البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَسۡـَٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيۡهِمۡ كِتَٰبٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِۚ فَقَدۡ سَأَلُواْ مُوسَىٰٓ أَكۡبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوٓاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ بِظُلۡمِهِمۡۚ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ فَعَفَوۡنَا عَن ذَٰلِكَۚ وَءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا} (153)

{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } قال السدي : قالت اليهود : إن كنت صادقاً فجيء بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالكتاب .

وقال محمد بن كعب القرظي : قالوا : ائت بألواح فيها كتابك كما أتى موسى بألواح فيها التوراة .

وقال الحسن وقتادة : سألوه أن يأتي بكتاب خاص لليهود يأمرهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن جريج : قالوا : لن نتابعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله فلان وإلى فلان إنك رسول الله .

فعلى قول ابن جريج يقتضي أن سؤالهم كان على نحو سؤال عبد الله بن أمية الزهري ، وقيل : كتاباً نعاينه حتى ينزل ، وسمي من سائلي اليهود : كعب بن الأشرف ، وفنحاص بن عازوراء .

وقيل : السائلون هم اليهود والنصارى وسؤالهم إنما هو على سبيل التعنت .

وقال الحسن : لو سألوه لكي يتبين الحق لأعطاهم ، فإن فيما أعطاكم كفاية .

{ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة } قدروا قبل هذا كلاماً محذوفاً ، فجعله الزمخشري شرطاً هذا جوابه وتقديره : أن استكبرت ما سألوه منك ، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك .

وقدره ابن عطية : فلا تبال يا محمد عن سؤالهم وتشطيطهم ، فإنها عادتهم ، فقد سألوا موسى .

وأسند السؤال إليهم ، وإن كان إنما وقع من آبائهم من نقبائهم السبعين ، لأنهم راضون بفعل آبائهم ومذاهبهم ، ومشابهون لهم في التعنت .

وقرأ الحسن : أكثر بالثاء المثلثة بدل الباء في قراءة الجمهور ، ومعنى جهرة : عياناً رؤية منكشفة بينة .

والجهرة من وصف الرّوية .

واختلف في النقل عن ابن عباس فروى عنه : " أن جهرة من صفة السؤال ، فقد سألوا موسى .

أو حالاً من ضمير سألوا أي : سألوه مجاهرين .

وروى عنه أن التقدير : فقالوا جهرة منه وتصريحاً أرنا الله ، فيكون من صفة القول » " .

{ فأخذتهم الصاعقة بظلمهم } أي : تعنتهم وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه .

وقال الزمخشري : بظلمهم بسبب سؤالهم الرؤية ، ولو طلبوا أمراً جائزاً لما سموا ظالمين ، ولما أخذتهم الصاعقة .

كما سأل ابراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالماً ، ولا رماه بالصاعقة للمشبهة ورميا بالصواعق انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال في استحالة رؤية الله عندهم .

وأهل السنة يعتقدون أنهم لم يسألوا محالاً عقلاً ، لكنه ممتنع من جهة الشرع ، إذ قد أخبر تعالى على ألسنة أنبيائه أنه لا يرى في هذه الحياة الدنيا ، والرؤية في الآخرة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر ، وهي جائزة عقلاً ، وتقدّم الكلام في البقرة على الصاعقة .

وقرأ السلميّ والنخعي : فأخذتهم الصعقة ، والجمهور الصاعقة .

{ ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات } ثم : للترتيب في الأخبار لا في نفس الأمر ، ثم قد كان من أمرهم أن اتخذوا العجل : أي آباؤهم ، والذين صعقوا غير الذين اتخذوا العجل .

والبينات : إجازة البحر ، والعصا ، وغرق فرعون ، وغير ذلك .

وقال الحوفي : أعلم نبيه بعنادهم وإصرارهم فالمعنى : أنه لو نزل عليهم الذي سألوا لخالفوا أمر الله كما خالفوه من بعد إحياء الله لهم من صعقتهم ، وعبدوا العجل واتخذوه إلهاً .

{ فعفونا عن ذلك } أي : عن اتخاذهم العجل إلهاً عن جميع ما تقدم من مخالفتهم .

والأوّل أظهر ، لأنه قد صرح في قصة العجل بالتوبة .

ويعني : بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم ، ثم وقع العفو عن الباقين منهم .

{ وآتينا موسى سلطاناً مبيناً } أي : حجة وتسلطاً واستيلاء ظاهراً عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه ، واحتبوا بأفتيتهم ، والسيوف تتساقط عليهم ، فيا له من سلطان مبين .

/خ159