قوله تعالى : { يسألك أهل الكتاب } الآية ، وذلك أن كعب بن الأشرف ، وفنحاص بن عازوراء من اليهود قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبياً فأتنا بكتاب جملة من السماء ، كما أتى به موسى عليه السلام ، فأنزل الله عليه : { يسألك أهل الكتاب } .
قوله تعالى : { أن تنزل عليهم كتابا من السماء } . وكان هذا السؤال منهم سؤال تحكم واقتراح ، لا سؤال انقياد ، والله تعالى لا ينزل الآيات على اقتراح العباد .
قوله تعالى : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } أي : أعظم من ذلك ، يعني : السبعين الذين خرج بهم موسى عليه السلام إلى الجبل .
قوله تعالى : { فقالوا أرنا الله جهرة } أي : عياناً ، قال أبو عبيدة معناه : قالوا جهرة أرنا الله .
قوله تعالى : { فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل } . يعني إلهاً .
قوله تعالى : { من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك } ، ولم نستأصلهم ، قيل : هذا استدعاء إلى التوبة معناه : أن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم ، فتوبوا أنتم حتى نعفو عنكم .
قوله تعالى : { وآتينا موسى سلطاناً مبيناً } أي : حجةً بينةً من المعجزات ، وهي الآيات التسع .
وبعد تركيز تلك القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي عن حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر ، فيما يتعلق بالرسل والرسالات . . يأخذ في استعراض بعض مواقف اليهود في هذا المجال ، وفي مجال الجهر بالسوء الذي بدى ء به هذاالدرس ، مندداً بموقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ، وتعنتهم في طلب الآيات والأمارات منه ، ويقرن بين موقفهم هذا وما كان لهم من مواقف مع نبيهم موسى - عليه السلام - ثم مع رسول الله من بعده عيسى - عليه السلام - وأمه مريم ، فإذا هم جبلة واحدة في أجيالهم المتتابعة . . والسياق يوحد بين الجيل الذي يواجه الرسول صلى الله عليه وسلم ، والجيل الذي واجه عيسى عليه السلام . . والجيل الذي واجه موسى كذلك من قبل ، ليؤكد هذا المعنى ، ويكشف عن هذه الجبلة :
{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء . . فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ، فقالوا : أرنا الله جهرة ! فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ، ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات ؛ فعفونا عن ذلك ، وآتينا موسى سلطاناً مبيناً . ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجداً ؛ وقلنا لهم لا تعدوا في السبت ؛ وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً . فبما نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وقولهم : قلوبنا غلف - بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً - وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً . وقولهم : إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ! وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ؛ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ، ما لهم به من علم ، إلا اتباع الظن ، وما قتلوه يقيناً . بل رفعه الله إليه ، وكان الله عزيزا حكيماً . وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً - فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ، وبصدهم عن سبيل الله كثيراً ، وأخذهم الربا - وقد نهوا عنه - وأكلهم أموال الناس بالباطل ، وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً } .
لقد وقف اليهود في الجزيرة من الإسلام ونبي الإسلام ذلك الموقف العدائي المتعنت المكشوف ، وكادوا له ذلك الكيد المبيت المستمر العنيد ، الذي وصفه القرآن تفصيلاً ، واستعرضنا ألواناً منه في سورتي البقرة وآل عمران ، وفي هذه السورة كذلك من قبل - في الجزء الخامس - وهذا الذي تقصه الآيات هنا لون آخر .
إنهم يتعنتون فيطلبون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بكتاب من السماء . . كتاب مخطوط ينزله عليهم من السماء مجسماً يلمسونه بأيديهم :
{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } :
ويتولى الله - سبحانه - الإجابة عن نبيه . ويقص عليه وعلى الجماعة المسلمة - في مواجهة اليهود - صفحة من تاريخهم مع نبيهم وقائدهم ومنقذهم موسى - عليه السلام - الذي يزعمون أنهم يؤمنون به ؛ ويرفضون التصديق بعيسى من بعده وبمحمد !
إن هذه الجبلة ليست جديدة عليهم ؛ وليست طابع هذا الجيل وحده منهم ، إنما هي جبلتهم من قديم .
إنهم هم هم من عهد موسى - نبيهم وقائدهم ومنقذهم - إنهم هم هم غلظ حس فلا يدركون إلا المحسوسات . . وهم هم تعنتاً وإعناتاً فلا يسلمون إلا تحت القهر والضغط . . وهم هم كفراً وغدراً فسرعان ما ينقلبون فينقضون عهدهم - لا مع الناس وحدهم ولكن مع ربهم كذلك - وهم هم قحة وافتراء ؛ فلا يعنيهم أن يتثبتوا من قول ؛ ولا يتورعون كذلك عن الجهر بالنكر . . وهم هم طمعاً في عرض الدنيا ؛ وأكلاً لأموال الناس بالباطل ؛ وإعراضاً عن أمر الله وعما عنده من ثواب . .
إنها حملة تفضحهم وتكشفهم ؛ وتدل قوتها وتنوع اتجاهاتها ، على ما كان يقتضيه الموقف لمواجهة خبث الكيد اليهودي للإسلام ونبي الإسلام في ذلك الأوان . . وهو هو خبث الكيد الذي ما يزالون يزاولونه ضد هذا الدين وأهله حتى الآن .
( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ) . . .
فلا عليك من هذا التعنت ؛ ولا غرابة فيه ولا عجب منه :
( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا : أرنا الله جهرة ) .
ولم تبلغ الآيات البينات التي أظهرها الله لهم على يد موسى نبيهم أن تلمس حسهم ؛ وتوقظ وجدانهم وتقود قلوبهم إلى الطمأنينة والاستسلام ؛ فإذا هم يطلبون رؤية الله - سبحانه - عيانا ! وهو مطلب طابعة التبجح الذي لا يصدر عن طبع خالطته بشاشة الإيمان ؛ أو فيه استعداد للإيمان .
( فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ) . .
ولكن الله - سبحانه - عفا عنهم ؛ وتقبل فيهم دعاء موسى عليه السلام وضراعته إلى ربه ؛ كما ورد في السورة الأخرى ( فلما أخذتهم الرجفة ، قال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي . أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء . أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين . واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة . إنا هدنا إليك . . . ) .
( ثم اتخذوا العجل - من بعد ما جاءتهم البينات - ) .
عجل الذهب ، الذي صاغه لهم السامري ، مما كانوا قد أخذوه - حيلة - من نساء المصريين وهم خارجون من مصر - فإذا هم يعكفون عليه ؛ ويتخذونه إلها في غيبة موسى عنهم في مناجاة ربه ، في الموعد الذي حدده له ، لينزل عليه الألواح فيها هدى ونور .
ولكن اليهود هم اليهود . لا يفلح معهم إلا القهر والخوف :
( وآتينا موسى سلطانا مبينا ) .
والسلطان الذي آتاه الله موسى هو - في الغالب - الشريعة التي تضمنتها الألواح ، فشريعة الله سلطان من الله ؛ وكل شريعة غير شريعة الله ما أنزل الله بها من سلطان ؛ وما جعل فيها من سطوة على القلوب . لذلك تستهين القلوب بالشرائع والقوانين التي يسنها البشر لأنفسهم ، ولا تنفذها إلا تحت عين الرقيب وسيف الجلاد . فأما شريعة الله فالقلوب تخضع لها وتخنع ؛ ولها في النفس مهابة وخشية . .
{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء } نزلت في أحبار اليهود قالوا : إن كنت صادقا فائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه السلام ، وقيل : كتابا محررا بخط سماوي على ألواح كما كانت التوراة ، أو كتابا نعاينه حين ينزل ، أو كتابا إلينا بأعياننا بأنك رسول الله . { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } جواب شرط مقدر أي : إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى عليه السلام أكبر منه ، وهذا السؤال وإن كان من آبائهم أسند إليهم لأنهم كانوا آخذين بمذهبهم تابعين لهديهم . والمعنى إن عرقهم راسخ في ذلك وأن ما اقترحوه عليك ليس بأول جهالاتهم وخيالاتهم . { فقالوا أرنا الله جهرة عيانا أرناه نره جهرة ، أو مجاهرين معاينين له . { فأخذتهم الصاعقة } نار جاءت من قبل السماء فأهلكتهم . { بظلمهم } بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم ، ما يستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقا . { ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات } هذه الجناية الثانية التي اقترفها أيضا أوائلهم ، والبينات ، المعجزات ، ولا يجوز حملها على التوراة إذ لم تأتهم بعد . { فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا } تسلطا ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتخاذهم .
واختلف المتأولون في كيفية سؤال أهل الكتاب لمحمد عليه السلام أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، فقال السدي : قالت اليهود : يا محمد إن كنت صادقاً فجيء بكتاب من السماء كما جاء موسى بكتاب ، وقال محمد بن كعب القرظي : قد جاء موسى بألواح فيها التوراة فجيء أنت بألواح فيها كتابك ، وقال قتادة : بل سألوه أن يأتي بكتاب خاص لليهود ، يأمرهم فيه بالإيمان بمحمد ، وقال ابن جريج : قالت اليهود : يا محمد لن نتابعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان وإلى فلان أنك رسول الله .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : فقول ابن جريج يقتضي أن سؤالهم كان على نحو سؤال عبد الله بن أبي أمية المخزومي القرشي{[4355]} .
ثم قال تعالى { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } على جهة التسلية لمحمد عليه السلام ، وعرض الأسوة ، وفي الكلام متروك يدل عليه المذكور ، تقديره : فلا تبال يا محمد عن سؤالهم وتشططهم فإنها عادتهم ، { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } . وقرأ جمهور الناس «أكبر » بالباء المنقوطة بواحدة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أكثر » بالثاء المثلثة ، وجمهور المتأولين على أن { جهرة } معمول ل { أرنا } ، أي : حتى نراه جهاراً أي عياناً رؤية منكشفة بينة ، وروي عن ابن عباس أنه كان يرى أن { جهرة } معمول ل { قالوا } ، أي قالوا جهرة منهم وتصريحاً { أرنا الله } .
قال القاضي أبو محمد : وأهل السنة معتقدون أن هؤلاء لم يسألوا محالاً عقلاً ، لكنه محال من جهة الشرع ، إذ قد أخبر تعالى على ألسنة أنبيائه أنه لا ُيرى في هذه الحياة الدنيا ، والرؤية في الآخرة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر المتواتر{[4356]} ، وهي جائزة عقلاً دون تحديد ولا تكييف ولا تحيز ، كما هو تعالى معلوم لا كالمعلومات كذاك هو مرئي لا كالمرئيات ، هذه حجة أهل السنة وقولهم ، ولقد حدثني أبي رضي الله عنه عن أبي عبد الله النحوي أنه كان يقول عند تدريس هذه المسألة : مثال العلم بالله حلق لحى المعتزلة في إنكارهم الرؤية{[4357]} ، والجملة التي قالت { أرنا الله جهرة } هي التي مضت مع موسى لحضور المناجاة ، وقد تقدم قصصها في سورة البقرة ، وقرأ جمهور الناس «فأخذتهم الصاعقة » وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي «الصعقة » والمعنى يتقارب ، إذ ذلك كله عبارة عن الوقع الشديد من الصوت يصيب الإنسان بشدته وهو له خمود وركود حواس ، و { ظلمهم } هو تعنتهم وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه .
وقوله تعالى : قد كان من أمرهم أن اتخذوا العجل ، وذلك أن اتخاذ العجل كان عند أمر المضي للمناجاة ، فلم يكن الذين صعقوا ممن اتخذوا العجل ، لكن الذين اتخذوه كانوا قد جاءتهم البينات في أمر إجازة البحر وأمر العصا وغرق فرعون وغير ذلك ، وقوله تعالى : { فعفونا عن ذلك } يعني بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم ، ثم وقع العفو عن الباقين منهم ، والسلطان : الحجة{[4358]} .
لمَّا ذكر معاذير أهل الكتابين في إنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أعقبها بذكر شيء من اقتراحهم مجيء المعجزات على وفق مطالبهم . والجملة استئناف ابتدائي .
ومجيء المضارع هنا : إمّا لقصد استحضار حالتهم العجيبة في هذا السؤال حتّى كأنّ السامع يراهم كقوله : { ويَصْنَعُ الفُلْك } [ هود : 38 ] ، وقوله : { بل عَجِبْتَ وَيَسْخَرُون } [ الصافات : 12 ] ، وقوله : { الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] . وإمَّا للدلالة على تكرار السؤال وتجدّده المرّة بعد الأخرى بأن يكونوا ألَحّوا في هذا السؤال لِقصد الإعنات ، كقول طريف بن تميم العنبري :
بعثوا إليّ عَريفَهم يَتَوَسَّمُ
أي يكرّر التوسّم . والمقصود على كلا الاحتمالين التعجيب من هذا السؤال ، ولذلك قال بعده : { فقد سألوا موسى } . والسَّائلُون هم اليهود ، سألوا معجزة مثلَ معجزة موسى بأن ينزل عليه مثل ما أنزلت الألواح فيها الكلمات العشر على موسى ، ولم يريدوا جميع التوراة كما توهّمه بعض المفسّرين فإنّ كتاب التوراة لم ينزل دفعة واحدة . فالمراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود .
والكتاب هنا إمَّا اسم للشيء المكتوب كما نزلت ألواح موسى ، وإمّا اسم لقطعة ملتئمة من أوراق مكتوبة ، فيكونون قد سألوا معجزة تغاير معجزة موسى .
والفاء في قوله : { فقد سألوا موسى } فاء الفصيحة دالّة على مقدّر دلّت عليه صيغة المضارع المراد منها التعجيب ، أي فلا تعجب من هذا فإنّ ذلك شنشنة قديمة لأسلافهم مع رسولهم إذ سألوه معجزة أعظم من هذا ، والاستدلال على حالتهم بحالة أسلافهم من قبيل الاستدلال بأخلاق الأمم والقبائل على أحوال العشائر منهم ، وقد تقدّم بيان كثير منه في سورة البقرة .
وفي هذا الكلام تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم ودلالة على جراءتهم ، وإظهارُ أنّ الرسل لا تجيء بإجابة مقترحات الأمم في طلب المعجزات بل تأتي المعجزات بإرادة الله تعالى عند تحدّي الأنبياء ، ولو أجاب الله المقترحين إلى ما يقترحون من المعجزات لجعل رسله بمنزلة المشعوذين وأصحاب الخنقطرات والسيمياء ، إذ يتلقّون مقترحات الناس في المحافل والمجامع العامَّة والخاصّة ، وهذا ممَّا يحُطّ من مقدار الرسالة .
وفي إنجيل متَّى : أنّ قوماً قالوا للمسيح : نريد أن نرى منك آية فقال : « جِيل شِرّير يطلب آية ولا تعطى له آية » . وتكرّر ذلك في واقعة أخرى . وقد يُقبل ذلك من المؤمنين ، كما حكى الله عن عيسى : { إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن يُنزّل علينا مائدة من السماء قال اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين } إلى قوله { قال الله إنّي منزّلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنِّي أعذّبه عذاباً لا أعذّبه أحداً من العالمين } [ المائدة : 112 ، 115 ] ، وقال تعالى : { وما منعنا أن نُرسل بالآيات إلاّ أن كذّب بها الأوّلون وآتينا ثمودَ الناقةَ مُبصرةً فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلاّ تَخْوِيفاً } [ الإسراء : 59 ] .
وهم لمّا سألوا موسى أن يريهم الله جهرة ما أرادوا التيمّن بالله ، ولا التنعّم بالمشاهدة ، ولكنَّهم أرادوا عَجَباً ينظرونه ، فلذلك قالوا : { أرِنا الله جهرة } ، ولم يقولوا : ليتنا نرى ربّنا . { وجَهْرَة } ضدّ خُفية ، أي عَلَناً ، فيجوز أن يكون صفة للرؤية المستفادة من ( أرنا ) ، ويجوز أن يكون حالاً من المرفوع في ( أرنا ) : أي حال كونك مجاهراً لنا في رؤيته غير مخف رؤيته .
واستطرد هنا ما لحقهم من جرّاء سؤالهم هذه الرؤية وما ترتّب عليه فقال : { فأخذتهم الصاعقة بظلمهم } ، وهو ما حكاه تعالى في سورة البقرة ( 55 ) بقوله : { فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون . وكان ذلك إرهاباً لهم وزجراً ، ولذلك قال : { بظلمهم } والظلم هو المحكي في سورة البقرة من امتناعهم من تصديق موسى إلى أن يروا الله جهرة ، وليس الظلم لمجرّد طلب الرؤية ؛ لأنّ موسى قد سأل مثل سؤالهم مرّة أخرى : حكاه الله عنه بقوله : { ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك } الآية في سورة الأعراف ( 143 ) . وبيّن أنّهم لم يردعهم ذلك فاتَّخذوا العجل إلهاً من بعد ما جاءتهم البيّنات الدالّة على وحْدانية الله ونفي الشريك وعطفت جملة اتّخاذهم العجل بحرف ( ثمّ ) المفيد في عطفه الجمل معنى التراخي الرتبى . فإنّ اتّخاذهم العجل إلهاً أعظم جرماً ممّا حكي قبله ، ومع ذلك عفا الله عنهم وآتى موسى سلطاناً مبيناً ، أي حجّة واضحة عليهم في تمرّدهم ، فصار يزجرهم ويؤنّبهم . ومن سلطانه المبين أن أحرق لهم العجل الذي اتّخذوه إلهاً .