التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَأَذَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوۡمَ ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيٓءٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ وَرَسُولُهُۥۚ فَإِن تُبۡتُمۡ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (3)

قوله تعالى : { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برئ من المشركين فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } { وأذان } ، معطوف على براءة . وفيه الوجهان من الإعراب اللذان ذكرا في { براءة } وهو أنه خبر مبتدأ محذوف . أو أنه مبتدأ ، وخبره قوله : { إلى الناس يوم الحج } {[1712]} والأذان ، معناه الإعلام . وهذا إعلام صادر من الله ورسوله إلى الناس وهم جميع الخلق { يوم الحج الأكبر } واختلفوا في المراد بالحج الأكبر على قولين . أحدهما : أنه يوم عرفة ، وهو مروي عن ابن عباس وعمر وعثمان وسعيد بن المسيب وابن الزبير وعطاء وطاووس ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ؛ فقد احتجوا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خطيب عشية عرفة فقال : ( أما بعد ، فإن هذا يوم الحج الكبر ) .

ثانيهما : أنه يوم النحر ، الذي هو أفضل المناسك وأظهرها . وهو رواية عن أبي عباس ، وهو قول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير –واحتجوا بما رواه أبو داود عن ابن عكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر في الحجة التي حج فيها فقال : ( أي يوم هدا ؟ ) فقالوا : يوم النحر . فقال : ( هذا يوم الحج الأكبر ) .

وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر بالصديق ( رضي الله عنه ) فيمن يؤذن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ويوم الحج الكبر يوم النحر . وقيل : يوم الحج الكبر ، أيام منى كلها .

أما سبب التسمية بالحج الكبر ؛ فلأن العمرة تسمى الحج الأصغر . وهذا هو الحج الأكبر . وقيل : سمي بذلك ؛ لاجتماع المسلمين والمشركين فيه ؛ فقد حجوا جميعا في تلك السنة . وقيل غير ذلك{[1713]} .

قوله : { أن الله برئ من المشركين ورسوله } رسوله ، مرفوع بالابتداء ، وخبره محذوف وتقديره : ورسوله برئ . وقيل : مرفوع بالعطف على الضمير المرفوع في { برئ } {[1714]} على أن الفرق بين قوله : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } وقوله : { أن الله برئ من المشركين ورسوله : { من وجهين :

الوجه الأول : أن المقصود من الكلام الأول : الإخبار بثبوت البراءة . أما المقصود من الكلام الثاني : إعلام جميع الناس بما حصل وثبت .

الوجه الثاني : أن الله تعالى قد أظهر في الكلام الأول البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونفضوا العهد . أما في هذه الآية : فقد أظهر الله فيها البراءة عن المشركين من غير أن يصفهم بوصف معين ، وفي ذلك تنبيه إلى أن الموجب لهذه البراءة هو كفرهم وشركهم{[1715]} .

قوله : { فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله } يدعوا الله المشركين إلى التوبة من الشرك والضلال ، فإن تابوا فهو خير لهم ؛ لما يفضي إليه ذلك من النجاة في الدارين . لكنهم عن تولوا واستمروا على شركهم وضلالهم وعتوهم ؛ فإنهم غير معجزين ؛ بل إن الله قادر عليهم ؛ فهم في قبضته وتحت قهره وجبروته ، فلا يعز عليه إهلاكهم وتدميرهم .

قوله : { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } لفظ البشارة ورد هنا على سبيل التهكم والاستهزاء بالمشركين الذين ظلموا أنفسهم وسفهوا عقولهم بشركهم وضلالهم . والمراد الإخبار من اله بأن لهم العذاب الشديد في الآخرة فوق ما يحيق بهم من العذاب في الدنيا بالإذلال والخزي{[1716]} .

قال محمد بن إسحاق في هذا الصدد عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن علي قال : لما نزلت براءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس فقيل : يا رسول الله لو بعثت إلى أبي بكر ، فقال : ( لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ) ثم دعا عليا فقال : ( اذهب بهذه القصة من سورة براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو له إلى مدته ) فخرج علي ( رضي الله عنه ) على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء{[1717]} حتى أدرك أن أبا بكر في الطريق فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور ؟ فقال : بل مأمور . ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحج ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته . فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان . ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد وأهل المدة إلى الأجل المسمى .

وعن أبي الصهباء البكري قال : سألت عليا عن يوم الحج الأكبر . فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة يقيم للناس يوم الحج ، وبعثني معه بأربعين آية من براءة ، حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة ، فلما قضى خطبته التفت إلي فقال : قم يا علي فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقمت فقرأت عليهم أربعين أية من براءة ، ثم صدرنا{[1718]} فأتينا منى ، فرميت الجمرة ، ونحرت البدنة ، ثم حلقت رأسي ، وعلمت أن أهل الجمعة لم يكونوا كلهم حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة ، فطفت أتتبع بها الفساطيط{[1719]} أقرأها عليهم{[1720]} .


[1712]:البيان لابن الأنباري جـ 1 ص 393.
[1713]:تفسير الرازي جـ 15 ص 230.
[1714]:البيان لابن الانباري جـ 1 ص 394.
[1715]:تفسير الرازي جـ 15 ص 230، 231 وتفسير النسفي جـ 2 ص 115.
[1716]:تفسير الرازي جـ 15 ص 231 وتفسير البيضاوي ص 247 وتفسير النسفي جـ 2 ص 115.
[1717]:العضباء: المشوقة الأذن. وكانت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم تلقب بالعضباء لنجابتها لا لشق أذنها. انظر المصباح المنير جـ 2 ص 64.
[1718]:صدنا، من الصدور، وهو الانصراف. انظر المصباح المنير جـ 1 ص 359.
[1719]:الفساطيط، جمع فسطاط، وهو بيت من شعر. انظر مختار الصحاح ص 503.
[1720]:تفسير ابن كثير جـ 2 ص 334.