قوله تعالى : { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } ، وذلك أنهم كانوا يقولون : هذه أنعام وحرث حجر ، وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، كانوا يحرمون بعضها على الرجال والنساء ، وبعضها على النساء دون الرجال ، فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان خطيبهم مالك بن عوف أبو الأحوص الجشمي ، فقال : يا محمد بلغنا أنك تحرم أشياء مما كان آباؤنا يفعلونه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم قد حرمتم أصنافاً من الغنم على غير أصل ، وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها ، فمن أين جاء هذا التحريم ؟ من قبل الذكر أم من قبل الأنثى ؟ فسكت مالك ابن عوف وتحير فلم يتكلم .
فلو قال : جاء هذا التحريم بسبب الذكور وجب أن يحرم جميع الذكور ، وإن كان بسبب الأنوثة وجب أن يحرم جميع الإناث ، وإن كان باشتمال الرحم عليه فينبغي أن يحرم الكل ، لأن الرحم لا يشتمل إلا على ذكر أو أنثى ، فأما تخصيص التحريم بالولد الخامس أو السابع أو بالبعض فمن أين ؟ ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك : مالك يا مالك لا تتكلم ؟ قال له مالك : بل تكلم وأسمع منك .
قوله تعالى : { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً يضل الناس بغير علم } ، قيل : أراد به : عمرو بن لحي ومن جاء بعده على طريقته .
وبقية الأزواج ذكر وأنثى من الإبل ؛ وذكر وأنثى من البقر . فأيها كذلك حرم ؟ أم أجنتها هي التي حرمها الله على الناس ؟ ومن أين هذا التحريم :
( أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ؟ ) . .
فحضرتم وشهدتم وصية الله لكم خاصة بهذا التحريم . فما ينبغي أن يكون هناك تحريم بغير أمر من الله مستيقن ، لا يرجع فيه إلى الرجم والظنون .
وبهذا يرد أمر التشريع كله إلى مصدر واحد . . وقد كانوا يزعمون أن الله هو الذي شرع هذا الذي يشرعونه . لذلك يعاجلهم بالتحذير والتهديد :
( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم . إن الله لا يهدي القوم الظالمين )
إنه لا أحد أظلم ممن يفتري على الله شريعة لم يأذن بها ، ثم يقول : شريعة الله ! وهو يقصد أن يضل الناس بغير علم ، إنما هو يحيلهم إلى هدى أو ظن . . أولئك لن يهديهم الله ؛ فقد قطعوا ما بينهم وبين أسباب الهدى . وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا . . والله لا يهدي القوم الظالمين .
{ ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } كما سبق والمعنى إنكار أن الله حرم شيئا من الأجناس الأربعة ذكرا كان أو أنثى أو ما تحمل إناثها ردا عليهم ، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة أخرى وأولادها كيف كانت تارة زاعمين أن الله حرمها . { أم كنتم شهداء } بل أكنتم شاهدين حاضرين . { إذ وصاكم الله بهذا } حين وصاكم بهذ التحريم إذ أنتم لا تؤمنون بنبي فلا طريق لكم إلى معرفة أمثالي ذلك إلا المشاهدة والسماع . { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } فنسب إليه تحريم ما لم يحرم ، والمراد كبراؤهم المقررون لذلك ، أو عمرو بن لحي بن قمعة المؤسس لذلك . { ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } .
فقال الفخر : « أطبق المفسّرون على أنّ تفسير هذه الآية أنّ المشركين كانوا يحرّمون بعض الأنعام فاحتجّ الله على إبطال قولهم بأنْ ذكَرَ الضأن والمعز والإبل والبقر . وذكر من كلّ واحد من هذه الأربعة زوجين ذكراً وأنثى ، ثمّ قال : إن كان حُرّم منها الذّكر وجب أن يكون كلّ ذكورها حراماً ، وإن كان حُرم الأنثى وجب أن يكون كلّ إناثها حراماً ، وأنَّه إن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وجب تحريم الأولاد كلّها » . حاصل المعنى نفي أن يكون الله حرّم شيئاً ممّا زعموا تحريمه إياه بطريق السبّر والتّقسيم وهو من طريق الجدل .
قلت : هذا ما عزاه الطّبري إلى قتادة ، ومجاهد ، والسدّي ، وهذا لا يستقيم لأنّ السبر غير تامّ إذ لا ينحصر سبب التّحريم في النّوعيّة بل الأكثر أنّ سببه بعض أوصاف الممنوع وأحواله .
وقال البغوي : قالوا : { هذه أنعَام وحرث حجر } [ الأنعام : 138 ] وقالوا : { ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا } [ الأنعام : 139 ] وحرّموا البحيرة والسّائبة والوصيلة والحامي ، فلمّا قام الإسلام جَادَلوا النّبيء صلى الله عليه وسلم وكان خطيبهم مالكَ بن عوف الجُشَمي قالوا : يا محمّد بلغَنا أنَّك تحرّم أشياء ممّا كان آباؤنا يفعلونه .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّكم قد حرّمتم أصنافاً من النّعم على غير أصل ، وإنَّما خلق الله هذه الأزواج الثّمانية للأكل والانتفاع بها ، فمِن أيْن جاء هذا التّحريم أمِن قِبلَ الذّكر أم من قِبَل الأنثى . فسكت مالك بن عوف وتحيَّر اهـ ( أي وذلك قبل أن يُسلم مالك بن عوف ) ولم يعزه البغوي إلى قائل وهو قريب ممّا قاله قتادة والسّدي ومجاهد فتبيّن أنّ الحجاج كلّه في تحريم أكل بعض هذه الأنواع من الأنعام ، وفي عدم التّفرقة بين ما حرّموا أكله وما لم يحرّموه مع تماثل النّوع أو الصنف .
والّذي يؤخذ من كلام أئمَّة العربيّة في نظم الاستدلال على المشركين أنّ الاستفهام في قوله : { ءآلذكرين حرم } في الموضعين . استفهام إنكاري ، قال في « الكشاف » الهمزة في { ءآلذكرين } للإنكار . والمعنى : إنكار أن يحرّم الله تعالى من جنسي الغنم شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها وما تحمل إناثها وكذلك في جنسي الإبل والبقر ، وبيّنه صاحب « المفتاح » في باب الطلب بقوله : وإن أردتَ به ( أي بالاستفهام ) الإنكا فانسجه على منوال النّفي فَقُل ( في إنكار نفس الضرب ) أضربت زيداً ، وقل ( في إنكار أن يكون للمخاطب مضروبٌ ) أزيداً ضربت أم عمراً ، فإنَّك إذا أنكرت من يُردّد الضّرب بينهما ( أي بزعمه ) تولّد منه ( أي من الإنكار عليه ) إنكار الضرب على وجه بُرهاني ومنه قوله تعالى : { ءآلذكرين حرم أم الأنثيين } . قال شارحه القطب الشّيرازي : لاستلزام انتفاء محلّ التّحريم انتفاءَ التّحريم لأنَّه عرض يمتنع وجوده ، أي التّحريم ، دون محلّ يقوم به فإذا انتفى ( أي محلّه ) انتفى هو أي التّحريم ا هـ .
أقول وجه الاستدلال : أنّ الله لو حرّم أكل بعض الذّكور من أحد النّوعين لحرّم البعضَ الآخر ، ولو حرّم أكل بعض الإناث لحرّم البعض الآخر . لأنّ شأن أحكام الله أن تكون مطّردة في الأشياء المتّحدة بالنّوع والصّفة ، ولو حَرّم بعض ما في بطون الأنعام على النّساء لحرّم ذلك على الرّجال ، وإذْ لم يحرّم بعضها على بعض مَع تماثل الأنواع والأحوال . أنتجَ أنَّه لم يحرّم البعض المزعوم تحريمُه ، لأنّ أحكام الله منوطة بالحكمة ، فدلّ على أنّ ما حرّموه إنَّما حرّموه من تلقاء أنفسهم تحكّماً واعتباطاً ، وكان تحريمهم ما حرّموه افتراءً على الله . ونهضت الحجّة عليهم ، الملجئةُ لهم ، كما أشار إليه كلام النّبيء صلى الله عليه وسلم لمالك بن عوف الجُشمي المذكورُ آنفاً ، ولذلك سَجَّل عليهم بقوله : { نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } فقوله : { ءآلذكرين حرم } أي لو حرّم الله ءآلذكرين لسوّى في تحريمهما بين الرّجال والنّساء . وكذلك القول في الأنثيين ، والاستفهام في قوله : { ءآلذكرين حرم } في الموضعين مُستعمل في التّقرير والإنكار بقرينة قوله قبله : { سيجزيهم وصفهم إنَّه حكيم عليم }
[ الأنعام : 139 ] . وقوله : { ولا تتَّبعوا خطوات الشّيطان } [ البقرة : 168 ] . ومعلوم أنّ استعمال الاستفهام في غير معنى طلب الفهم هو إما مجاز أو كناية .
ولذلك تعيَّن أن تكون { أم } منقطعة بمعنى ( بل ) ومعناها الإضراب الانتقالي تعديداً لهم ويُقَدّر بعدها استفهام . فالمفرد بعد { أم } مفعول لفعل محذوف ، والتّقدير : أم أحرّم الأنثيين . وكذلك التّقدير في قوله : { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } وكذلك التّقدير في نظيره .
وقوله : { من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } مع قوله : { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين } من مسلك السير والتقسيم المذكور في مسالك العلة من علم أصول الفقه .
وجملة : { نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } بدل اشتمال من جملة ؛ { ءآلذكرين حرم أم الأنثيين } لأنّ إنكار أن يكون الله حرّم شيئاً من ذكور وإناث ذينك الصنفين يقتضي تكذيبهم في زعمهم أنّ الله حرّم ما ذكروه فيلزم منه طلبُ الدّليل على دعواهم . فموقع جملة { ءآلذكرين } بمنزلة الاستفسار في علم آداب البحث . وموقع جملة : { نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } بمنزلة المنع . وهذا تهكّم لأنَّه لا يَطلب تلقّي علم منهم . وهذا التَّهكّم تابع لصورة الاستفهام وفرعٌ عنها . وهو هنا تجريد للمجاز أو للمعنى الملزوم المنتقل منه في الكناية . وتثنية ءآلذكرين والأنثيين : باعتبار ذكور وإناث النّوعين .
وتعدية فعل : { حَرّم } إلى { الذّكرين } و { الأنثيين } وما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، على تقدير مضاف معلوم من السّياق ، أي : حرّم أكل ءآلذكرين أم الأنثيين إلى آخره .
والتّعريف في قوله : { ءآلذكرين } وقوله : { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } تعريف الجنس كما في « الكشاف » .
والباء في { بعلم } : يحتمل أن تكون لتعدية فعل الإنباء ، فالعلم بمعنى المعلوم . ويحتمل أن تكون للملابسة ، أي نبّئوني إنباء ملابساً للعلم ، فالعلم ما قابل الجهل أي إنباء عالم . ولمَّا كانوا عاجزين عن الإنباء دلّ ذلك على أنَّهم حرّموا ما حرّموه بجهالة وسوء عقل لا بعلم ، وشأن من يتصدّى للتحريم والتّحليل أن يكون ذا علم .
وقوله : { إن كنتم صادقين } أي في قولكم : إنّ الله حرّم ما ذكرتم أنَّه محرّم ، لأنَّهم لو كانوا صادقين في تحريم ذلك لاستطاعوا بيان ما حرّمه الله ، ولأبدوا حكمة تحريم ما حرّموه ونسبوا تحريمه إلى الله تعالى .
وقوله : { ومن الإبل اثنين } إلى قوله { أرحام الأنثيين } عطف على : { ومن المعز اثنين } لأنَّه من تمام تفصيل عدد ثمانية أزواج ، والقول فيه كالقول في سابقه ، والمقصود إبطال تحريم البحيرة والسّائبة والحامي وما في بطون البحائر والسّوائب .
و { أم } في قوله : { أم كنتم شهداء } منقطعة للإضراب الانتقالي . فتؤذن باستفهام مقدّر بعدها حيثما وقعت . وهو إنكاري تقريري أيضاً بقربنة السّياق .
والشّهداء : الحاضرون جمعُ شَهيد وهو الحاضر ، أي شُهداء حين وصّاكم الله ، ف { إذْ } ظرف ل { شهداء } مضاف إلى جملة : { وصاكم } .
والإيصاء : الأمر بشيء يُفعل في غيبة الآمر فيؤكَّد على المأمور بفعله لأنّ شأن الغائب التّأكيد .
وأطلق الإيصاء على ما أمر الله به لأنّ النّاس لم يشاهدوا الله حين فعلهم ما يأمرهم به ، فكانَ أمر الله مؤكَّداً فعبّر عنه بالإيصاء تنبيهاً لهم على الاحتراز من التّفويت في أوامر الله ، ولذلك أطلق على أمر الله الإيصاءُ في مواضع كثيرة من القرآن ، كقوله : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] .
والإشارة في قوله : { بهذا } إلى التحريم المأخوذ من قوله : { حرم } وذلك لأنّ في إنكار مجموع التّحريم تضمُّنا لإبطال تحريم معيَّن ادّعوه . وهم يعرفونه . فلذلك صحّت الإشارة إلى التّحريم على الإجمال ، وخصّ بالإنكار حالة المشاهدة ، تهكّماً بهم ، لأنَّهم كانوا يكذّبون الرّسول صلى الله عليه وسلم فحالهم حَال من يضع نفسه موضع من يحضر حضرة الله تعالى لسماع أوامره . أو لأنّ ذلك لمّا لم يكن من شرع إبراهيم ولا إسماعيل عليهم السّلام ، ولم يأت به رسول من الله ، ولم يدّعوه ، فلم يبق إلاّ أنّ يدّعوا أنّ الله خاطبهم به مباشرة .
وقوله : { فمن أظلم ممن أفترى على الله كذباً } مترتّب على الإنكار في قوله : { ءآلذكرين حرم أم الأنثيين } إلى قوله { إذ وصاكم الله بهذا } ، أي فيترتّب على ذلك الإبطال والإنكار أن يتوجّه سؤال من المتكلّم مشوبٌ بإنكار . عمّن اتّصف بزيادة ظلم الظّالمين الّذين كذبوا على الله ليضلّوا النّاس ، أي : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً ، فإذا ثبت أنّ هؤلاء المخاطبين قد افتروا على الله كذباً ، ثبت أنَّهم من الفريق الّذي هو أظلم الظالمين .
والمشركون إمّا أن يكونوا ممّن وضع الشّرك وهم كبراء المشركين : مثل عَمرو بن لُحي ، واضععِ عبادة الأصنام ، وأولِ من جعل البحيرة والسّائبة والوصيلة والحامي ، ومن جاء بعده من طواغيت أهل الشّرك الّذين سنّوا لهم جعل شيء من أموالهم لبيوت الأصنام وسدنتها ، فهؤلاء مُفترون ، وإمَّا أن يكونوا ممّن اتَّبع أولئك بعزم وتصلّب وشاركوهم فهم اتَّبعوا أناساً ليسوا بأهل لأنّ يُبلِّغوا عن الله تعالى ، وكان حقّهم أن يتوخَّوا من يتَّبعون ومن يظنّون أنَّه مبلّغ عن الله وهم الرّسل ، فمن ضلالهم أنَّهم لمّا جاءهم الرّسول الحقّ عليه الصلاة والسلام كذّبوه ، وقد صدّقوا الكَذَبَة وأيَّدوهم ونصروهم .
ويستفاد من الآية أنّ من الظلم أن يُقدِم أحد على الإفتاء في الدّين ما لم يكن قد غلب على ظنّه أنَّه يفتي بالصّواب الّذي يُرضي الله ، وذلك إنْ كان مجتهداً فبالاستناد إلى الدّليل الّذي يغلب على ظنّه مصادفته لمراد الله تعالى ، وإن كان مقلّداً فبالاستناد إلى ما يغلب على ظنّه أنَّه مذهب إمامه الّذي قلَّده .
وقوله : { بغير علم } تقدّم القول في نظيره آنفاً .
وقوله : { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } يجوز أن يكون تعليلاً لكونهم من أظلم النّاس ، لأنّ معنى الزّيادة في الظلم لا يتحقّق إلاّ إذا كان ظلمهم لا إقلاع عنه ، لأنّ الضّلال يزداد رسوخاً في النّفس بتكررّ أحواله ومظاهره ، لأنَّهم لمّا تعمّدوا الإضلال أو اتَّبعوا متعمّديه عن تصلّب ، فهم بمعزل عن تطلب الهدى وإعادة النّظر في حال أنفسهم ، وذلك يغريهم بالازدياد والتملّي من تلك الأحوال ، حتّى تصير فيهم ملكة وسجيّة ، فيتعذّر إقلاعهم عنها ، فعلى هذا تكون { إنّ } مفيدة معنى التّعليل .
ويجوز أن تكون الجملة تهديداً ووعيداً لهم ، إن لم يقلعوا عمّا هم فيه ، بأنّ الله يحرمهم التّوفيق ويذرهم في غيّهم وعمههم ، فالله هَدى كثيراً من المشركين هم الّذين لم يكونوا بهذه المثابة في الشّرك ، أي لم يكونوا قادة ولا متصلّبين في شركهم ، والّذين كانوا بهذه المثابة هم الّذين حرمهم الله الهدى ، مثل صناديد قريش أصحاب القليب يوم بدر ، فأمّا الّذين اتَّبعوا الإسلام بالقتال مثل معظم أهل مكّة يوم الفتح ، وكذلك هوازن ومَن بعدها ، فهؤلاء أسلموا مذعنين ثمّ علموا أنّ آلهتهم لم تغن عنهم شيئاً فحصل لهم الهدى بعد ذلك ، وكانوا من خيرة المسلمين ونصروا الله حقّ نصره . فالمراد من نفي الهدى عنهم : إمَّا نفيه عن فريق من المشركين ، وهم الّذين ماتُوا على الشّرك ، وإمَّا نفي الهدى المحض الدالّ على صفاء النّفس ونور القلب ، دون الهدى الحاصل بعد الدّخول في الإسلام ، فذلك هدى في الدرجة الثّانية كما قال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتَل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى } [ الحديد : 10 ] .