إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمِنَ ٱلۡإِبِلِ ٱثۡنَيۡنِ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ ٱثۡنَيۡنِۗ قُلۡ ءَآلذَّكَرَيۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَيۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۖ أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ وَصَّىٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَٰذَاۚ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا لِّيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (144)

وقوله تعالى : { وَمِنَ الإبل اثنين } عطفٌ على قوله تعالى : { منَ الضأن اثنين } أي وأنشأ من الإبل اثنين هما الجمل والناقة { وَمِنَ البقر اثنين } ذكر وأنثى { قُلْ } إفحاماً لهم في أمر هذين النوعين أيضاً { ءآلذَّكَرَيْنِ } منهما { حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين } من ذينك النوعين ، والمعنى إنكارُ أن الله سبحانه حرَّم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعةِ وإظهارُ كذبِهم في ذلك وتفصيلُ ما ذكر من الذكور والإناثِ وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكارِ على كل مادةٍ من موادّ افترائِهم فإنهم كانوا يحرِّمون ذكورَ الأنعامِ تارةً وإناثَها تارة وأولادَها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كلَّه إلى الله سبحانه ، وإنما عُقّب تفصيلُ كلِّ واحدٍ من نوعي الصغارِ ونوعي الكبارِ بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكارِ مع حصول التبكيتِ بإيراد الأرمِ عقيبَ تفصيلِ الأنواعِ الأربعةِ بأن يقال : قل آلذكورَ حرّم أم الإناثَ أم ما اشتملت عليه أرحامُ الإناث لما في التثنية والتكريرِ من المبالغة في التبكيت والإلزام وقوله تعالى : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } تكريرٌ للإفحام كقوله تعالى : { نَبّئُونِي بِعِلْمٍ } وأمْ منقطعة ، ومعنى الهمزةِ الإنكارُ والتوبيخُ ومعنى بل الإضراب عن التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بوجه آخرَ أي بل أكنتم حاضرين مشاهدين { إِذْ وصاكم الله بهذا } أي حين وصّاكم بهذا التحريمِ إذ أنتم لا تؤمنون بنبيٍّ فلا طريقَ لكم حسبما يقود إليه مذهبُكم إلى معرفة أمثالِ ذلك إلا المشاهدةُ والسماعُ ، وفيه من تركيك عقولِهم والتهكمِ بهم ما لا يخفى { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } فنسبَ إليه تحريمَ ما لم يحرِّم ، والمراد كُبراؤهم المقرِّرون لذلك ، أو عمْروُ بنُ لُحيِّ بنِ قُمعةَ وهو المؤسسُ لهذا الشرِّ ، أو الكلُّ لاشتراكهم في الافتراء عليه سبحانه وتعالى أي فأيُّ فريقٍ أظلمُ من فريقٍ افتروا الخ ، ولا يقدح في أظلمية الكلِّ كونُ بعضِهم مخترِعين له وبعضِهم مقتدين بهم ، والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما سبق من تبكيتهم وإظهارِ كذِبهم وافترائِهم أي هو أظلم من كل ظالمٍ وإن كان المنفيُّ صريحاً في الأظلمية دون المساواةِ كما مر غيرَ مرة { لِيُضِلَّ الناس } متعلق بالافتراء { بِغَيْرِ عِلْمٍ } متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من فاعل افترى ، أي افترى عليه تعالى جاهلاً بصدور التحريمِ عنه تعالى ، وإنما وُصفوا بعدم العلمِ بذلك مع أنهم علمون بعدم صدورِه عنه تعالى إيذاناً بخروجهم في الظلم عن الحدود والنهاياتِ فإن من افترى عليه تعالى بغير علم بصدوره عنه تعالى مع احتمال الصدورِ عنه إذا كان أظلمَ من كل ظالمٍ فما ظنُّك بمن افترى عليه تعالى وهو يعلم أنه لم يصدُرْ عنه ؟ ! ويجوز أن يكون حالاً من فاعل يُضِلّ أي ملتبساً بغير علم بما يؤدي بهم إليه { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } كائناً من كان إلى ما فيه صلاحُ حالهم عاجلاً أو آجلاً وإذا كان هذا حالُ المتصفين بالظلم في الجملة فما ظنُّك بمن هو في أقصى غاياتِه ؟