اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنَ ٱلۡإِبِلِ ٱثۡنَيۡنِ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ ٱثۡنَيۡنِۗ قُلۡ ءَآلذَّكَرَيۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَيۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۖ أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ وَصَّىٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَٰذَاۚ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا لِّيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (144)

والإبل : اسمُ جَمْع لا وَاحِد له من لَفْظِه بل وَاحِده جَمَلٌ ونَاقَةٌ وبَعِير ، ولم يَجِئ اسْم على " فِعِل " عند سيبويه{[22]} غيره ، وزاد غير سيبويه بكِراً وإطِلاً ووتِداً ومِشِطاً ، وسيأتي لِهَذا مَزيد بيان في [ سورة ] الغَاشِيَةِ- إن شاء الله تعالى - والنِّسَبة إليه إبَليّ بِفَتْح البَاءِ لئلاّ يَتَوالى كَسْرَتَانِ مع ياءَيْن .

قوله : " آلذَّكرين حَرَّمَ " آلذّكريْن : منصوب بما بَعْدَه ؛ وسبب إيلائه الهمزة ما تقدَّم في قوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] و " أم " عاطفة للأنْثَيْين على الذَّكَرَيْن ؛ وكذلك " أمْ " الثانية عَاطِفة " مَا " الموْصُولة على ما قَبْلَها ، فمحلُّها نصب ، تقديرُه : أم الَّذِي اشْتَمَلت عليه أرْحَام ، فلما التقت الميم سَاكِنَةً مع ما بَعْدَها ، وجب الإدْغَام .

قال القُرْطُبي : ووردَت المدّة مع ألف الوصْل ؛ لتفرق بين الاسْتِفْهَام والخبر ، ويجوز حَذْف الهَمْزة ؛ لأن " أم " تَدُلُّ على الاسْتِفْهَام ؛ كقوله : [ المتقارب ]

تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ *** ومَاذَا يَضيرُكَ لَوْ تَنْتَظِرْ{[23]}

و " أمْ " في قوله - تعالى- : " أمْ كُنْتُم شُهَداءَ " مُنْقَطِعة ليست عَاطِفَة ؛ لأن ما بَعْدَها جُمْلة مستقِلَّةٌ بنفسها فتُقَدَّر ب " بَلْ " والهمزة ، والتَّقْدِير : بل أكُنْتُم شُهَدَاء ، و " إذا " : مَنْصُوب ب " شُهَدَاء " أنكر عَلَيْهم ما ادَّعُوه ، وتهَكَّم بهم في نِسْبتهم إلى الحُضُور في وَقْتِ الإيصَاءِ بذلك ، و " بهذا " : إشارة إلى جَمِيع ما تقدَّم ذكره من المُحَرَّمات عندهم .

فصل فيما كان عليه أهل الجاهلية

قال المفسِّرُون : إن أهْل الجاهليَّة كانوا يقُولون : هَذِه الأنْعَام حرث حجر ، وقالوا مَا فِي بُطُون هَذِهِ الأنْعام خَالِصةٌ لذُكُورنا ، ومحرَّمٌ على أزْوَاجِنَا وحرّموا البَحِيرة والسَّائِبَة والوَصِيلَة والحَام ، وكانوا يُحَرِّمُون بَعْضَها على الرِّجال والنِّساء ، وبعضها على النِّساء دون الرِّجَال ، فلمَّا قام الإسْلام [ وبُيِّنَت ]{[24]} الأحْكَام ، جادلوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان خَطِيبُهم مَالِك بن عَوف أخُو الأحوص الخيثمي ؛ فقالوا : يا مُحَمَّد ، بلغنا أنَّك تُحَرِّم أشياء ممَّا كان آبَاؤُنا يفعلونه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّكم حَرَّمْتُم أصنافاً من النَّعم على غير أصْل ، وإنما خلق اللَّه هذه الأزْواجَ الثمانية للأكل والانْتِفَاع بها ، فمن أين جاء هذا التَّحْريم : من قِبَل الذكر ، أم من قِبَل الأنْثَى " قال : فسَكَتَ مالكُ بن عَوْف ، وتحيَّرَ فلم يَتَكَلَّم ، فلو قال : جَاءَ التَّحْريمُ بسبب الذكورة ؛ وجب أن يُحَرَّم جَمِيع الذُّكُورِ ، وإن كان بسبب الأنُوثَةِ ، وجب أن يُحَرَّم جميع الإناثِ ، وإن كان باشْتِمَال الرَّحم عليه ، فينْبَغِي أن يُحَرَّم الكُلُّ ؛ لأن الرَّحِم لا تَشْتَمِل إلا على ذَكَرِ أو أنْثَى ، أمّا تَخْصِيً الرَّحِمِ بالولدِ الخَامِس أو السَّابع ، أو بالبعض دون البَعْضِ ، فمن أين ؟

قال ابن الخطيب{[25]} - رحمه الله- : وهذا عِنْدي بعيد جداً ؛ لأن لِقَائِلٍ أن يقول : هَبْ أن هذه الأنواع- أعني الضَّأن ، والمَعْز ، والإبل ، والبقر مَحْصُورةٌ في الذِّكَر والإناث ، إلاّ أنه لا يَجِبُ أن يكون عِلَّة تَحْرم ما حَكُوا بتحريمه مَحْصُورة في الذَّكُورَة والأنُوثَة ؛ بل علة تَحْريمها لكونها بحيرة أو سَائِبَةً أو وَصِيلةَ و حَاماً أو سائر الاعِتبَارات ؛ كما أنّا إذا قُلْنَا : إنه - تعالى- حَرَّم ذَبْح بَعْضِ الحيوان لأجل الأكْل .

فإذا قيل : إنَّ ذلك الحيوان إن كان قد حُرِّم لكونه ذكرا ، وجب أن يُحرَّم كل حيوان ذكر ، وإن كان قد حُرّم لكونه أنثى ، وجب أن يُحرّم كل حيوانٍ أنْثى ، ولما لم يَكُن ، هذا الكَلاَم لاَزماً علينا ، فكذا هذا الوَجْه الَّذِي ذكَرَهُ المُفَسِّرُون في هذه الآية الكريمة ، ويجب على العَاقِل أن يَذْكُر في تَفْسِير كلام اللَّه وجهاً صَحِيحاً ، فأمّا تَفْسِيرُه بالوَجْه الفَاسِد فلا يَجُوز ، والأقْرَب عِنْدي وجهان :

أحدهما : أن يقال : إن هذا الكلام ما ورد على سَبيل الاسْتِدْلال على بُطْلان قولهم ، بل هو اسْتِفَهامٌ على سَبِيل الإنْكَار ، يعني : إنكم لا تُقِرُّون بِنُبُوَّة نبيٍّ ، ولا تعرفُون شريعَة شَارع ، فكَيْف تَحْكُمُون بأن هذا يَحِلُّ ، وأن ذلك يحَرَّمُ .

وثانيها : حُكُمُهم بالبَحِيرة والسَّائبة والوَصِيلَة والحَام مَخْصُوص بالإبل ، فاللَّه تبارك وتعالى- بيَّن أن النَّعَم عِبَارة عن هذه الأنواع الأرْبعة فما لم يَحْكُمُوا بهذه الأحْكَام في الأقْسام الثلاثة ، وهي : الضَّأن والمَعْز ، والبَقَر ، فكيف خَصصْتُم الإبلَ بهذا الحُكْم دون الغَيْر ، فهذا ما عِنْدي في هذه الآية{[26]} .

ثم قال : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا } .

أي : هل شَاهَدْتُم اللَّه حرم هذا ، إن كنتم لا تُؤمِنُون برسُولٍ ، وحاصل الكلام من هذه الآية : أنَّكُم لا تُقِرُّونَ بنبوَّةِ أحد من الأنْبِيَاء ، وكيف تُثْبِتُون هذه الأحكامَ المُخْتَلِفَةَ .

ولما بيَّن ذلك قال : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ } .

قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- : يريد عَمْرو بن لُحَيّ ؛ لأنه هو الَّذِي غير شريعة إسْماعيل - عليه الصَّلاة والسلام-{[27]} .

قال ابن الخطيب{[28]} : " والأقْرَب أن يكُون هذا مَحْمُولاً على كُلِّ من فعل ذلك ، لأنَّ اللَّفْظ عامٌّ ، والعِلَّة الموجبة لهذا الحُكْمِ عَامَّةٌ ، فالتخصيص تَحَكُّمٌ مَحْض " .

فصل في دحض شبهة للمعتزلة

قال القاضي : دلّت الآية على أنَّ الإضْلال عن الدِّين مَذْمُوم ، وذلك لا يَلِيقُ بالله- أن تبارك وتعالى- ؛ لأنه إذا ذمّ الإضْلال الَّذِي ليس فيه إلاَّ تَحْرِيم المُبَاحِ ، فالَّذِي هو أعْظَم منه أوْلَى بالذم .

وأجيب : بأنه ليس لك ما كان مذموماً منها كان مذموما من اللَّه - تعالى- ؛ ألا ترى أن الجَمْع بين العَبيدِ والإمَاءِ ، وتَسْلِيط الشَّهْوةِ عَلَيْهم ، وتمكينهم من أسْبَاب الفُجُور مَذْمُوم مِنَّا ، وليس مَذْمُوماً من اللَّه فكذا هَهُنَا .

قوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } .

قال القاضيي{[29]} : " لا يَهْديهم إلى ثوابه " .

وقال أهل السُّنَّة{[30]} : " المراد لا يَهْدِي أولئك المُشْرِكِين ، أي : لا يَنْقُلُهم من ظُلُمات الكُفْر إلى نُور الإيمانِ " ، وتقدَّم الكلام الثانِي .


[22]:سقط في ب.
[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.
[25]:قرأ بها عيسى بن عمر كما في الشواذ 129، وستأتي في سورة "ص" آية 1،2.
[26]:تقدمت.
[27]:سقط في أ.
[28]:سقط في أ.
[29]:ينظر: المشكل 1/123.
[30]:ينظر: الكتاب 3/324.