبر ، فإن قلنا : إنَّه يوم عرفة ؛ فلأنه أعظم واجباته ، ومن فاته الحجُّ ، وكذلك إن قلنا : إنَّه يوم النحر ، لأن معظم أفعال الحج يفعل فيه ، وقال الحسنُ : سُمِّيَ بذلك لاجتماعِ المسلمين والمشركين فيه ، وموافقته لأعياد أهل الكتاب ، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده ، فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمنٍ وكافر ، وطعن الأصم في هذا الوجه وقال : عيدُ الكفَّارِ فيه سخط . وهذا الطَّعن ضعيفٌ ؛ لأنَّ المرادَ أنَّ ذلك اليوم استعظمه جميع الطوائف ، فلذلك وصف بالأكبر .

وقيل سُمِّي بذلك ؛ لأن المسلمين والمشركين حَجُّوا في تلك السَّنة ، وقيل : الأكبرُ الوقوف بعرفة والأصغر النَّحر ، قاله مجاهدٌ ، ونقل عن مجاهدٍ : الأكبر القرانُ ، والأصغر الإفراد{[17566]} ، فإن قيل : قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين } وقوله { أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ } لا فرق بينهما ، فما فائدة هذا التكرار ؟

فالجواب من وجوه :

الأولُ : أنَّ المقصودَ من الأوَّلِ البراءة من العهد ، ومن الثاني : البراءة التي هي نقيض الموالاة ، ويدلُّ على هذا الفرقِ في البراءة الأولى برىء إليهم ، وفي الثانية برئ منهم .

الثاني : أنَّهُ تعالى في الكلام الأوَّل ، أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد ، وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معيّن ، تنبيهاً على أنَّ الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم .

قوله " فإن تُبْتُمْ " عن الشكر ، وأخلصتم التَّوحيدَ : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أعرضتم عن الإيمان { فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } وذلك وعيد عظيم .

ثم قال { وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } في الآخرة ، والبشارةُ - ههنا - وردت على سبيل الاستهزاء كما يقال : تحيتهم الضرب ، وإكرامهم الشَّتم .


[17561]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/310-311) عن عمر وعلي وابن عباس وعطاء ومجاهد وأبي جحيفة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/382) عن عمر بن الخطاب وزاد نسبته إلى ابن سعد وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وذكره البغوي في تفسيره (2/268) عن ابن عباس وعمر وابن الزبير وقال: وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب.
[17562]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/382) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عن المسور بن مخرمة.
[17563]:تقدم.
[17564]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/311-312) عن علي وابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير وأبي جحيفة والشعبي والنخعي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/381) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة. وذكره عن أبي جحيفة وعزاه لابن أبي شيبة. وعن عبد الله بن أبي أوفى وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبي الشيخ. وذكره البغوي في "تفسيره" (2/268) عن علي وعبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة وقال: وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والسدي.
[17565]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/316) وذكره البغوي في "تفسيره" (2/268) عن مجاهد.
[17566]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/317) وذكره البغوي في "تفسيره" (268).